تصنيفات مسرحية

السبت، 20 يناير 2024

مسرحية " فرشاة في الظلام " تأليف د.مصطفى عطية جمعة

مجلة الفنون المسرحية

الكاتب  د.مصطفى عطية جمعة 
مسرحية " فرشاة في الظلام " تأليف د.مصطفى عطية جمعة



الإهداء



إلى الفنان التشكيلي الروسي بوريس بريجنكوف 

وقد كانت أنامله المتحدية نموذجا ملهما


وإلى روح الشاعر / محمد عبد المعطي 

قد يستوي الموت مع الحياة لمن يرضى بالضعة

وقد يفجّر الموت الحياة لمن أراد



                


الزجاج يغلف الذات





المشهد الأول


( صالة فسيحة في إحدى الشقق السكنية الحديثة ، حيث نرى لوحات فنية تحتل أركان الصالة ، وتحمل توقيعا متكررا بأحرف إنجليزية باسم " ساهر المدني " ، وفي الصالة أثاث فخم بسيط العدد ، يشمل كراسي وثيرة ، وطاولات أنيقة ،وفي الركن الأيسر جهاز حاسوب ، وتلفاز ذو شاشة مسطحة كبيرة الحجم ، يعرض عليها قنوات أوروبية ، وفي الركن الأيمن مرسم منسق : مسند للوحات وبجانبه طاولة عليها " باليت " الألوان ، ومقعد طولي معدني ، وهناك أضواء خافتة في الأركان ، بينما هناك ضوء مسلط وسط الصالة فيما يكون ساهر مضطجعا على كنبة وثيرة مهيأة للقراءة ، يقلب قنوات التلفاز ، فيما تعد زوجته الشاي في فناجين فخمة مزركشة برسوم أنيقة ) 

الزوجة ( تقدم الشاي لزوجها ) : الشاي يا حبيبي . 

ساهر  ( يأخذ الفنجان ويتأمل زركشته ثم يرتشف منه ) : شكرا يا غدير . هل 

          هذا طاقم فناجين جديد ؟ 

غدير  :  نعم ، ما رأيك في ذوقي ؟

ساهر :  دائما أنت رائعة في اختيارتك . 

غدير  ( مبتسمة ) : لأنني زوجة فنان تشكيلي . حقا ما رأيك في هذه النقوش ؟

ساهر ( يعيد تأمل الفنجان والطبق الصغير أسفله ) : أجمل ما فيها أنها زهور 

        وطيور وكأننا في حديقة رحبة الأرجاء . 

غدير : تعشق الطبيعة كعادتك .

ساهر ( بشاعرية ) : بالطبع ، أنا ابن الريف ، وريف بلادنا : شمس ساطعة ، 

        وغيوم نادرة ، وألــوان زاهية ، ووجوه لفحتها الشمس فتلونت بألوان 

        قوس قزح .

غدير : كلماتك لوحة منطوقة . 

ساهر ( بضحك ) : أشكــرك ، ولكن ألم تلاحظي أنك دائمة الشراء للتحف 

        والأواني ، لقد تضخمت الخزانات في غرفة المائدة  ؟

غدير ( متجاهلة ملاحظته ) : ما رأيك لو كنت أنت مصمم هذه التحف ؟ 

ساهر : هل ستعودين لنغمة السوق ودنيا المصانع ؟ 

غدير : أنا أغار من هؤلاء المصممين الذين لا يملكون مثل أصابعك ولا رؤاك 

       المبتكرة . 

ساهر : إنني أفضل أن أحيا طليقا ، كما تعلمين ، فإن طلاقتي جعلت اسمي رنانا 

        وأصحاب المصانع يتسابقون على شراء حق عرض لوحاتي في تحفهم . 

غدير  ( بمجاملة ) : طبعا يا حبيبي ، معارضك دائما تحدث ضجة في البلد . 

ساهر  ( مستمتعا بالكلام مدحًا فيه ) : انظري يا غدير إلى تسابق الصحف 

        والمجلات ومراسلي القنوات إلى تغطية معرضي . 

غدير ( بفخر ) : ويكفي أنهم يتسابقون على شراء لوحاتك يا حبيبي . 

ساهر : أنا الآن اسم رنان له ثقل على الساحة ، ولست في حاجة إلى أن أعمل 

        تصميمات السجاد والملابس والأواني . 

غدير : ( مصدقة على كلامه )  أنا أفخر بأنك زوجي . 

ساهر : ( يعود لمشاهدة التلفاز )  أنا سعيد أنني عشت في هذا العصر . 

غدير : ( مستفهمة )  كيف ؟ 

ساهر : أشعر أنني أعيش العالم كله ، وسط منجزات التكنولوجيا : تلفــزيون 

        وكومبيوتر وإنترنت وألف قناة فضائية . 

غدير : آه ، صح . 

ساهر : ( مستكـملا )  إن " إيميلي " يستقـبل عشـرات الرسائل يوميا، من       

       أنحاء  العالم ، تجربتي تحمل تميزا كبيرا ، جذبت أنظار العالم . 

غدير : كانت خطوة موفقة منك يا ساهر أنك وضعت صور لوحاتك كلــها في 

        موقع على الإنترنت . 

ساهر ( مرددا ) : www. Saher Madny .com  ، فيه آلاف الزيـــارات 

        شهريا. 

( يصمت ثم يكمل )

ساهر : تخيلي يا عزيزتي أنني لو كنت أعيش في زمن سابق بمئة سنة أو خمسين         

       سنة مثلا ، هل كنت سأجد هذه الشهرة ، في البلد وخارجه . 

تغريد ( مؤكدة ) : لا طبعا ، أنت في عصر العولمة وتفجر ثورة الاتصالات . 

        وأيضا فإن لوحاتك لا يمكن سرقتها ، فهي معروفة ، وموجود أمام كل 

         لوحة اسم من اقتناها . إنه موقع رائع يا ساهر . 

ساهر  ( وهو يفرك عينيه بتعب ) : أشعر أنني محظوظ ، وقد استفدت كثيرا من 

         التكنولوجيا ، والغريب أن الفنانين زملائي لا يفهمون حتى الآن هــذا 

         التوجه . 

         ( يغيّر الحديث وهو يغلق عينيه ثم يفتحهما بألم ) : آه ، آه ، عاد الألم 

         لعيني من جديد . 

تغريد : ماذا بك يا ساهر ؟ 

ساهر  ( متألما ) : عيناي تؤلماني بشدة ، المناظر تتراقص في نظري . 

تغريد : أنت مقصر في صحتك يا ساهر ، قلت لك اذهب للطبيب ، ولا فائدة ، 

       أنت تشتكي من عينيك من فترة . 

ساهر : الإرهاق هو السبب . 

تغريد : طبعا ، أنت بين التلفزيون والكومبيوتر . 

ساهر : هكذا الحياة العصرية ، شاشات زجاجية . 

تغريد : حتى القراءة ، تركت الكتب والمجلات ، وتجلس بالساعـــات على 

        الكومبيوتر والإنترنت . أنا أغار من الكومبيوتر . 

ساهر : يا تغريد ، يا حبيبتي ، لا يمكن أن أكون إنسانا عولميا دون تلفـزيون 

        وإنترنت وموبيل . انتهى عصر الأوراق . 

تغريد : معقول ، وهل سينتهي عصر الزيت والقماش ؟!

ساهر : آه ، تقصدين ..

تغريد : طبعا ، أقصد أنك لم تعد ترسم بالفرشاة ولا بيدك ، انصرفت منذ فترة إلى 

       رسومات الكومبيوتر . 

ساهر : إنها المستقبل . 

تغريد : كنت دائما ، تحادثني وأنت تمسك الفرشاة ، وفي اليد الأخرى الباليت ... 

        رحم الله هذه الأيام . 

ساهر : معقول يا تغريد ، تشعريني بالذنب لأنني أساير موجات الحداثة التشكيلية 

        في العالم . في أمريكا ، الكل يعمل ببرامج الكومبيوتر في الرسم . 

تغريد : ولكنك تقضي يومك أمام هذه الشاشة الزرقاء ، تعبت منها . 

ساهر : آه ، فهمت سر ثورتك ، يا حبيبتي ، هذه ضريبة عصرنا التكنولوجي . 

        ولا تنسي أنك مشغولة عني بعلاقاتك الاجتماعية الواسعة ، وكما تقولين 

        لي دائما ، الحياة العصرية أساسها شبكة العلاقات والأصدقاء . 

تغريد : هل تنقل الكرة لملعبي يا ساهر ؟ 

ساهر : أبدا ، ولكن حالنا متشابه يا عزيزتي ، أنت تعيشين عصرنا الحــديث 

        بطريقتك الأنثوية . 

تغريد : أنا عضوة في جمعيات المرأة وتنمية المجتمع ، وهي مهمة لك كفنان 

        تشكيلي ولي بصفتي ناشطة في حقوق المرأة . 

ساهر  ( بسخرية خفية ) : كلهن يقلن هذا لأزواجهن ، وتبقى المسألة مظاهر . 

تغريد : ( بغضب ) ساهر !  أنا أخدم مجتمعي . 

ساهر : لا تغضبي عزيزتي ، أعلم أنكن تخدمن المجتمع بمشروعات خيرية كثيرة 

        وحفلات على أعلى مستوى وأناقة . 

تغريد : طبعا ، وهل تريدني أن أكون ظلا لك في المنزل ؟! 

ساهر : ( مستسلما ) أبدا ، أنا مؤمن بحقوق المرأة كلها . 

        ( يفرك عينيه ) : أكاد لا أرى بعيني ، الصورة في التلفزيون مهتزة . 

تغريد : لابد أن تذهب للطبيب . 

ساهر : سيحدث . 

( إظلام )





المشهد الثاني


( عيادة طبيب العيون ، اللون الأبيض يغلب على أثاث الحجرة ، حيث نرى فيها أثاثا مكونا من مكتب ، وجهاز قياس النظر ، وطاولة عليها أجهزة فحص العيون، وبعض الأدوية ، الطبيب منهمك في فحص عيني ساهر بدقة ) 

الطبيب : أستاذ ساهر ، لماذا أهملت علاج عينيك ؟ 

ساهر  : ماذا تقصد يا دكتور ؟ 

الطبيب  : ( متلطفا ) يبدو أنك تشتكي منذ زمن . 

ساهر  : ( بقلق ) وهل حالتي خطيرة إلى هذا الحد ؟ 

الطبيب  : أبدا ، وستكون بخير إن شاء الله . وقصدي أن حالتك كانت تستدعي أن 

          تهتم بالعلاج منذ أن بدأت عيناك تتعباك . 

ساهر  : ( مستفهما ) إلى هذه الدرجة يا دكتور ، حالتي سيئة ؟

الطبيب  : لا عليك ، سأقوم باللازم ، المهم أخبرني عن طبيعة عملك يا أستاذ 

           ساهر ؟ 

ساهر   : فنان تشكيلي ، أنا ساهر المدني . 

الطبيب  :  أهلا وسهلا بك .  

ساهر    ( مستنكرا بغرور) : ألم تسمع عني ؟ 

الطبيب : ( مجاملا )  وهل يخفى القمر يا أستاذ ساهر !

ساهر :  بصدق ، ألم تسمع عني ، أنا من أشهر التشكيليين في البلد . 

الطبيب : في الحقيقة أنا غير متابع للفن التشكيلي بشكل عام . 

ساهر : ألا تتابع الصحافة ؟ ألا تشاهد التلــفزيون ؟ أخــباري دائـما في        

        البرامج الفنية والثقافية . 

الطبيب : جميل أن أتعرف عليك ، ولكنني أتابع الأخبار عموما ، دون أن أغوص 

         في التفاصيل ، فكما تعلم مشاغل طبــيب العيون ، كما أن اهتماماتي 

         ليس منها الفن التشكيلي . 

ساهر : آه .. 

الطبيب : ولكنني محب للقراءة ، وعاشق للطبيعة ، ولي هوايات كثيرة ، حتى لا 

        تظن أنني غير مثقف . 

ساهر :  لم أظـن هذا ، بالعكس ، فإن صديقي " هشام " الصحفي ، امتدحك لي 

         بشكل كبير جدا ، ومما قاله إنك طبيب جامع التفوق في الطب والثقافة 

        الرفيعة . 

الطبيب : الأستاذ علي من أقرب المقربين لي ، وبيننا حوارات فكرية وثقافية . 

ساهر :  حسنا يا دكتور ، كيف سيكون علاجي ؟ 

الطبيب : أول مرحلة في العلاج هي أهمها ، أريدك ألا ترهق عينيك بشكل عام، 

          فلا داعي لإجهادها . 

ساهر  ( متعجبا ) : كيف ؟! إن حياتنا الحديثة أساسها النظر . أخبرني عن عمل 

        يمكن أن يكون بلا نظر . 

الطبيب : ليست حياتنا الحديثة فقط ، بل حياة الإنـسان منـذ ولادته وحتى موته  

         تعتمد على البصر ، إنه حاسة أساسية من الحواس الخمس . 

ساهر : صحيح ، وحياتنا الآن ، كلها تعتمد على العين ، في القراءة  والكومبيوتر 

        والتلفزيون وكل شيء . 

الطبيب : هذا ما أقصده ، لا ترهق عينيك في القراءة ولا مشاهدة التلفـــزيون 

         والكومبيوتر ، فلا تمكث أكثر من ساعة في اليوم أمام هذه الأجهزة . إن 

         القرنية لديك مجهدة للغاية . 

ساهر ( ضـاحكا ) : هذا آخر ما كنت أتوقعه . يا دكتور ، لو كل الناس استغنت 

        عن العين ، فلا يمكن للفنان التشكيلي أن يستغني عنها . 

الطبيب : لم أقل أن تستغني عنها ، لا ترهقها . 

ساهر : يا دكـتور ،  إن حياتي أساسها البصر ، إبداعي الفني يعتمد على البصر 

        واليد والعقل ، عيني حياتي ، وبدونها لا حياة . 

الطبيب ( موافقا ) : صحيح ، والحمد لله على نعمتها . 

ساهر : وأنا منذ سـنوات أعمل على الكومبيوتر إبداعي الفني ، ومن الممكن أن 

        أقضي يوما كاملا أعمل . 

الطبيب : هذا إجهاد شديد ، لا يتناسب مع حالتك أبدا . 

ساهر ( بعصـبية ) : وماذا يتناسب مع حالتي المستعصية ؟ هل تريدني أن أترك 

          أموت ... ، إن الرسم حياتي ، وحياتي هي الرسم . 

       ( يصمت ملتقطا أنفاسه ) : كيف يمكنني ألا أجهد عيني ؟ كيف لا أقرأ ، لا 

       أرسم .. ، كيف أنعزل عن التواصل  مع العالم كله ، هؤلاء الذين يزورون 

       موقعي، ويناقشوني في أعمالي على الإنترنت ؟!

الطبيب : من الممكن أن ترسم بالفرشاة ، ورشّد حياتك ، دائما المريض يحتاج إلى 

       علاج ، وأنت لديك مرض في القرنية يا أستاذ ساهر .. 

       ( ثم يقول برقة ) : أرجوك يا أستاذ ساهر ، أنا أعلم أن ما أطلبه صعب 

       عليك ، ولكن دائما المرض يجبر الإنسان على ما يكره . 

ساهر ( يحاول الهدوء ) : حسنا ، وهل سيستمر هذا الوضع طويلا ؟ 

الطبيب : هذا يتوقف على التزامك بالدواء عدم الإجهاد . 

ساهر ( بعصبية مكبوتة ) : إلى متى سيكون هذا لو التزمت بالعلاج ؟ 

الطبيب : حوالي ستة أشهر وممكن أن تكون أكثر من هذا ، والشفاء من الله . 

ساهر ( مستسلما ) : أمري إلى الله . 

( يضغط الطبيب على زر أمامه ، فيدخل مساعده ، فيقوم الطبيب بإعطائه ورقة يأخذها المساعد وهو ينظر فيها بسرعة )

الطبيب : قـم بإعـداد نظارة لي الآن ، حسب هذه المواصفات ، اترك كل ما في 

        يـدك وأنجــز هذا النظـارة بسرعة ، وأظن أن هذه المواصفات ستجد 

        عدساتها بسهولة . 

المساعد : إن شاء الله يا دكتور . 

                                 ( يخرج المساعد ) 

ساهر : نظارة ! سألبس نظارة ؟! 

الطبيب : من الطبيعي أن تلبس نظارة ، فهي للمساعدة على النظر ولإراحته ،   

        خاصة أنك في منتصف الأربعينيات من العمر ، وتحتاج إلى نظارة في 

        هذا السن . 

ساهر : لا أحب شيئا يوضع على أنفي . 

الطبيب : وحالتك تستدعي النظارة ، وعليك ألا تخلعها أبدا . 

ساهر ( بمرارة ) : لا أخلعها ! 

   ( ينشغل الطبيب بكتابة الدواء ، ثم يشق الورقة ، ويعطيها لساهر )

الطبيب : وهـذا الدواء تسير عليه بانتظام ، وأحتاج إلى أن تراجعني كل أسبوع ، 

         وإذا شعرت بتعب ، لا تتردد في الاتصال أو المجيء لي . 

ساهر : وما الدواء ؟

الطبيب : بسيط ، قـطرة للعين وكبسولات ، ولا تنزعج من كـثرة الــدواء، 

        فهذا برنامج علاجي مكثف . 

ساهر : أكثر شيء كنت أكرهه الالتزام بدواء . 

الطبيب : يا أستاذ سـاهر ، المرض اختـبار للنفس  بشكل عام ، يستوي في ذلك 

        المرض البسيط والخطير . 

ساهر : أنت تميل للفلسفة يا دكتور .

الطبيب : أبدا ، هذه حقيقة . 

ساهر : هل تريد أن تساوي ما بين الصداع وتعب العين . 

الطبيب : الصداع يمنعك من التفكير والتركيز ، ولو استمر معك سيجعلك محروما 

        من النـــوم ، ومن الاستمتاع بأي لذة : طعام وشراب وقراءة ومشاهدة 

        التلفزيون . 

ساهر : .......

الطبيب : وقس على ذلك أي مرض .

ساهر : ولكن حياتي في عيني . 

الطبيب : لست وحدك تقول هذا ، كلنا لدينا نفس الإحساس ، وأنا كطبيب عيون ، 

         هل من الممكن أن أعمل بلا بصر ؟ وكذلك الميكانيكي والنجار ... 

ساهر : كلام مضبوط .

( طرق على الباب ، ثم يدخل المساعد حاملا النظارة ، ويقدمها للطبيب الذي يتناولها ثم يقدمها إلى ساهر ) 

الطبيب : تفضل يا أستاذ ساهر ، البسها ، هل هي على مقاسك ؟

ساهر ( يضع النظارة على عينيه ويضبط وضعها ) : أظنها على مقاسي .

الطبيب : تأكد من وضع " الشامبر " على قنطرة أنفك .

ساهر ( يعيد ضبط النظارة ) : جيدة يا دكتور . 

الطبيب : اخترت لك " شامبرا " من العاج فهو أخف . 

ساهر : شكرا يا دكتور . 

الطبيب : إن شاء الله تتحسن حالتك . 

ساهر : أتمنى ذلك . هل هناك شيء آخر ؟

الطبيب ( يقوم من مجلـسه ، مادا يده ) : أبدا ، رقم هواتفي في روشتة العلاج ، 

        أرجو أن تطمئني على حالتك . 

(  يهم ساهر بالانصراف )

الطبيب : في انتظار اتصالك . أريدك أن تشرح لي نظام حياتك الجديد ، هذا أهم 

         شيء في العلاج .

ساهر : نظام حياتي الجديد !

الطبيب : نعم ، كيف ستقضي وقتك ، وتنجز إبداعك ، وإن لم تتصل سأتصل أنا، وستجدني صديقك قبل أن أكون طبيبك . 

ساهر : لم أفكر بعد .

الطبيب : فكّّر إذن ، ويهمـني أن أكون معك في تنظيم حياتك ، وأرجو أن نكون 

         أصدقاء  في الحياة ، بعيدا عن الطب ومشكلاته . 

ساهر ( بصراحة ) : أصدقاء !؟

الطبيب : طبــعا ، نحن في النهاية مثقفان ، ومن الممكن أن أهتم بالفن التشكيلي 

        على يديك . 

ساهر ( بضيق ) : قد لا يكون هناك فن من الأساس . 

الطبيب : لا تقل هذا يا رجل  ، لا تيأس . 

ساهر : ( وهو ينصرف ) : بل أنا يائس . 

                                 ( إظلام ) 

المشهد الثالث


                 ( ديكور عيادة الطبيب ، ساهر وزوجته والطبيب )      

ساهر : دكتور إيهاب ، لا أشعر بأي تقدم . 

الطبيب : بم تشعر ؟

ساهر : لم أعد أفرق بين الألوان ، ولا الفواصل والخطوط . 

الطبيب : كما قلت لك وأؤكد ، إن حالتك تستلزم صبرا .

ساهر : وما حالتي بالتحديد ؟ هل من الممكن أن تطمئني ؟

الطبيب : اطمئن يا أستاذ ساهر ، المهم أن تلتزم بالدواء وعدم إرهاق عينيك .

ساهر : لم أعد أشاهد التلفزيون ، وقاطعت الكومبيوتر ، لقد عدت إلى زمن ما قبل الشاشات .  

الطبيب ( مغيرا الموضوع ) : أخبرني ، كيف تقضي وقتك ؟ 

ساهر : وقتي ! أنا مشغول بألم عينيّ ، وألم نفسي ، لقد خاصمت لوحاتي ، وجمهوري ، واكتفيت بالتمدد على الكنبة ، لوضع القطرة . 

الطبيب : سنغير اليوم النظارة .

ساهر : هذه هي المرة الرابعة لتغيير النظارة . 

الطبيب : أخبرتني أن هناك تحسنا في كل تغيير للعدسات . 

ساهر : صحيح ، هناك تحسن ، ولكنه وقتي ، وقد تلاشى الصداع الذي كنت أشعر به دوما . 

الطبيب : إذن ، نحن نسير إلى المقدمة . 

تغريد ( متدخلة في الحديث ) : دكتور ، هل يمكن – بعد إذنك – أن نعرض حالته على أطباء في أوروبا ؟

الطبيب : يا مدام ، أنا عرضت حالته على أمهر الأطباء ، وقد اتفقوا على برنامج العلاج الذي أقدمه له . 

تغريد : والله يا دكتور ، لا نشكك في قدراتك ، فأنت من أشهر أطباء البلد كلها  ولكن ربما يكون هناك دواء أكثر فاعلية لم يصل إلى بلدنا بعد . 

الطبيب : لكِ ما تشائين ، حتى تطمئنوا بأنفسكم . 

ساهر : أنا واثق من مقدرتك وعلمك يا دكتور





المشهد الرابع


( نفس ديكور شقة ساهر ، وشاشتا التلفزيون والكومبيوتر منطفئتان، ونرى المكان فوضويا ، وساهر يتنقل في الغرفة ، تارة يجلس وتارة يقف ، واضعا النظارة ، وهو ينفخ بقرف ) 

ساهر : لم أتوقع أن أكون في هذه العزلة أبدا . 

تغريد : حبيبي ! أي عزلة ؟ 

ساهر : بيني وبين العالم حواجز زجاجية بسبب هذه النظارة . 

تغريد : إنها لفترة من الزمن ، لفترة العلاج فقط . 

ساهر ( يزفر بقرف ) : أي علاج ؟ مضى شهران ولا أشعر بأي تقدم ، بل الوضع يزداد سوءا . أمامي العالم ولا أستطيع أن أتواصل معه . 

تغريد : اهدأ حبيبي ، الطبيب ينصحك بالصبر . 

ساهر ( ساخرا ) : الطبيب ! ما أشد كرهي للأطباء ، يتعاملون مع المرضى ببرود شديد ، لا يشعرون بآلامهم ، ولا بمعاناتهم . 

تغريد : ولكن الدكتور " إيهاب " مختلف عنهم جميعا ، إنه رقيق ، ومهذب ، ومثقف ، ومتعاطف معك كثيرا . 

ساهر : وما قيمة هذا التعاطف ؟ 

تغريد : أنت استشرت غيره ، ثم عدت إليه ، فقد اتفق الجميع على أن علاج الدكتور إيهاب دقيق ، ومضبوط . 

ساهر : نعم قالوا هذا ، ولكنهم لم يقولوا الحقيقة . 

تغريد : أي حقيقة تقصد ؟ 

ساهر : حقيقة مرضي ، لا أعلم لماذا يقولون دائما سر على العلاج ، ولكن لا يقولون حقيقة مرضي . ماذا بعينيّ ؟ هذا ما لا أعرفه . 

        ( يتهدج صوته إلى حد البكاء ) : ولكنني على قناعة تامة ، أنني أسير للهاوية ، نعم ، الهاوية ، قبل أشهر كنت أشعر بزيغ في البصر ، ثم تطور الأمر إلى تداخل الألوان ، ثم تطور إلى ... 

( يعلو نشيجه ) : إنني لا أري حدود ولا فواصل الأشياء ، تتداخل أمام عيني ، لا أمي بين الكنبة ولا المقعد ، الكومبيوتر والتلفزيون ... 

تغريد ( مبهوتة ) : هذا بدون النظارة ، ولكن النظارة حلت المشكلة . 

ساهر ( بدمعات مترقرقة ) : منذ أسبوع ، صار الأمر سيان ، بالنظارة أو بدون النظارة ، تصبح الأشياء هلامية في عيني . إنني أضيع ، إذا وقفت في الشرفة ، لا أجد إلا سحابا ، ونقاطا سوداء في الشارع . 

تغريد : اهدأ ، اهدأ .. سيشفيك الله . 

ساهر : اخترت أن أسكن في الدور الثاني عشر ، حتى أتأمل المدينة ، كنت في غاية السعادة ، عندما أجد عالم البشر في زحامهم ، وصخبهم ، وتداخلهم مع السيارات ، الآن أراهم مزيجا أسود . 

تغريد : إنها أعراض المرض . 

ساهر : لا ، إنها المراحل الأخيرة من المرض . 

تغريد : أنت تهمل في العلاج . 

ساهر : وما جدواه ؟! أن ألتزم بدواء أعلم أنه بلا فائدة ، حبيبتي ، إنني متجه إلى الظلام ..

تغريد ( باكية ) : أعوذ بالله ، لا يمكن ... 

ساهر : حقيقة ، خير من يعلم حالته المريض ، وأنا أعلم حالتي ، وكل كلام الأطباء لا قيمة له . أنا أطبب نفسي ، وأعلم أن حالتي تتدهور . 

تغريد : أرجوك ، لا داعي لليأس ، اليأس يقضي على أي تحسن . العلاج أساسه نفسي ، عموما أنا اتصلت بالطبيب . 

ساهر ( يقاطعها صارخا ) : لا أريده ، لا أريد أي أطباء ، لن أذهب إليه . 

تغريد : لقد وعد أن يحضر إلينا . 

ساهر : هل أعلمتِه أنني غير راغب في الذهاب إليه ؟ 

تغريد : أنا شرحت له ...

ساهر : ماذا قلتِ له ؟ 

تغريد : حبيبي أنا معك لحظة بلحظة ، وأشعر بما تشعر به ، ولو لم تقل لي . ولعلمك يا حبيبي ، لقد أرسلت صور من تقاريرك الطبية إلى لندن ، مع صديقة لي ، وجاء الرد أن نتبع نفس البرنامج العلاجي المقرر . 

ساهر ( بحزم ) : وماذا قالوا لك يا تغريد عن حالتي ؟ 

تغريد ( بتردد ) : إنها ... إنها ... إنها مشاكل في القرنية . 

ساهر : نفس ما قاله الأطباء ، وما يردده الدكتور إيهاب . ما حقيقة مرضي ؟ أريحيني يا حبيبتي ؟ 

تغريد ( برقة ) : أنت لم تقصر في شيء ، والشفاء من الله . 

( رنين جرس الباب ) 

تغريد : يبدو أن الدكتور إيهاب قد وصل . 

ساهر : لا أرغب في لقائه . 

تغريد ( بعتاب رقيق ) : هل ترفض لقاء ضيفك ؟ 

ساهر : أرجوكِ ، اتركوني بمفردي ، دعوني لمصيري . 

( تنصرف تغريد لفتح الباب ، حيث يدخل الطبيب والصديق " علي " ) 

الطبيب : السلام عليكم ، كيف حالك يا أستاذ ساهر ؟ 

ساهر : حالي سيئ . 

علي : لا تقل هذا يا ساهر . 

الطبيب : ساهر ، لقد جئت أزورك بعدما رفضت أن تحضر لي في العيادة ، لماذا كل هذا اليأس . 

ساهر : سؤال واحد يا دكتور : ما حقيقة مرضي ؟ 

الطبيب : مشكلات في القرنية . 

ساهر : أرجوك ، تعبت من هذه الإجابة ، ماذا بالتحديد في القرنية ؟ 

الطبيب : هذه أمور طبية دقيقة ومعقدة لا داعي لشرحها . 

ساهر : ولماذا تتدهور حالتي يوما بعد يوم ؟ 

الطبيب : المشكلة فيك أنت ، تريد أن يكون العلاج فوريا ، عاجلا ، وأنا قلت لك مرارا إنه يستغرق وقتا . 

ساهر : صحيح ؟! لقد أخبرتني أنني سأشفى خلال ستة أشهر ، وها قد مرت خمسة ، وبدلا من التحسن أسير للأسوأ . 

علي : ما هذا التشاؤم ؟ لقد كنت محبا للحياة . 

ساهر : التشاؤم ! إنها كلمة مهذبة ، والكلمة الحقيقية المناسبة لحالتي الآن : الإحساس بالموت . 

علي : هل أنت الذي تقول هذا ؟ وقد كنت تقول إننا نحتاج إلى ثلاثة أعمار إضافية حتى نستمتع بدنيانا . 

ساهر : لا تذكرني . ألا يعيش الميت في ظلمة ؟ وهي ظلمة القبر ، أنا أسير إليها، ولكن الفرق بيني وبين الميت أنه مقبور تحت الأرض وأنا أتحرك فوقها ، هذا هو الفرق . 

الطبيب : بم تشعر الآن ؟ أنت لم تزرني منذ شهر . 

ساهر : لم أعد أرى إلا الأشياء ، كلها هلامية في نظري ، ضاعت الخطوط والفواصل والألوان ، لم أعد أميز بين الأحجام ، حتى لوحاتي المعلقة على الحائط أمامكم ، صارت خليطا لونيا كريها ، خليط غالب عليه السواد . بم تفسر هذه الحالة يا دكتور ؟ 

الطبيب : إنها ..  ( يصمت ) 

ساهر : إنها ماذا ؟ 

الطبيب : لاشك أن هناك تدهورا في حالتك ، ولأنك لم تراجعني ، واكتفيت بالانكفاء على نفسك ، فقد ساءت حالتك كثيرا ، أنصحك أن تعود للعلاج . 

علي : وقبل أن تعود للعلاج ، فكّر قليلا في الخيارات المتاحة أمامك ، هل هناك خيارات أخرى غير العلاج ؟ 

ساهر : علي ، أنت تتحدث بطريقة السياسيين . 

علي : أنا أحاول أن أوقظ العقل الذي قتلته بيأسك . 

ساهر : موافق أن أعود للعلاج بشرط . 

علي : وما شرطك ؟ 

ساهر : أن أعلم حقيقة مرضي بالضبط . 

الطبيب : قلتها لك . 

ساهر : أستحلفك بالله ، وبكل غال عندك يا دكتور . 

علي : وماذا سيفرق معك أن تعرف أو لا تعرف ؟ 

ساهر : حتى أعلم أين أقف بالتحديد ، وبعدها سأحدد مصيري بنفسي ، وأطبب نفسي ، وأحدد خياراتي ، وأقرر . هل هناك قرار صحيح بمعلومات مغلوطة أو ناقصة ؟ وأنا معلوماتي منعدمة . 

الطبيب : لو قلت حقيقة مرضك ، قد تكون العاقبة أسوأ في نفسك . 

ساهر : لا ، لقد اعتدت الوضوح في حياتي ، كلما كان الأمر واضحا ، ارتحت كثيرا ، وفكرت بشكل هادئ . 

علي : جميل منك أن أسمع هذا الكلام ، وأرى أن تقول الحقيقة له يا دكتور . 

تغريد ( صارخة بعد صمت ) : لا ، لا ..

ساهر : تغريد أنت تعرفينها إذن .  

تغريد : أرجوكم لا تخبروه ، أرجوكم .

ساهر : تغريد ، اخرجي الآن . 

تغريد ( منهارة ) : لا تخبروه ، لا تخبروه . 

علي ( يهدئها ) : اخرجي الآن ، ونحن سنعالج الأمر ، اذهبي إلى غرفتك يا تغريد ، أرجوكِ . 

                    ( تنصرف تغريد وهي تبكي بشدة ) 

الطبيب : سأقولها لك ، فمعرفة الحقيقة في حالتك خير من كتمانها . أنت مصاب بتآكل في القرنية ، وهو يزداد يوما بعد يوم . 

ساهر ( يحاول الجلوس على أقرب مقعد ) : ما أقسى هذه الحقيقة ! وما أشدها ألما على نفسي ! الآن ارتحت . 

علي : كيف ؟ 

ساهر : الآن ، علي أن أستسلم للموت وأنا أحيا . 

الطبيب : ولكنك لم تسـألني عن إمكانيات العلاج .

ساهر : هل ستصلح قرنيتي يا دكتور ؟ 

الطبيب : لا ، ولكن من الممكن الحد من هذا التآكل ، ويمكن أن ...

ساهر : وبالطبع الدواء الذي تناولته لأشهر كان يهدف لهذا . 

الطبيب : نعم .

ساهر : وما نتيجته ؟! لا شيء ، المزيد من التآكل . 

الطبيب : هذا لا يعني اليأس . 

ساهر : وماذا يعني ؟ قل لي يا " علي " . 

علي : يعني أن تقاوم ، وتقاوم ..

ساهر : أقاوم ماذا ؟ ولماذا ؟ الفنان التشكيلي حياته وإبداعه ومستقبله في بصره ، وفجأة ، ترى أن هذا البصر يسحب منك تدريجيا ، نقاوم ماذا ؟ 

الطبيب : من الممكن القيام بزرع للقرنية ، ولكن هذا يحتاج إلى وقت ، ومتبرع ، وكما تعلم فإن هذه العملية مكلفة جدا . 

ساهر : جميل هذا العلاج . ومن يتبرع بقرنيته لي ، من يقبل أن يعيش أعمى ؟ ممكن أن يتبرع بكليته أو يبيعها ، ولكن لا يمكن أن يتبرع بقرنيته . 

الطبيب : ممكن أن نحصل عليها من الموتى . 

ساهر : أمل زائف . 

الطبيب : المشكلة في القوانين المعمول بها في بلادنا ، إنها تمنع أخذ أي شيء من الموتى . 

علي : وهذا يحتاج إلى سفر إلى الخارج . 

الطبيب : والقرنية ليس من السهل الحصول عليها ، كما أن العملية مكلفة للغاية . 

ساهر : إذن ، يجب أن أرضى بقسمتي ، وأرضى بالعمى . 

الطبيب : لم أقصد ...

ساهر : ( مواصلا بشجن ) : أيها السادة ، إنني الآن شخص أعمى ، وهذه هي الحقيقة ، وعلي أن أدرب نفسي على السير برفيق لي ، ممسكا عصا ، وأن أكون محل شفقة من الناس . أعلمكم أن الدنيا الآن سواد في سواد أمامي . 

                                   ( إظلام ) 


 

           ستار 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق