في حوارٍ أجريتُه معه عام 2014، وَنَشَرَتْه، وقتَها، جريدة "الرأي" الأردنية، وفي إطار إجابته عن سؤال حول مدى التأثير والتأثّر بين تجربته النضالية ومسيرتهِ الإبداعية، قال الكاتب والمخرج والممثّل المسرحيّ الفلسطينيّ/ الأردنيّ غنّام غنّام: "أعتزّ بتجربتي النضالية، وأكاد أجزم بأن غسان كنفاني كان بوصلتي لذلك. علّمتني تجربتي النضالية معنى الالتزام، والانضباط. علّمتني أنْ لا تهاوُن، ولا تنازُل، أنْ أكتب أغنية يغنيها الناس وهم لا يعرفون مؤلّفها، أنّ (البالة) مع العزّة أكرم من أي شيء. علّمتني كيف أكون كاتبًا وفنانًا، ويدافع عني، في الوقت، سائق تاكسي ويصبح رفيقي. ورغم ذلك فإن أوّل فرقة أسّسناها من خلال رابطة الكتاب الأردنيين عام 1985 (فرقة موال) كانت تضم فنانين حزبيين من تنظيمات عدة، وكانت جملتي الواضحة لهم: "حين تدخلون المسرح إخلعوا التنظيمات على عتبة الدخول"، لا لشيء إلا لأن المسرح يوحّدنا جميعًا، ولأنّهُ طليعيٌّ، شموليٌّ وإنسانيّ".
وواقع الحال، في هذا الإطار، أن مسيرة حياة غنّام، بفنّها وإبداعِها ومواقفِها وانحيازاتِها وخياراتِها السياسية، كانت في مجملِها نضالًا بِنضال؛ ناضلَ كي يكون له مكانَهُ المُقدّر فوق منصّات المسارح، كي يؤمّن خبزه وخبزَ عائلته كفافَ أيامِهم. ناضل كي تنتصر الكلمة على الرصاصة، ويتحرر المضطهدون من ثِقَلِ الجسدِ الامبرياليِّ النازِّ فوقهم بكلِّ رائحتِه الكريهَة.
على ما تقدّم، تميّزت مسيرة الفنان/ الكاتب/ المناضل، بغزارةِ إنتاج، وحرارةِ حركةٍ دؤوبةٍ لا تعرف التوقّف، فإذا به يتنقّل بين مدارس أبي الفنون جميعها؛ كلاسيكيات العلبة الإيطالية، مسرح الستين الكرسي، الشارع، مسرح الجلسة، الفُرْجة ("عنتر زمانه والنمر"، "الزير سالم"، "كأنك يا بو زيد"، "عبد الله البري"، "معروف الإسكافي"، "آخِر منامات الوهراني" و"غزالة المزيون")، المسرح التفاعلي، المسرح الشعبي بمختلف تجلياته وبعده الحكواتيّ، وليس أخيرًا المونودراما (مسرح الممثل الواحد، أو الممثلة الواحدة).
في هذه العُجالة، أود التركيز على أعمال غنّام المونودرامية التي تنوّعت بين التأليف والإخراج والتمثيل، كما في "سأموت في المنفى"، و"بأمِّ عيني"، أو التأليف والتمثيل وتركِ الإخراج لغيرِه، كما في مونودراما "عائد إلى حيفا" مع المخرج د. يحيى البشتاوي(*)، أو التأليف والإخراج وترك التمثيل لغيرِه، كما في مونودراما "أنا لحبيبي"، من تمثيل الفنان المسرحيّ القدير خالد الطريفي. وأخيرًا، هنالك المونودراما التي كتبها غنّام وَبَقِيَتْ حبيسةَ الأَدْراج، كما في مونودَراماه "كمان".
بالتالي، يصبح رصيد غنّام من الأعمال المونودرامية خمسة، جلّها من تأليفه، وبعضها، كما أسلفنا أعلاه، ليست من تمثيله، أو ليست من إخراجه.
الملاحظة الأولى أن عملين من تأليفه وإخراجه وتمثيله هما آخر عملي مونودراما له: "سأموت في المنفى" (2017)، و"بأمّ عيني/ 1948" (2022). أما الملاحظة الثانية فهي أن غنّام، وبسببِ عشقِهِ الثابت لِمسرح الفُرْجة، خَلَطَ في عمليْه الأخيريْن، وحتى في العمل الذي ترك إخراجه لغيرِه "عائد إلى حيفا" (2015)، بين ركائز المونودراما واشتراطاتها المسرحية، وبين مسرح الفُرجة وسماتِه وخصائِصِه، وسهولةِ تفاعل الجماهير في أماكن وجودِها معه. أمّا الملاحظة الثالثة، فهي أن العملين الأخيرين، اللذين قلنا إنهما لغنّام بمختلف تفاصيلهما، كشفا رغبة دفينة لدى صاحبهما بالاقتراب، ولو تدريجيًا من سيرته الذاتية، من يومياته في أريحا وجرش وعمّان وأماكن أخرى، ناهيكُم عن أن العمل الأخير "بأمّ عيني" هو سرد تفصيلي بالدقيقة لتجربة (أو لِنقل مغامرة) دخوله الأراضي الفلسطينية التي اُحتلّت في عام 1948: الناصرة وعكا وحيفا وترشيحا وتلّ الفخار، وغيرها.
وحين نقول سيرة شخصية فنحن لا نستطيع، في حالة غنّام، مهما حاولنا وحرِصنا، أن لا نرى في تلك الأعمال سيرة وطن، وآلام وطن، وسرد تفاصيل علاقته الشخصية مع ضياع الوطن.
ولخصوصيةِ العمليْن الأخيريْن، وملامح الاتكاء، فيهما، على خبرة صنعتها عشرات السنين من الوفاء المسرحيّ، وتبنّيه عبرهما نمطًا مسرحيًا لا نبالغ إن قلنا إنه نمط غنّام غنّام، أو، حتّى، مسرح غنّام غنّام، فإنني سوف أركّز عليهما أكثر من الأعمال الثلاثة الأخرى.
"سأموت في المنفى"
في بدايات كتابتها في عام 2011، ومن ثم بعد أخذها وضعها النهائي في 2017، كانت مونودراما "سأموت في المنفى" تحمل عنوانًا أطول قليلًا هو: "سأموت في المنفى/ بدل فاقد"، ولكن يبدو أن غنّام لتدعيم البساطة والابتعاد عن أي حِمْلٍ زائد، آثر، خلال عروضها التي جاءت، بالطبع، بعد كتابتها، الاكتفاء بالعنوان الذي أصبح دارجًا وعُرِفَ العرضُ به: "سأموت في المنفى".
"ناضلَ غنّام غنام كي يكون له مكانَهُ المُقدّر فوق منصّات المسارح، كي يؤمّن خبزه وخبزَ عائلته كفافَ أيامِهم"
الاستهلال الجاذب المتقاطع مع الوعي الشعبي واللهجات الدارجة، الذي اختاره غنّام للعمل، يشكّل مدخلًا تعريفيًا لافتًا، يمكن أن يبني عليه المتلقّي ما سوف يلحق به من مشاهد وحوارات و(دردشات) وحكايات: "الله يمسيكم بالخير ويمسي الخير فيكم، لأنه الإنسان بيحلى بِالأيام والأيام بتحلى بِالإنسان، وأحلى الناس هم البَني آدمين، وأحلى البَني آدمين هم الناس، ومساء الخير ع البني آدمين".
استهلالٌ توريطيٌّ لمّاح، يعي الأثر الذي تجلبه هكذا بداية، وتحققه هكذا لهجة. نحن، إذًا، أمام عرضٍ مسرحيٍّ يُشبِهنا كثيرًا، ويسْتخدم مفرداتنا اليومية، لا بل حتى يعود بِنا إلى روح الحكواتيّ الذي كان في زمن مضى نكهةَ السهرات، وضرورةَ الأُمْسيات، وبهجةَ الحياة.
(في "عائد إلى حيفا" لا يختلف كثيرًا الاستهلال الذي بدأ به العرض عن استهلال "المنفى"، واستهلال "بأم عيني" كما سيتبيّن لنا لاحقًا. يستهل في "حيفا" بالقول: "الله يمسيكم بالخير ويمسّي الخير فيكم، وبنحييكم كل واحد باسمه، وإنشالله يا حبايب ما تذوقوا حسرة الحبيب، ولا حسرة الولد، وإنشالله زيت الفرح بظل في خوابيكم عامر، والهَنا في دياركم داير، والمجد في قلوبكم خالد").
بالعودة إلى "سأموت في المنفى"، وبعد الاستهلال الذي أشرنا إليه، ينتقل غنّام مباشرة بقولِهِ للناس المحيطين به، ليس على طريقة العلبة الإيطالية والجدار الرابع، ولكن على طريقة أي جلسة غير مخطط لها، مقاعد على (دايِر ما يدور) تقيم حلقة حول رجل يتحدث، ويتحرك، وَيَتَمَسْرَح، من دون أن تكون تلك المَسْرَحَةُ ثقيلةَ الظِّل، مدجّجة بالأقنعة، أو تَلاوين الإضاءة المبالغ فيها، أو (معْجوقة) بالدّيكورات والاكْسسوارات، إنها مسرحة تحققها المشاعر، التشخيص العميق لقضية ما، بعض الحركة المدروسة، أو الكوفيّة الموضوعة حول العنق ويعرف الجميع دلالاتها، بِقولِهِ لهُم: "سأقدّم لكم الليلة عرض "سأموت في المنفى"، وهو عرض مسرحي لا أصنّفه مونودراما، فلست أدري إن كان كذلك، ما يهمّني أنه عرض مسرحي، حكايته مستلّة من السجل العائلي والذاتي لغنام غنام، سأتحدّث عن أبي صابر، وأمّي خديجة، وأخي فهمي، وأخي ناصر، وآخرين".
القضية الفلسطينية بمختلفِ أوجاعها وآلامها وآمالها حاضرة في أعمال غنام
ها نحن انتقلنا من استهلالٍ مفعمٍ بِالبساطة والتلقائيّة، إلى مستوى يقترب من النقد المسرحي حول تصنيف عمل مسرحي ما، ويرْتقي إلى مصداقيةٍ شفيفةُ التجليّات: أنا لا أدّعي أن ما سوف تشاهدونه مونودراما، ولست أدري بصدقٍ إن كان مونودراما، أو لا، ولكنه، في نهاية المطاف، مسرح، وهو مسرحي أنا، بوْحي أنا، عن أبي وأمي وإخوتي، عن طفولتي وصباي وشبابي ومختلف تبدّلات كِتاب حياتي.
على هذا المنوال، يواصل عرضه، وتتبدّل تعابير وجهه، ونبرات صوته، وتتصاعد، أو ترتاح قليلًا، نبضات قلبه، فإذا بالعرض مونودراما جماعية جمعية، يكاد يصرخ أي واحد من الجالسين، أو أية واحدة من الجالسات، أستطيع أنا أن أقف مكانك وأتلو سِفْر أيامي، وما كان من الزمان معها ومعي. لكن سرعان ما يتبيّن للمتحمّس الذي كاد يطلب دوره في العرض، أنه أمام فنٍّ مسرحيٍّ خالِص، لا بد لمن يرغب أخذ دوره فيه، أن يكون مؤهّلًا، مالكًا أدوات هذا الفن، وقادرًا، وهو الأهم، على تطويعها لِما يريد، لا الانْحكام إلى ما تريد تلكُم الأدوات. ثم يعيد ظهره إلى الوراء قليلًا، ويقول بينه وبين نفسه، لا بد أن هذا ما يقولون عنه إنه السهل الممتنع.
ولأن القضية الفلسطينية بمختلفِ أوجاعها وآلامها وآمالها، هي الحاضرة في هذه المونودراما، وفي سابقتها "عائد إلى حيفا"، ولاحقتها "بأمّ عيني/ 1948"، فإن تجليات التفاعل معها تأخذ منحنيات ليست خاضعة لحسابات ضبط النفس، والحرص على شكل ظهورنا أمام الآخرين، فإذا بدموعٍ قد تسيل من دون سابق إنذار، وإذا بأشجانٍ تفجّرها مواقف الأعمال، وحواراتها، وسيرورة تطوّرها.
"بأمِّ عيني"
من قرارِ "سأموت في المنفى" يتحقق جوابُ "بأمِّ عيني" (قرارٌ وجوابٌ كما في الموسيقى)، ففي الأخيرة، وبعد أن يستهلّ بما استهلّ به الأولى: "الله يمسّيكم بالخير ويمسي الخير فيكم، لأنه الإنسان بيحلى بالأيام والأيام بتحلى بالإنسان، وأحلى الناس هم البني آدمين، وأحلى البني آدمين هم الناس، ومساء الخير ع البني آدمين"، يتكئ مباشرة على "سأموت..." قائلًا للجمهور المتحلّق حوله إنه وخلال تقديمه عام 2017، مسرحيته "سأموت في المنفى" في مدينة رام الله الفلسطينية المحتلّة، باح لبعض الأصدقاء أمنيته التي يعرف استحالتها حول زيارة المدن الفلسطينية التي اُحتلّت في عام 1948، خصوصًا أن ابنتيه تقيمان هناك في مدينة ترشيحا، فإذا بصديقة له تخبره ما جعل دقّات قلبه تُسمع في أقاصي الأرض: "رح ندخلك لجوّا، ما تقلقش، بنرتّبها".
"بأم عيني" هي، إذًا، وبهذا المعنى، بنتُ "سأموت في المنفى"، أو لعلنا نقول إن الأولى محرّضة على الثانية، نجاحُها محرّض، محتواها ليس من النوع الذي نقفل عليه فجأة، هو محتوى ومعنى لا يزول إلا بِزوالِ الاحتلال، عودة النبض المقاوم في مدن الضفة، وكل فلسطين، سبب آخر لِمواصلة هذا النوع من المسرح في المعنى والمبنى.
خالد الطريفي في مونودراما كتبها وأخرجها غنام غنام
مناماتُ المنفى
تتجلّى مونودراميّات غنّام غنّام بوصفها حفرًا عميقًا في موجبات الوجود، وجَسَّ نبضٍ جريئًا لِمُمكنات الفن المسرحي، واختبارَ لا محدوديةِ آفاقِهِ. وفي أربعةٍ من أعمالهِ المونودراميّة تحضر فلسطين بوصفِها جوابَ السؤال، ولحنَ الغائبين، وحتى في "أنا لحبيبي" فإن الإسراف في الحب لا يختلف عن التقطير فيه، نهايةٌ داميةٌ بِلا رُتوشٍ ولا تلطيفِ أجواء، حيث (دزدمونة) يمكن أن تكون الوطن، أو المعْشوقة، أو الخيانة، أو النَّبتَ الحرامَ والنَّبضَ الحزين، وهي معانٍ لا تبتعد كثيرًا عن جرحِ فلسطين. وأما في "كمان" فإن السيمفونية تنساب من عمّان إلى رام الله، من دون أن يؤثّر فيها تقطّع أوْتارِ كمنجاتِها. إلى حيفا يعود مرّة: "عائد إلى حيفا"، ومرّة إلى عكّا والبلاد، يظلُّ يواصلُ عودةً افتراضية، أو حقيقية، إلى بلاده السّليبة، فهل بغيرِ هذه العودة المُرتجاة، يمكن أن يشعل الطريدُ من أرضه مناماتِه؟ وهل يحلم اللاجئ بغيرِ العودة إلى الوطن، العودة التي لا يفتّ من عَضُدِ التمسّكِ بها شيءٌ، ولا ظرفٌ، ولا كائنٌ مَن كان.
هامش:
(*) إضافة إلى مونودراما "عائد إلى حيفا"، التي أعدّها ومثّلها غنّام غنّام، من إخراج د. يحيى البشتاوي، فإن المخرجة اللبنانية لينا أبيض أعدت وأخرجت "عائد إلى حيفا" بعد أن حوّلتها إلى مسرحية (مجموعة من الممثلين)، وليس مونودراما من ممثلٍ واحدٍ فقط، وأعطت غنّام فيها دور البطولة، علمًا أن مونودراما غنّام، أو مسرحية أبيض، مُقْتبسانِ كلاهُما، عن رواية الشهيد غسان كنفاني (1936 ـ 1972) التي أصدرها في عام 1970، حاملةً الاسم نفسَه.
شارك هذا المقال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق