الإهداء
إلى الفنان التشكيلي الروسي بوريس بريجنكوف
وقد كانت أنامله المتحدية نموذجا ملهما
وإلى روح الشاعر / محمد عبد المعطي
قد يستوي الموت مع الحياة لمن يرضى بالضعة
وقد يفجّر الموت الحياة لمن أراد
الزجاج يغلف الذات
المشهد الأول
( صالة فسيحة في إحدى الشقق السكنية الحديثة ، حيث نرى لوحات فنية تحتل أركان الصالة ، وتحمل توقيعا متكررا بأحرف إنجليزية باسم " ساهر المدني " ، وفي الصالة أثاث فخم بسيط العدد ، يشمل كراسي وثيرة ، وطاولات أنيقة ،وفي الركن الأيسر جهاز حاسوب ، وتلفاز ذو شاشة مسطحة كبيرة الحجم ، يعرض عليها قنوات أوروبية ، وفي الركن الأيمن مرسم منسق : مسند للوحات وبجانبه طاولة عليها " باليت " الألوان ، ومقعد طولي معدني ، وهناك أضواء خافتة في الأركان ، بينما هناك ضوء مسلط وسط الصالة فيما يكون ساهر مضطجعا على كنبة وثيرة مهيأة للقراءة ، يقلب قنوات التلفاز ، فيما تعد زوجته الشاي في فناجين فخمة مزركشة برسوم أنيقة )
الزوجة ( تقدم الشاي لزوجها ) : الشاي يا حبيبي .
ساهر ( يأخذ الفنجان ويتأمل زركشته ثم يرتشف منه ) : شكرا يا غدير . هل
هذا طاقم فناجين جديد ؟
غدير : نعم ، ما رأيك في ذوقي ؟
ساهر : دائما أنت رائعة في اختيارتك .
غدير ( مبتسمة ) : لأنني زوجة فنان تشكيلي . حقا ما رأيك في هذه النقوش ؟
ساهر ( يعيد تأمل الفنجان والطبق الصغير أسفله ) : أجمل ما فيها أنها زهور
وطيور وكأننا في حديقة رحبة الأرجاء .
غدير : تعشق الطبيعة كعادتك .
ساهر ( بشاعرية ) : بالطبع ، أنا ابن الريف ، وريف بلادنا : شمس ساطعة ،
وغيوم نادرة ، وألــوان زاهية ، ووجوه لفحتها الشمس فتلونت بألوان
قوس قزح .
غدير : كلماتك لوحة منطوقة .
ساهر ( بضحك ) : أشكــرك ، ولكن ألم تلاحظي أنك دائمة الشراء للتحف
والأواني ، لقد تضخمت الخزانات في غرفة المائدة ؟
غدير ( متجاهلة ملاحظته ) : ما رأيك لو كنت أنت مصمم هذه التحف ؟
ساهر : هل ستعودين لنغمة السوق ودنيا المصانع ؟
غدير : أنا أغار من هؤلاء المصممين الذين لا يملكون مثل أصابعك ولا رؤاك
المبتكرة .
ساهر : إنني أفضل أن أحيا طليقا ، كما تعلمين ، فإن طلاقتي جعلت اسمي رنانا
وأصحاب المصانع يتسابقون على شراء حق عرض لوحاتي في تحفهم .
غدير ( بمجاملة ) : طبعا يا حبيبي ، معارضك دائما تحدث ضجة في البلد .
ساهر ( مستمتعا بالكلام مدحًا فيه ) : انظري يا غدير إلى تسابق الصحف
والمجلات ومراسلي القنوات إلى تغطية معرضي .
غدير ( بفخر ) : ويكفي أنهم يتسابقون على شراء لوحاتك يا حبيبي .
ساهر : أنا الآن اسم رنان له ثقل على الساحة ، ولست في حاجة إلى أن أعمل
تصميمات السجاد والملابس والأواني .
غدير : ( مصدقة على كلامه ) أنا أفخر بأنك زوجي .
ساهر : ( يعود لمشاهدة التلفاز ) أنا سعيد أنني عشت في هذا العصر .
غدير : ( مستفهمة ) كيف ؟
ساهر : أشعر أنني أعيش العالم كله ، وسط منجزات التكنولوجيا : تلفــزيون
وكومبيوتر وإنترنت وألف قناة فضائية .
غدير : آه ، صح .
ساهر : ( مستكـملا ) إن " إيميلي " يستقـبل عشـرات الرسائل يوميا، من
أنحاء العالم ، تجربتي تحمل تميزا كبيرا ، جذبت أنظار العالم .
غدير : كانت خطوة موفقة منك يا ساهر أنك وضعت صور لوحاتك كلــها في
موقع على الإنترنت .
ساهر ( مرددا ) : www. Saher Madny .com ، فيه آلاف الزيـــارات
شهريا.
( يصمت ثم يكمل )
ساهر : تخيلي يا عزيزتي أنني لو كنت أعيش في زمن سابق بمئة سنة أو خمسين
سنة مثلا ، هل كنت سأجد هذه الشهرة ، في البلد وخارجه .
تغريد ( مؤكدة ) : لا طبعا ، أنت في عصر العولمة وتفجر ثورة الاتصالات .
وأيضا فإن لوحاتك لا يمكن سرقتها ، فهي معروفة ، وموجود أمام كل
لوحة اسم من اقتناها . إنه موقع رائع يا ساهر .
ساهر ( وهو يفرك عينيه بتعب ) : أشعر أنني محظوظ ، وقد استفدت كثيرا من
التكنولوجيا ، والغريب أن الفنانين زملائي لا يفهمون حتى الآن هــذا
التوجه .
( يغيّر الحديث وهو يغلق عينيه ثم يفتحهما بألم ) : آه ، آه ، عاد الألم
لعيني من جديد .
تغريد : ماذا بك يا ساهر ؟
ساهر ( متألما ) : عيناي تؤلماني بشدة ، المناظر تتراقص في نظري .
تغريد : أنت مقصر في صحتك يا ساهر ، قلت لك اذهب للطبيب ، ولا فائدة ،
أنت تشتكي من عينيك من فترة .
ساهر : الإرهاق هو السبب .
تغريد : طبعا ، أنت بين التلفزيون والكومبيوتر .
ساهر : هكذا الحياة العصرية ، شاشات زجاجية .
تغريد : حتى القراءة ، تركت الكتب والمجلات ، وتجلس بالساعـــات على
الكومبيوتر والإنترنت . أنا أغار من الكومبيوتر .
ساهر : يا تغريد ، يا حبيبتي ، لا يمكن أن أكون إنسانا عولميا دون تلفـزيون
وإنترنت وموبيل . انتهى عصر الأوراق .
تغريد : معقول ، وهل سينتهي عصر الزيت والقماش ؟!
ساهر : آه ، تقصدين ..
تغريد : طبعا ، أقصد أنك لم تعد ترسم بالفرشاة ولا بيدك ، انصرفت منذ فترة إلى
رسومات الكومبيوتر .
ساهر : إنها المستقبل .
تغريد : كنت دائما ، تحادثني وأنت تمسك الفرشاة ، وفي اليد الأخرى الباليت ...
رحم الله هذه الأيام .
ساهر : معقول يا تغريد ، تشعريني بالذنب لأنني أساير موجات الحداثة التشكيلية
في العالم . في أمريكا ، الكل يعمل ببرامج الكومبيوتر في الرسم .
تغريد : ولكنك تقضي يومك أمام هذه الشاشة الزرقاء ، تعبت منها .
ساهر : آه ، فهمت سر ثورتك ، يا حبيبتي ، هذه ضريبة عصرنا التكنولوجي .
ولا تنسي أنك مشغولة عني بعلاقاتك الاجتماعية الواسعة ، وكما تقولين
لي دائما ، الحياة العصرية أساسها شبكة العلاقات والأصدقاء .
تغريد : هل تنقل الكرة لملعبي يا ساهر ؟
ساهر : أبدا ، ولكن حالنا متشابه يا عزيزتي ، أنت تعيشين عصرنا الحــديث
بطريقتك الأنثوية .
تغريد : أنا عضوة في جمعيات المرأة وتنمية المجتمع ، وهي مهمة لك كفنان
تشكيلي ولي بصفتي ناشطة في حقوق المرأة .
ساهر ( بسخرية خفية ) : كلهن يقلن هذا لأزواجهن ، وتبقى المسألة مظاهر .
تغريد : ( بغضب ) ساهر ! أنا أخدم مجتمعي .
ساهر : لا تغضبي عزيزتي ، أعلم أنكن تخدمن المجتمع بمشروعات خيرية كثيرة
وحفلات على أعلى مستوى وأناقة .
تغريد : طبعا ، وهل تريدني أن أكون ظلا لك في المنزل ؟!
ساهر : ( مستسلما ) أبدا ، أنا مؤمن بحقوق المرأة كلها .
( يفرك عينيه ) : أكاد لا أرى بعيني ، الصورة في التلفزيون مهتزة .
تغريد : لابد أن تذهب للطبيب .
ساهر : سيحدث .
( إظلام )
المشهد الثاني
( عيادة طبيب العيون ، اللون الأبيض يغلب على أثاث الحجرة ، حيث نرى فيها أثاثا مكونا من مكتب ، وجهاز قياس النظر ، وطاولة عليها أجهزة فحص العيون، وبعض الأدوية ، الطبيب منهمك في فحص عيني ساهر بدقة )
الطبيب : أستاذ ساهر ، لماذا أهملت علاج عينيك ؟
ساهر : ماذا تقصد يا دكتور ؟
الطبيب : ( متلطفا ) يبدو أنك تشتكي منذ زمن .
ساهر : ( بقلق ) وهل حالتي خطيرة إلى هذا الحد ؟
الطبيب : أبدا ، وستكون بخير إن شاء الله . وقصدي أن حالتك كانت تستدعي أن
تهتم بالعلاج منذ أن بدأت عيناك تتعباك .
ساهر : ( مستفهما ) إلى هذه الدرجة يا دكتور ، حالتي سيئة ؟
الطبيب : لا عليك ، سأقوم باللازم ، المهم أخبرني عن طبيعة عملك يا أستاذ
ساهر ؟
ساهر : فنان تشكيلي ، أنا ساهر المدني .
الطبيب : أهلا وسهلا بك .
ساهر ( مستنكرا بغرور) : ألم تسمع عني ؟
الطبيب : ( مجاملا ) وهل يخفى القمر يا أستاذ ساهر !
ساهر : بصدق ، ألم تسمع عني ، أنا من أشهر التشكيليين في البلد .
الطبيب : في الحقيقة أنا غير متابع للفن التشكيلي بشكل عام .
ساهر : ألا تتابع الصحافة ؟ ألا تشاهد التلــفزيون ؟ أخــباري دائـما في
البرامج الفنية والثقافية .
الطبيب : جميل أن أتعرف عليك ، ولكنني أتابع الأخبار عموما ، دون أن أغوص
في التفاصيل ، فكما تعلم مشاغل طبــيب العيون ، كما أن اهتماماتي
ليس منها الفن التشكيلي .
ساهر : آه ..
الطبيب : ولكنني محب للقراءة ، وعاشق للطبيعة ، ولي هوايات كثيرة ، حتى لا
تظن أنني غير مثقف .
ساهر : لم أظـن هذا ، بالعكس ، فإن صديقي " هشام " الصحفي ، امتدحك لي
بشكل كبير جدا ، ومما قاله إنك طبيب جامع التفوق في الطب والثقافة
الرفيعة .
الطبيب : الأستاذ علي من أقرب المقربين لي ، وبيننا حوارات فكرية وثقافية .
ساهر : حسنا يا دكتور ، كيف سيكون علاجي ؟
الطبيب : أول مرحلة في العلاج هي أهمها ، أريدك ألا ترهق عينيك بشكل عام،
فلا داعي لإجهادها .
ساهر ( متعجبا ) : كيف ؟! إن حياتنا الحديثة أساسها النظر . أخبرني عن عمل
يمكن أن يكون بلا نظر .
الطبيب : ليست حياتنا الحديثة فقط ، بل حياة الإنـسان منـذ ولادته وحتى موته
تعتمد على البصر ، إنه حاسة أساسية من الحواس الخمس .
ساهر : صحيح ، وحياتنا الآن ، كلها تعتمد على العين ، في القراءة والكومبيوتر
والتلفزيون وكل شيء .
الطبيب : هذا ما أقصده ، لا ترهق عينيك في القراءة ولا مشاهدة التلفـــزيون
والكومبيوتر ، فلا تمكث أكثر من ساعة في اليوم أمام هذه الأجهزة . إن
القرنية لديك مجهدة للغاية .
ساهر ( ضـاحكا ) : هذا آخر ما كنت أتوقعه . يا دكتور ، لو كل الناس استغنت
عن العين ، فلا يمكن للفنان التشكيلي أن يستغني عنها .
الطبيب : لم أقل أن تستغني عنها ، لا ترهقها .
ساهر : يا دكـتور ، إن حياتي أساسها البصر ، إبداعي الفني يعتمد على البصر
واليد والعقل ، عيني حياتي ، وبدونها لا حياة .
الطبيب ( موافقا ) : صحيح ، والحمد لله على نعمتها .
ساهر : وأنا منذ سـنوات أعمل على الكومبيوتر إبداعي الفني ، ومن الممكن أن
أقضي يوما كاملا أعمل .
الطبيب : هذا إجهاد شديد ، لا يتناسب مع حالتك أبدا .
ساهر ( بعصـبية ) : وماذا يتناسب مع حالتي المستعصية ؟ هل تريدني أن أترك
أموت ... ، إن الرسم حياتي ، وحياتي هي الرسم .
( يصمت ملتقطا أنفاسه ) : كيف يمكنني ألا أجهد عيني ؟ كيف لا أقرأ ، لا
أرسم .. ، كيف أنعزل عن التواصل مع العالم كله ، هؤلاء الذين يزورون
موقعي، ويناقشوني في أعمالي على الإنترنت ؟!
الطبيب : من الممكن أن ترسم بالفرشاة ، ورشّد حياتك ، دائما المريض يحتاج إلى
علاج ، وأنت لديك مرض في القرنية يا أستاذ ساهر ..
( ثم يقول برقة ) : أرجوك يا أستاذ ساهر ، أنا أعلم أن ما أطلبه صعب
عليك ، ولكن دائما المرض يجبر الإنسان على ما يكره .
ساهر ( يحاول الهدوء ) : حسنا ، وهل سيستمر هذا الوضع طويلا ؟
الطبيب : هذا يتوقف على التزامك بالدواء عدم الإجهاد .
ساهر ( بعصبية مكبوتة ) : إلى متى سيكون هذا لو التزمت بالعلاج ؟
الطبيب : حوالي ستة أشهر وممكن أن تكون أكثر من هذا ، والشفاء من الله .
ساهر ( مستسلما ) : أمري إلى الله .
( يضغط الطبيب على زر أمامه ، فيدخل مساعده ، فيقوم الطبيب بإعطائه ورقة يأخذها المساعد وهو ينظر فيها بسرعة )
الطبيب : قـم بإعـداد نظارة لي الآن ، حسب هذه المواصفات ، اترك كل ما في
يـدك وأنجــز هذا النظـارة بسرعة ، وأظن أن هذه المواصفات ستجد
عدساتها بسهولة .
المساعد : إن شاء الله يا دكتور .
( يخرج المساعد )
ساهر : نظارة ! سألبس نظارة ؟!
الطبيب : من الطبيعي أن تلبس نظارة ، فهي للمساعدة على النظر ولإراحته ،
خاصة أنك في منتصف الأربعينيات من العمر ، وتحتاج إلى نظارة في
هذا السن .
ساهر : لا أحب شيئا يوضع على أنفي .
الطبيب : وحالتك تستدعي النظارة ، وعليك ألا تخلعها أبدا .
ساهر ( بمرارة ) : لا أخلعها !
( ينشغل الطبيب بكتابة الدواء ، ثم يشق الورقة ، ويعطيها لساهر )
الطبيب : وهـذا الدواء تسير عليه بانتظام ، وأحتاج إلى أن تراجعني كل أسبوع ،
وإذا شعرت بتعب ، لا تتردد في الاتصال أو المجيء لي .
ساهر : وما الدواء ؟
الطبيب : بسيط ، قـطرة للعين وكبسولات ، ولا تنزعج من كـثرة الــدواء،
فهذا برنامج علاجي مكثف .
ساهر : أكثر شيء كنت أكرهه الالتزام بدواء .
الطبيب : يا أستاذ سـاهر ، المرض اختـبار للنفس بشكل عام ، يستوي في ذلك
المرض البسيط والخطير .
ساهر : أنت تميل للفلسفة يا دكتور .
الطبيب : أبدا ، هذه حقيقة .
ساهر : هل تريد أن تساوي ما بين الصداع وتعب العين .
الطبيب : الصداع يمنعك من التفكير والتركيز ، ولو استمر معك سيجعلك محروما
من النـــوم ، ومن الاستمتاع بأي لذة : طعام وشراب وقراءة ومشاهدة
التلفزيون .
ساهر : .......
الطبيب : وقس على ذلك أي مرض .
ساهر : ولكن حياتي في عيني .
الطبيب : لست وحدك تقول هذا ، كلنا لدينا نفس الإحساس ، وأنا كطبيب عيون ،
هل من الممكن أن أعمل بلا بصر ؟ وكذلك الميكانيكي والنجار ...
ساهر : كلام مضبوط .
( طرق على الباب ، ثم يدخل المساعد حاملا النظارة ، ويقدمها للطبيب الذي يتناولها ثم يقدمها إلى ساهر )
الطبيب : تفضل يا أستاذ ساهر ، البسها ، هل هي على مقاسك ؟
ساهر ( يضع النظارة على عينيه ويضبط وضعها ) : أظنها على مقاسي .
الطبيب : تأكد من وضع " الشامبر " على قنطرة أنفك .
ساهر ( يعيد ضبط النظارة ) : جيدة يا دكتور .
الطبيب : اخترت لك " شامبرا " من العاج فهو أخف .
ساهر : شكرا يا دكتور .
الطبيب : إن شاء الله تتحسن حالتك .
ساهر : أتمنى ذلك . هل هناك شيء آخر ؟
الطبيب ( يقوم من مجلـسه ، مادا يده ) : أبدا ، رقم هواتفي في روشتة العلاج ،
أرجو أن تطمئني على حالتك .
( يهم ساهر بالانصراف )
الطبيب : في انتظار اتصالك . أريدك أن تشرح لي نظام حياتك الجديد ، هذا أهم
شيء في العلاج .
ساهر : نظام حياتي الجديد !
الطبيب : نعم ، كيف ستقضي وقتك ، وتنجز إبداعك ، وإن لم تتصل سأتصل أنا، وستجدني صديقك قبل أن أكون طبيبك .
ساهر : لم أفكر بعد .
الطبيب : فكّّر إذن ، ويهمـني أن أكون معك في تنظيم حياتك ، وأرجو أن نكون
أصدقاء في الحياة ، بعيدا عن الطب ومشكلاته .
ساهر ( بصراحة ) : أصدقاء !؟
الطبيب : طبــعا ، نحن في النهاية مثقفان ، ومن الممكن أن أهتم بالفن التشكيلي
على يديك .
ساهر ( بضيق ) : قد لا يكون هناك فن من الأساس .
الطبيب : لا تقل هذا يا رجل ، لا تيأس .
ساهر : ( وهو ينصرف ) : بل أنا يائس .
( إظلام )
المشهد الثالث
( ديكور عيادة الطبيب ، ساهر وزوجته والطبيب )
ساهر : دكتور إيهاب ، لا أشعر بأي تقدم .
الطبيب : بم تشعر ؟
ساهر : لم أعد أفرق بين الألوان ، ولا الفواصل والخطوط .
الطبيب : كما قلت لك وأؤكد ، إن حالتك تستلزم صبرا .
ساهر : وما حالتي بالتحديد ؟ هل من الممكن أن تطمئني ؟
الطبيب : اطمئن يا أستاذ ساهر ، المهم أن تلتزم بالدواء وعدم إرهاق عينيك .
ساهر : لم أعد أشاهد التلفزيون ، وقاطعت الكومبيوتر ، لقد عدت إلى زمن ما قبل الشاشات .
الطبيب ( مغيرا الموضوع ) : أخبرني ، كيف تقضي وقتك ؟
ساهر : وقتي ! أنا مشغول بألم عينيّ ، وألم نفسي ، لقد خاصمت لوحاتي ، وجمهوري ، واكتفيت بالتمدد على الكنبة ، لوضع القطرة .
الطبيب : سنغير اليوم النظارة .
ساهر : هذه هي المرة الرابعة لتغيير النظارة .
الطبيب : أخبرتني أن هناك تحسنا في كل تغيير للعدسات .
ساهر : صحيح ، هناك تحسن ، ولكنه وقتي ، وقد تلاشى الصداع الذي كنت أشعر به دوما .
الطبيب : إذن ، نحن نسير إلى المقدمة .
تغريد ( متدخلة في الحديث ) : دكتور ، هل يمكن – بعد إذنك – أن نعرض حالته على أطباء في أوروبا ؟
الطبيب : يا مدام ، أنا عرضت حالته على أمهر الأطباء ، وقد اتفقوا على برنامج العلاج الذي أقدمه له .
تغريد : والله يا دكتور ، لا نشكك في قدراتك ، فأنت من أشهر أطباء البلد كلها ولكن ربما يكون هناك دواء أكثر فاعلية لم يصل إلى بلدنا بعد .
الطبيب : لكِ ما تشائين ، حتى تطمئنوا بأنفسكم .
ساهر : أنا واثق من مقدرتك وعلمك يا دكتور
المشهد الرابع
( نفس ديكور شقة ساهر ، وشاشتا التلفزيون والكومبيوتر منطفئتان، ونرى المكان فوضويا ، وساهر يتنقل في الغرفة ، تارة يجلس وتارة يقف ، واضعا النظارة ، وهو ينفخ بقرف )
ساهر : لم أتوقع أن أكون في هذه العزلة أبدا .
تغريد : حبيبي ! أي عزلة ؟
ساهر : بيني وبين العالم حواجز زجاجية بسبب هذه النظارة .
تغريد : إنها لفترة من الزمن ، لفترة العلاج فقط .
ساهر ( يزفر بقرف ) : أي علاج ؟ مضى شهران ولا أشعر بأي تقدم ، بل الوضع يزداد سوءا . أمامي العالم ولا أستطيع أن أتواصل معه .
تغريد : اهدأ حبيبي ، الطبيب ينصحك بالصبر .
ساهر ( ساخرا ) : الطبيب ! ما أشد كرهي للأطباء ، يتعاملون مع المرضى ببرود شديد ، لا يشعرون بآلامهم ، ولا بمعاناتهم .
تغريد : ولكن الدكتور " إيهاب " مختلف عنهم جميعا ، إنه رقيق ، ومهذب ، ومثقف ، ومتعاطف معك كثيرا .
ساهر : وما قيمة هذا التعاطف ؟
تغريد : أنت استشرت غيره ، ثم عدت إليه ، فقد اتفق الجميع على أن علاج الدكتور إيهاب دقيق ، ومضبوط .
ساهر : نعم قالوا هذا ، ولكنهم لم يقولوا الحقيقة .
تغريد : أي حقيقة تقصد ؟
ساهر : حقيقة مرضي ، لا أعلم لماذا يقولون دائما سر على العلاج ، ولكن لا يقولون حقيقة مرضي . ماذا بعينيّ ؟ هذا ما لا أعرفه .
( يتهدج صوته إلى حد البكاء ) : ولكنني على قناعة تامة ، أنني أسير للهاوية ، نعم ، الهاوية ، قبل أشهر كنت أشعر بزيغ في البصر ، ثم تطور الأمر إلى تداخل الألوان ، ثم تطور إلى ...
( يعلو نشيجه ) : إنني لا أري حدود ولا فواصل الأشياء ، تتداخل أمام عيني ، لا أمي بين الكنبة ولا المقعد ، الكومبيوتر والتلفزيون ...
تغريد ( مبهوتة ) : هذا بدون النظارة ، ولكن النظارة حلت المشكلة .
ساهر ( بدمعات مترقرقة ) : منذ أسبوع ، صار الأمر سيان ، بالنظارة أو بدون النظارة ، تصبح الأشياء هلامية في عيني . إنني أضيع ، إذا وقفت في الشرفة ، لا أجد إلا سحابا ، ونقاطا سوداء في الشارع .
تغريد : اهدأ ، اهدأ .. سيشفيك الله .
ساهر : اخترت أن أسكن في الدور الثاني عشر ، حتى أتأمل المدينة ، كنت في غاية السعادة ، عندما أجد عالم البشر في زحامهم ، وصخبهم ، وتداخلهم مع السيارات ، الآن أراهم مزيجا أسود .
تغريد : إنها أعراض المرض .
ساهر : لا ، إنها المراحل الأخيرة من المرض .
تغريد : أنت تهمل في العلاج .
ساهر : وما جدواه ؟! أن ألتزم بدواء أعلم أنه بلا فائدة ، حبيبتي ، إنني متجه إلى الظلام ..
تغريد ( باكية ) : أعوذ بالله ، لا يمكن ...
ساهر : حقيقة ، خير من يعلم حالته المريض ، وأنا أعلم حالتي ، وكل كلام الأطباء لا قيمة له . أنا أطبب نفسي ، وأعلم أن حالتي تتدهور .
تغريد : أرجوك ، لا داعي لليأس ، اليأس يقضي على أي تحسن . العلاج أساسه نفسي ، عموما أنا اتصلت بالطبيب .
ساهر ( يقاطعها صارخا ) : لا أريده ، لا أريد أي أطباء ، لن أذهب إليه .
تغريد : لقد وعد أن يحضر إلينا .
ساهر : هل أعلمتِه أنني غير راغب في الذهاب إليه ؟
تغريد : أنا شرحت له ...
ساهر : ماذا قلتِ له ؟
تغريد : حبيبي أنا معك لحظة بلحظة ، وأشعر بما تشعر به ، ولو لم تقل لي . ولعلمك يا حبيبي ، لقد أرسلت صور من تقاريرك الطبية إلى لندن ، مع صديقة لي ، وجاء الرد أن نتبع نفس البرنامج العلاجي المقرر .
ساهر ( بحزم ) : وماذا قالوا لك يا تغريد عن حالتي ؟
تغريد ( بتردد ) : إنها ... إنها ... إنها مشاكل في القرنية .
ساهر : نفس ما قاله الأطباء ، وما يردده الدكتور إيهاب . ما حقيقة مرضي ؟ أريحيني يا حبيبتي ؟
تغريد ( برقة ) : أنت لم تقصر في شيء ، والشفاء من الله .
( رنين جرس الباب )
تغريد : يبدو أن الدكتور إيهاب قد وصل .
ساهر : لا أرغب في لقائه .
تغريد ( بعتاب رقيق ) : هل ترفض لقاء ضيفك ؟
ساهر : أرجوكِ ، اتركوني بمفردي ، دعوني لمصيري .
( تنصرف تغريد لفتح الباب ، حيث يدخل الطبيب والصديق " علي " )
الطبيب : السلام عليكم ، كيف حالك يا أستاذ ساهر ؟
ساهر : حالي سيئ .
علي : لا تقل هذا يا ساهر .
الطبيب : ساهر ، لقد جئت أزورك بعدما رفضت أن تحضر لي في العيادة ، لماذا كل هذا اليأس .
ساهر : سؤال واحد يا دكتور : ما حقيقة مرضي ؟
الطبيب : مشكلات في القرنية .
ساهر : أرجوك ، تعبت من هذه الإجابة ، ماذا بالتحديد في القرنية ؟
الطبيب : هذه أمور طبية دقيقة ومعقدة لا داعي لشرحها .
ساهر : ولماذا تتدهور حالتي يوما بعد يوم ؟
الطبيب : المشكلة فيك أنت ، تريد أن يكون العلاج فوريا ، عاجلا ، وأنا قلت لك مرارا إنه يستغرق وقتا .
ساهر : صحيح ؟! لقد أخبرتني أنني سأشفى خلال ستة أشهر ، وها قد مرت خمسة ، وبدلا من التحسن أسير للأسوأ .
علي : ما هذا التشاؤم ؟ لقد كنت محبا للحياة .
ساهر : التشاؤم ! إنها كلمة مهذبة ، والكلمة الحقيقية المناسبة لحالتي الآن : الإحساس بالموت .
علي : هل أنت الذي تقول هذا ؟ وقد كنت تقول إننا نحتاج إلى ثلاثة أعمار إضافية حتى نستمتع بدنيانا .
ساهر : لا تذكرني . ألا يعيش الميت في ظلمة ؟ وهي ظلمة القبر ، أنا أسير إليها، ولكن الفرق بيني وبين الميت أنه مقبور تحت الأرض وأنا أتحرك فوقها ، هذا هو الفرق .
الطبيب : بم تشعر الآن ؟ أنت لم تزرني منذ شهر .
ساهر : لم أعد أرى إلا الأشياء ، كلها هلامية في نظري ، ضاعت الخطوط والفواصل والألوان ، لم أعد أميز بين الأحجام ، حتى لوحاتي المعلقة على الحائط أمامكم ، صارت خليطا لونيا كريها ، خليط غالب عليه السواد . بم تفسر هذه الحالة يا دكتور ؟
الطبيب : إنها .. ( يصمت )
ساهر : إنها ماذا ؟
الطبيب : لاشك أن هناك تدهورا في حالتك ، ولأنك لم تراجعني ، واكتفيت بالانكفاء على نفسك ، فقد ساءت حالتك كثيرا ، أنصحك أن تعود للعلاج .
علي : وقبل أن تعود للعلاج ، فكّر قليلا في الخيارات المتاحة أمامك ، هل هناك خيارات أخرى غير العلاج ؟
ساهر : علي ، أنت تتحدث بطريقة السياسيين .
علي : أنا أحاول أن أوقظ العقل الذي قتلته بيأسك .
ساهر : موافق أن أعود للعلاج بشرط .
علي : وما شرطك ؟
ساهر : أن أعلم حقيقة مرضي بالضبط .
الطبيب : قلتها لك .
ساهر : أستحلفك بالله ، وبكل غال عندك يا دكتور .
علي : وماذا سيفرق معك أن تعرف أو لا تعرف ؟
ساهر : حتى أعلم أين أقف بالتحديد ، وبعدها سأحدد مصيري بنفسي ، وأطبب نفسي ، وأحدد خياراتي ، وأقرر . هل هناك قرار صحيح بمعلومات مغلوطة أو ناقصة ؟ وأنا معلوماتي منعدمة .
الطبيب : لو قلت حقيقة مرضك ، قد تكون العاقبة أسوأ في نفسك .
ساهر : لا ، لقد اعتدت الوضوح في حياتي ، كلما كان الأمر واضحا ، ارتحت كثيرا ، وفكرت بشكل هادئ .
علي : جميل منك أن أسمع هذا الكلام ، وأرى أن تقول الحقيقة له يا دكتور .
تغريد ( صارخة بعد صمت ) : لا ، لا ..
ساهر : تغريد أنت تعرفينها إذن .
تغريد : أرجوكم لا تخبروه ، أرجوكم .
ساهر : تغريد ، اخرجي الآن .
تغريد ( منهارة ) : لا تخبروه ، لا تخبروه .
علي ( يهدئها ) : اخرجي الآن ، ونحن سنعالج الأمر ، اذهبي إلى غرفتك يا تغريد ، أرجوكِ .
( تنصرف تغريد وهي تبكي بشدة )
الطبيب : سأقولها لك ، فمعرفة الحقيقة في حالتك خير من كتمانها . أنت مصاب بتآكل في القرنية ، وهو يزداد يوما بعد يوم .
ساهر ( يحاول الجلوس على أقرب مقعد ) : ما أقسى هذه الحقيقة ! وما أشدها ألما على نفسي ! الآن ارتحت .
علي : كيف ؟
ساهر : الآن ، علي أن أستسلم للموت وأنا أحيا .
الطبيب : ولكنك لم تسـألني عن إمكانيات العلاج .
ساهر : هل ستصلح قرنيتي يا دكتور ؟
الطبيب : لا ، ولكن من الممكن الحد من هذا التآكل ، ويمكن أن ...
ساهر : وبالطبع الدواء الذي تناولته لأشهر كان يهدف لهذا .
الطبيب : نعم .
ساهر : وما نتيجته ؟! لا شيء ، المزيد من التآكل .
الطبيب : هذا لا يعني اليأس .
ساهر : وماذا يعني ؟ قل لي يا " علي " .
علي : يعني أن تقاوم ، وتقاوم ..
ساهر : أقاوم ماذا ؟ ولماذا ؟ الفنان التشكيلي حياته وإبداعه ومستقبله في بصره ، وفجأة ، ترى أن هذا البصر يسحب منك تدريجيا ، نقاوم ماذا ؟
الطبيب : من الممكن القيام بزرع للقرنية ، ولكن هذا يحتاج إلى وقت ، ومتبرع ، وكما تعلم فإن هذه العملية مكلفة جدا .
ساهر : جميل هذا العلاج . ومن يتبرع بقرنيته لي ، من يقبل أن يعيش أعمى ؟ ممكن أن يتبرع بكليته أو يبيعها ، ولكن لا يمكن أن يتبرع بقرنيته .
الطبيب : ممكن أن نحصل عليها من الموتى .
ساهر : أمل زائف .
الطبيب : المشكلة في القوانين المعمول بها في بلادنا ، إنها تمنع أخذ أي شيء من الموتى .
علي : وهذا يحتاج إلى سفر إلى الخارج .
الطبيب : والقرنية ليس من السهل الحصول عليها ، كما أن العملية مكلفة للغاية .
ساهر : إذن ، يجب أن أرضى بقسمتي ، وأرضى بالعمى .
الطبيب : لم أقصد ...
ساهر : ( مواصلا بشجن ) : أيها السادة ، إنني الآن شخص أعمى ، وهذه هي الحقيقة ، وعلي أن أدرب نفسي على السير برفيق لي ، ممسكا عصا ، وأن أكون محل شفقة من الناس . أعلمكم أن الدنيا الآن سواد في سواد أمامي .
( إظلام )
ستار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق