مجلة الفنون المسرحية
يُعد النقد المسرحي أصعب من النقد الأدبي، لأنه يتعامل مع خطاب مركّب من مجموعة عناصر أدبية وفنية بصرية وسمعية، في حين أن النقد الأدبي يتعامل مع خطاب أداته اللغة فقط.
وقد أصبح النقد المسرحي في العقود الأخيرة أكثر تعقيدا إثر انفتاحه على المناهج النقدية والعلوم الإنسانية الحديثة، وصارت تنهال عليه معارف ومفاهيم ومصطلحات شتى، أخذ بعض النقاد يوظفها في مقارباته (التنظيرية والتطبيقية).
لكن إشكالية كبيرة نتجت عن ذلك في قسم غير قليل مما يُصنف ضمن هذا النوع من النقد في الثقافة العربية، أبرزها غياب الدقة، والقصور المعرفي والمفهومي في استخدام المصطلح، وجهل دلالته أحيانا، والخلط بينه وبين مصطلح آخر له اشتغاله في حقل آخر غير الحقل الذي يشتغل فيه الناقد، أي توظيفه في منهج نقدي غير المنهج الذي تشكّل في رحمه، علما أن المصطلح وثيق الصلة بالمنهج، ويفقد شرعيته خارج توظيفه، ما جعل من تلك المصطلحات، في أحيان كثيرة، مجرد كيانات بلا ذاكرة ولا تاريخ ولا مستوى معرفي.
وأعزو شخصيا هذه الإشكالية إلى ضعف ثقافة بعض ممارسي النقد المسرحي الطارئين، ومحدودية خبرتهم، فباتوا يخبطون خبط عشواء في مقالات أو متابعات صحفية للتجارب المسرحية التي يشاهدونها، تشوبها نزعة انطباعية أو معيارية، مما أدى إلى الإساءة إلى تلك التجارب أكثر من الإسهام في تحليلها أو استكشاف جمالياتها.
وإزاء ذلك أرى أن ممارسة النقد المسرحي تقترن بجملة معارف وخبرات لا بد من توافرها لدى الناقد المسرحي، أهمها ثلاثة: أولها المعرفة المنهجية، فالمنهج النقدي، بتعدد مشاربه، أداة مساعدة على سبر أغوار الخطاب المسرحي، يقوم على آليات وأدوات إجرائية تتحقق مع التجربة المسرحية المراد استنطاقها، أو تحديد القراءة النقدية المناسبة لها.
وهذا لن يتحقق إلاّ من خلال الممارسات والتجارب النقدية المتواصلة التى يكتسبها الناقد عبر تمرّسه على مختلف التجارب المسرحية. لكن المنهج النقدي يجب أن يقترن برؤية نقدية مترشحة عن عالم الخطاب المسرحي، فلا قيمة لرؤية نقدية لا تستند إلى منهج، ولا قيمة نقدية لمنهج منفصل عن الرؤية النقدية، التي هي خلاصة الفهم الشامل للفعالية الإبداعية في نواحي نسجها وبنيتها ودلالتها وتأويلها.
ثانيها الأهلية والكفاءة، فالناقد يُفترض أن يكون ذا ثقافة واسعة، وقدرة على تحليل النص المسرحي والعرض، وإذا ما لجأ إلى التأويل فيُشتَرط أن يكون تأويلا يحترم الخلفية الثقافية للنص والعرض، ويراعي نواياهما وفق قواعد وضوابط تأويلية يمكن من خلالها الحسم في صحة التأويل، وليس على وفق رغبات الناقد، أو استنطاقهما استنطاقا موضوعيا من خلال الأنظمة العلاماتية والشيفرات التي يقومان عليها.
وبتعبير آخر ألا يكون تأويل الناقد تأويلا حرا يفتقر إلى ضوابط تأويلية، ولا يحترم مقاصد النص والعرض، كما يقول أومبرتو إيكو. أما الشرط الثالث فهو امتلاك الناقد المسرحي خبرة وممارسة مسرحية، ذلك أن الناقد المسرحي القادم من خشبة المسرح، والعارف بأسرارها، ومعاناة المشتغلين في فضائها أكثر كفاءة في مقاربة التجارب المسرحية من الناقد القادم من عالم الأدب.
فالأول أكثر دراية بأدق تفاصيل التجربة المسرحية من المخاض إلى الولادة إلى النضج. إنه يدرك كيف يقرأ المخرج النص المسرحي، ويجري تعديلات عليه، ويؤوله ويجسّده على الخشبة مضفيا عليه حياة جديدة وتكوينات مشهدية وحركية وجماليات نابعة من حساسيته ومخيلته، وكيف يشكّل رؤيته ويصوغها من خلال جميع مكونات العرض المسرحي، وكيف يمكن أن يعبث به ويخونه، أو يحافظ على كينونته باشتغال دراماتورجي واع وذكي، وكيف يفهم الممثل الشخصية التي يؤديها، ويصنع له حضورا ويشد المتلقي إليه بأدائه المتناغم مع طبيعة الشخصية، وأداء أقرانه في العرض.
إن افتقار الناقد المسرحي العربي إلى تلك المعارف والخبرات أدى، حسب رأيي، إلى شيوع كتابات ومتابعات صحفية يشوبها القصور والإنشائية، والجهل أحيانا، في قراءة التجارب المسرحية، إذ تطغى عليها الانطباعية والأحكام القيمية والمعيارية المتعسفة، القاطعة كحد السيف، والتعليقات والشروح المبسترة والمجاملة والمحاباة أو التسقيط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق