تثير مسرحية "الروهة" التي كتبها الباحث التدريسي والإعلامي والناقد عبد الحليم المسعودي عام 2019، اهتمام القارئ وفضوله على الفور. فـ"الروهَة"، أو هذا العنوان الغامض الذي يعني باللغة المندائية قلب الظلام أو الروح الشريرة، يستحضر منذ الوهلة الأولى صورة قوية ورمزية، تدعو إلى التفكير العميق في معنى العمل.
تعتبر هذه المسرحية إحدى الروائع المسرحية التي يمكن أن تقرأ دفعة واحدة، ليست لأن اللغة التي يستخدمها المسعودي تتميز، بنوع من الشعر والموسيقى مما يمنح الحوارات بعداً جمالياً، وايقاعاً غالباً ما يكون مليئاً بالاستعارات، ويخلق طابعا موسيقياً خاصاً ويعزز التأثير العاطفي للكلمات، وإنما لأن الحوارات في هذا النص تحتل مكانة مركزية وتلعب دوراً اساسياً في بناء العمل، الذي اعتمد على مرجعيات دينية قديمة واحداث حديثة صاغها المؤلف وفق خيال كتابة ملحمية امتزج فيها الخيال بالواقع لدرجة صار يتعذر علينا الفصل بينهما. لقد استعمل المؤلف اللغة بطريقة خفية وقوية للتعبير عن الصراعات والتوترات والاسئلة التي تطرحها الشخصيات وهي في خضم تيهها وحصارها المكاني والفكري والنفسي؛ حوارات غالباً ما تتميز ببعض الوحشية والعنف والرقة اللفظية أيضا، لتعكس بالتالي توازن القوى بين الأبطال وصراعها وديمومتها في باطن الأرض وليس على سطحها، لا سيما أن جميع الاحداث تدور في كهف مليء بالمتاهات؛ حوارات تستخدم الكلمات كأسلحة معرفية وأدوات للتلاعب الدرامي الذي يستكشف موضوعات الاغتراب والعزلة والبحث عن معنى في عالم بات يعاني من الأزمة، وصعوبة العلاقات الإنسانية، حيث تنخرط شخصياتها في تبادلات مكثفة وعاطفية، تسعى من خلالها لفهم نفسها، في وسط هذا العالم الذي يفترض أن تكون الكلمات فيه وسيلة اتصال، وليس عقبات أمام التفاهم المتبادل، في الكثير من الأحيان.
في مسرحية "الروهة" لعبد الحليم المسعودي، تلعب الرموز والاستعارات دورًا أساسيًا في بناء الحبكة وتمثيل الموضوعات العميقة التي يتناولها. ومن خلال هذه العناصر، يتمكن المسعودي من التعبير عن أفكار معقدة وعالمية بطريقة دقيقة وشاعرية. ومن أبرز الرموز في هذه المسرحية رمز الكهف نفسه الذي كان الدواعش يرمون القتلى والجرحى فيه. غالبًا ما يرتبط الكهف هنا بالعزلة والوحدة والبحث عن المعنى. فهو يمثل في "الروهة"، الموقع الجغرافي والحالة الذهنية في نفس الوقت. حيث تجد الشخصيات نفسها في مواجهة صحرائها الداخلية ومخاوفها ورغباتها التي لم تتحقق. وهكذا يصبح الكهف وتشعباته الملتوية مسرحًا لصراعاتهم الداخلية وبحثهم عن الحقيقة أو الأمل. استعارة قوية أخرى استخدمها المسعودي هي استعارة الظلمة في هذا الكهف الهائل المليء بالعتمة والمجهول والخوف. فالظلام أو العتمة هنا يرمزان إلى الجهل وعدم اليقين الذي يحيط بالشخصيات التي تجد نفسها غارقة في ظلام دامس، ويتوجب عليها مواجهة شياطينها وإيجاد نورها الداخلي لإرشادها. وبالإضافة إلى الشخصيات البشرية: أمير يونس وعبد الحي الترميذة وشاه بانو وصالحة التومي وكُجة مُجة، تلعب الحيوانات أيضًا دورًا رمزيًا في مسرحية "الروهة". فهي غالبًا ما تمثل جوانب من الطبيعة البشرية والعواطف المكبوتة. على سبيل المثال، قرد هبّار يدعى تركية، كلب سلوقي يدعى نرقال يتّبع سيداَ عجيباً، وقنفذ يدعى صباح يتكلم كُجة مُجة على لسانه. وهكذا تصبح الحيوانات استعارات حية، مما يسمح للمسعودي، باستكشاف الجوانب المختلفة للحالة البشرية.
بلاشك، إن نص مسرحية "الروهة" يتحدث عن اللحظة الراهنة، أو التي كانت راهنة ذات يوم واستمرت أن تكون، فالدولة الإسلامية التي كانت والتي أعلنوا عن موتها والقضاء عليها، لم تنته حقيقة، فنحن لم نر صورة واضحة لنهايتها، أو لقادتها وهم ميتون أو مقبوض عيلهم. لقد اختفوا فجأة مثلما ظهروا فجأة للوجود، وأسسوا كيانات خربت المدن والحياة والنسل البشري وتاريخه القديم، وخلفت أطفالا بلا أباء، وأمهات بلا أزواج من خلال عمليات الاغتصاب الجماعية، ونكاح المتعة الذي صار سنة للوجود؛ تركت آثارا وجراحات على خارطة الوجه البشري، لا تندمل أو ليس من السهل إزالتاها أو محيها؛ نحتت الذاكرة الجمعية بأبشع الأفعال التي لا يمكن نسيانها، بحيث لم يبق أمام المبدع سوى لملمة آثار الكوابيس التي بقيت مهملة على ناصية الطريق، لا سيما إن ما حدث في العراق، وفي باقي أجزاء الوطن، لا ينتمي إلى الحرب في شيء وإنما إلى الجريمة الدولية التي اشتركت في ارتكابها أقطاب عدة، مثلما يحدث الآن في غزة تماماً.
انشغل عبد الحليم المسعودي في هذا النص، بمسرح الصوت والصورة اللامتناهية، التي تقبض على الزمن؛ صور وأصوات، قادمة من قلب النثر، والشعر مباشرة، والأسلوب السردي التي سعت مقاربته المسرحية من خلاله إلى تفكيك الأحداث وذكرياتها وإعادة اختراعها من جديد بأسلوب تصويري، سمح لنا بالأصغاء إلى أصوات أخرى يتعذر علينا سماعها في ظروف أخرى عادية.
لجأ عبد الحليم المسعودي في هذا انص، إلى المسرح، مستنجدا به لكي يرسم خارطة لتاريخ تتفوق فيها البشاعة على الخيال؛ رسم على سطوح وجهه المتجعدة، شخصيات لازالت تتشبث بالحلم، رغم الدمار العظيم، شخصيات تحلم بأحداث وأشخاص وروائح تتعثر بها بمجرد ما تصحوا أو تستيقظ منها، ربما لأن حياتها أصبحت جزء من الكوابيس التي لا تريد أن تنتهي، أو ربما لأن الواقع والخيال أصبحا بالنسبة لها بمثابة كوابيس مستمرة، فهم مسجونين في الروهَة، التي تعني باللغة المندائية قلب الظلام أو الروح الشريرة، وهي أم عالم الظلام، شخصيات كدسها في هوة من الظلام؛ كهف مليء بالجثث المتناثرة مع حفنة من الأسرار، وبعض من الأحياء أو بالأحرى أشباه أحياء غفلت عنهم جهنم الحمراء صدفة، مثل، شخصية (أمير) ذلك الموسيقي الذي تخلى عن حبيبته (لحاظ)، أو هي التي تخلت عنه، أو ان الحب قد تخلى عنهما بعدما اكتشف هذا الأخير بذاءة البشر، وبذاءة الحياة، فهم يعشقون ولا يملكون سوى بحار من الوهم، سرعان ما تتبخر مثل قطرات من ندى أو حبات سبحة يربطها خيط عتيق أنهكته السنين، وكذلك شخصية (كُجّة مُجّة) التي تعرف عن كل شيء القليل، فتبدو كما لو أنها موسوعة من المعلومات التي شكلها الفضول الطاغي، لواحد من سكان الجنوب العراقي (الناصرية)، وبدور الموصلية، صاحبة الناب الذهبي، التي كانت بالنسبة لكُجّة مُجّة، بمثابة "عاصفة الصحراء" التي جيش من أجلها الجيوش (بوش) اللئيم، لكي يبني مدنا محمولة على متن رائحة الموت القوية، و(صالحة) التونسية، التي تصبح صاحبة لعدوتها (شاه بانو) المقاتلة الكردية، بمجرد ما تلتقي بها في زمكان أخر، بعيدا عن سطوة (داعش)، وعبد الحي الترميذة، العجوز الذي راح يعمد الجميع بصلوات من كتاب الصابئة المندائي المقدس "الكنزا ربا"، بدلا من الماء، وشخصيات وأشباح أخرى معاصرة ...
شخصيات مليئة بالرموز والأحاجي والعبث؛ مليئة بالتقوى والإلحاد، بالقهر والمسرات والشعوذة، بالسخرية والوقاحة والبذاءة، رسم لها عبد الحليم المسعودي مسارات متوازية، ولكنها في لحظات عبثية تلتقي، وتتعاكس، لكي ترسم صورا تسير بتؤدة مع فن الروي الذي يصبح فيه الكلام فعل والوصف اصطدام، والاستعارة حقيقة معاشة لا يمكن إغفالها أو تجنبها، لا سيما نحن أمام نص يخاطب لحظتنا الراهنة من خلال غواية الفكاهة المرة، والكثافة الشعرية العالية التي لا تخلو في الكثير من الأحيان من الكتابة البرازية- نوع من الأدب المتعلق بالبراز والغائط، وبالموضوعات الداعرة إجمالا-، وعصا المسرح السحرية التي تدعو، إلى إعادة النظر في كتابة التاريخ وتفسيره، انطلاقا من فكرة أن المسرح نفسه، كممارسة، يمكن أن ينظر إليه باعتباره (شاهدا)، على صنع التاريخ، لا سيما ان مفهوم (الشهادة) متأصل في مفهوم الذاكرة، وعملية التذكر، والنسيان. هذا بالإضافة إلى أن بإمكان المسرح أن يعطي معنى للتاريخ، من خلال تشكيل فهما جديدا للماضي. لهذا قرر عبد الحليم المسعودي، في نصه، اختراق ظلمة الليل، ومحاربة الظلام الذي يحاول اعتراض الضوء، من خلال تساؤلاته عن حصة كل من الخيال والحلم والوهم والواقع الذي عاشه أبطال هذه المأساة المعاصرة؛ حاول ان يتعلم من خلال كتابته لهذا النص، ان ينظر إلى الأشياء المكتوبة من قبل، لاسيما إن تعلم الرؤية، وفقا لديدرو، لا يعني تعلم لغة جديدة فحسب، وإنما هي شبيهة إلى حد كبير بعملية تعلم الكلام، والنطق للمرة الأولى. لهذا كانت شخصياته تقول الكلام مثلما لو أنها تهمس بالآذان بصوت عال، لكي تكشف عن منشأ اللغة، وعن النشاط الذي هو جزء لا يتجزأ من تجربة تقاسم الإحساس، ودقة الوصف وحقيقة الأفعال، والعثور في كل ما هو قديم، على ما قبل الكلمات، وما قبل اللغة، للاستماع إلى نبض الروح نفسها، أليس هذا ما كان ينادي به آرتو؟
وفي الختام، فإن الحوارات واللغة في مسرحية (الروهة) لعبد الحليم المسعودي عنيفة وشاعرية وعميقة في آن واحد، وتسمح في تسليط الضوء على الصراعات والاسئلة التي تطرحها الشخصيات، مع تقديم انعكاس للحالة الإنسانية المتدهورة. وهذا الاستخدام الماهر للغة يجعل من هذا النص تحفة مسرحية حقيقية. وبشكل عام، فإن بنية مسرحية "الروهة" معقدة ومدروسة، مما يوفر للمشاهد/القارئ تجربة مسرحية عميقة وعاطفية. تسمح فصولها المتميزة باستكشاف متعمق لموضوعات المسرحية وشخصياتها، مما يوفر تحليلا متعمقا للحالة الإنسانية.
عنوان الكتاب: الروهَة
مسكيلياني للنشر والتوزيع-تونس العاصمة
عدد الصفحات220
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق