*الحسام محيي الدين
لنا أن نتمثّل وعي أيّ كاتبٍ مسرحي بقضايا الانسان الحالّة في أدبياته ، لا سيما تلك التي يكون فيها الأخير غايةً لا وسيلة على ما يقوله الفكر الوجودي الذي أطلق خطابه الخطير في القرن التاسع عشر وامتدّ نشاطاً لافتاً حتى القرن العشرين بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ، على أيدي أعلام المؤلفين والكتّاب المسرحيين وغير المسرحيين كمنجز ذهني أقرّهُ البعض فلسفة من أجل بناء معنى الحياة الحقيقي للإنسان ، فيما عدّه البعض الآخر " أساليب في التفلسف " كالفيلسوف الاسكتلندي جون ماكوري John Macquarrie وليس فلسفة بحد ذاتها ، لا سيما أنها لم تصل إلى الانسان الجديد المنشود الذي لأجله ناضل روادها طويلا . نحن نحاول هنا تمثُّل موقف أهم الرواد المعاصرين الذين وإن لم يتنبهوا إلى أنهم عبثيين / وجوديين في بداية نشاطهم الكتابي ، إلا أنهم بعد ذلك وعوا هذه المسألة إنما باتجاه الفصل بين العبثية والوجودية ، نعني الفرنسي ألبير كامو أحد أهم رواد حركة العبث ، حيث لا يُلزِمنا موقفه الذي أصرّ فيه على رفض الوجودية ورفضه الالتحاق بها على الرغم من أن مؤلفاته هي في الواقع نظام خفيّ من تلك الفلسفة في الأفكار والآليات والنتائج . ألبير كامو ( ( Albert Camus روائي ومؤلف مسرحي فرنسي تطاولت رؤاه المسرحية حتى وصفت بالفلسفة المعمقة في طبيعة وجود الانسان ومصيره وتشظيه بين مفردات الواقع المتناقضة حتى العبور إلى ما بعد الحياة ، ولد عام 1913 في الجزائر من أب فرنسي وأم إسبانية ونشأ فيها ، ، حتى مرحلة الفتوة التي أصيب فيها بمرض السل ، ما حفر في شخصيته تمرداً وإشكاليات نفسية ترى في كل شيء عدماً ولامعقولاً فلا جدوى منه ، أطلّ منها على مسائل الوجود والحب والموت والحرية ، حتى أنهى دراسته الثانوية بنجاح والتحق بجامعة الجزائر بمنحة دراسية ليحوز شهادة في الفلسفة بكلية الآداب عام 1935 ، ثم ينخرط في العمل السياسي مطالباً باستقلال الجزائر عن فرنسا ، ومع الحزب الشيوعي الفرنسي لمدة وجيزة قبل أن يتركه ، كما قاتل مع المقاومة الفرنسية ضد النازيين خلال الحرب العالمية الثانية ، بالتزامن مع لقائه جان بول سارتر ليصبح أحد أهم رفاقه لاحقاً قبل أن ينعزلا بسبب الخلاف في النظرة إلى الشيوعية الستالينية وقتذاك . نال كامو جائزة نوبل في الآداب عام 1957 ، وتوفي عام 1960 تحت سن الخمسين من عمره في حادث سيارة . لألبير كامو أربع مسرحيات فقط هي : كاليغولا Caligula (1938) ، سوء تفاهم Malentendu (1944) ، حالة طوارىء (1948 ) ، العادلون Les Justes ( 1949 ) . من رواياته : الغريب L’Etranger ( 1942) ، المتمرد L’homme Révolté ( 1951 ) ، السقوط (1956 ) ، أسطورة سيزيف Le Mythe de Sisyphe ( 1942) ، لا يرعوي فيها جميعاً عن إقحام الفن ( ضمنا المسرح ) في دائرة العبث المشتعلة ، واصفاً الفنان " بأنه أكثر الناس عبثية " ، وبأن وظيفة الفن هي مجابهة العبثية بما هي فكر ورؤى ومواقف وتصرفات وآراء متأخرة عن فهم العالم الذي من المفترض أنه يحتوي السلام والأمان والجمال والحق والخير والعدل وغير ذلك من الصفات المستحقة للجميع . طبعاً يواجه كامو هذه العبثية بأخرى مضادة ، فيرى في مسرحه أنّ القتل والنبذ والمواجهة القاسية تخلصاً نهائياً من عبثية الآخر الشرير ، الطاغية ، مع ما يقع من مفارقات مأسوية تثوّر الحبكة وتقدم معالجة فائقة الكفاءة لمضمون الحكاية ، كما في مسرحية " سوء تفاهم " التي تنتهي بأن تقتل العجوز ابنها العائد بعد غياب عشرين عاما بإلقائه في النهر القريب من غير معرفته ، وهي التي اعتادت هذا الفعل الشائن دائماً وبمعية ابنتها مع نزلاء فندقها بعد الاستيلاء على أموالهم ، إلى أن قتلت نفسها أيضا . أما في مطالعتنا لمسرحية " العادلون " التي هي محور هذا المقام ، فنحن نجد أنها غير بعيدة من الفضاء العبثي الذي يتخذ من القتل والعنف وسيلة لاصلاح المجتمع ، كتبها كامو في خمسة مشاهد عام 1949 أي بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ، وتنطلق في أصل حكايتها من اتفاق مجموعة ثورية من خمسة أشخاص منضمين إلى الحزب الاشتراكي الروسي عام 1905 على اغتيال من يستطيعون من رجالات السلطة الفاسدين في روسيا تحقيقا للعدالة الاجتماعية ، بدءا بالدوق " سيرج " رمز الفساد والاستبداد بإلقاء قنبلة عليه ، لكن العملية تصطدم بوجود مجموعة من الأطفال قربه في لحظة تنفيذها ، مما يدفع الثوار للدخول في خلاف كبير ونقاش عميق في تنفيذها من عدمه فيرفض " ألكسيس " المضي بتنفيذ العملية بينما يرى " يانيك " بوجوب ذلك ، حيث تتجلى جدلية العدالة والعبث ، نعني وجوب تحقيق العدل والحرية والتغيير ولو أصيب أناس أبرياء إلى أن نفذت المهمة من قبل " يانيك " الذي رفض العفو عن فعلته بعد القبض عليه من زوجة الدوق نفسها ، إذ يرى أن ما فعله هو مواجهة الظالمين وأنه يستحق الاعدام لا أن ينعم بالحياة بعدما سلب الدوق حياته ، وهذا ما عده كامو منتهى التضحية لأجل الشعب ، وكان للفتى له ما أراد ! ولا تنتهي المسألة هنا ، إذ تلقى حبيبته " دورا " المصير نفسه بعدما نفذت عملية مماثلة لاحقا للهدف عينه ووفاء لحبيبها ومبادئه . يمكن القول أنها صورة مواجهة العبث بالعبث ، عبث الرفاق " العادلون " الذين يريدون تحقيق العدالة بمفهومهم الخاص وهم بالنسبة لكامو رجال العدالة الشعبية الوطنية الطامحون لاحقاقها بالمنطق الثوري ، في مواجهة عبث الطغاة الذين انعدمت كل السبل السلمية الأخرى للتغيير والتخلص منهم ، من دون أن يعني ذلك أن رؤية كامو كانت محقة بعدما انتقم من أبطاله لا لهم ، وقدم لنا خطاباً خطيراً عبر عدالة سيئة ، مقيدة ، مُدانة ، فجعل مواجهة ظلم السلطة مقدمة لظلم الرعية ، والاقتصاص من الظالم تقييداً للحق وتضحية مجانية بالمظلوم في الوقت الذي كان يمكن الافادة من الأخير لاحقاً بمواقف نضالية مماثلة ، كما رأينا في مصير " يانيك " ثم حبيبته " دورا " وإن صبغها فلسفياً بما ظنه شافعاً لهكذا نهاية ، مع ما في ذلك من إيحائه بأن النموذج العبثي الذي يحكم المجتمع بالطغاة والفاسدين هو في ديمومة تاريخية مُنتظَرَة دائماً مهما عظمت التضحيات وهذا من دون شك جلد للذات . إنها فلسفة كامو التي تنهض على التمرد بوصفه نزعة إنسانية يجب الحفاظ عليها ، تستثمر الوعي بكينونة الانسان واكتشاف ذاته وأهميته في الثورة على اللامعقول في الوجود ، مع التسليم بأنّ ما اعتقده أكثر من عبث وأقل من إيديولوجيا لأن العبث ليس مبدأً جمالياً فحسب ، إنما هو موقف إيديولوجي ( سياسي ، اجتماعي ) ؛ فالانسان هو دائما ذلك المخلوق المتعب الذي لا يرتاح وهو في نضال دائم بلا طائل تماماً كسيزيف الفتى الإغريقي الأسطوري الذي قدّر عليه أن يعيد الكرة دائما في صعوده الجبل بصخرة تثقله ، فما إن يطأ قمته حتى تنفلت منه إلى أسفله ، وهكذا دواليك وإلى الأبد . قٌدّمت " العادلون " على غير مسرح عربي وبعروض كثيرة ، وعبَرت كثيراً إلى الخشبات إقتباساً أو إعداداً ، من طريق الترجمة ، منذ النصف الثاني من القرن الماضي ، مثلاً في لبنان على مسرح بيروت مع منير أبو دبس في لبنان عام 1967 ، وفي العراق ( الفرقة القومية للمسرح ) مع الراحل جاسم العبودي عام 1971 ، وفي الجزائر عام 2011 ، وغير بلد عربي حتى وقت قريب ، ما فتح الطريق أمام نشوء وتطور مدرسة فنية تولدت أصلا عن دوافع نفسية لاشباع حاجة الانسان العربي إلى ما يمكن نعته بجماليات التمرد بمواجهة إنهزامات متتالية في السياسة والمجتمع والاقتصاد تحوّلت إلى تابوهات مزمنة ، ما انعكس بالضرورة على الثقافة التي يشكل المسرح عامودها الفقري . من هنا بدَت حِجاجية الرؤية التي نهض عليها مسرح كامو ، نعني القول بأن الفكر الانساني مشترك ولو اختلفت التفاصيل والأدوات وأسماء الشخصيات ، وكذلك في طرح إشكالية كيفية استخدام العدالة ، وأين ، إلى محرّكٍ رئيس خفيّ لم يتنبه له الكثيرون هو واقع الطبقية الحادّة بين مكونات الشعب الواحد ، سيما وأن الوجودية ردة فعل ضد الرأسمالية والفوارق بين الغنى والفقر بالمفهوم الفكري والاجتماعي والنفسي الذي يريد رد الاعتبار للانسان المأزوم والمجروح في كرامته وعيشه الكريم ، مما جاء معظمه تعبيراً دقيقاً عن راهنية معضلات الانسان العربي بمواجهة تعسف السلطة ، تحمل وتحتمل دلالات إشارية قوية جداً إلى عمق المشكل الانساني في عالمنا العربي ، وإن من وجهة نظر عبثية هي في الواقع سليلة الفكر الوجودي من دون شك ، مع ملاحظة ما انتشر من العروض بين الغرب والشرق على الخشبة ، وجاء مثقلا بفعل التطهير للنفس البشرية ، وتعميق الرؤية المجتمعية لدور المسرح في توعية الجمهور وتوجيهه من دون أن يتسلل الضجر إليه وهو يشاهدها ، ولو تزيّت بعض مشاهدها أحيانا بالرمزية .
*ناقد مسرحي . بيروت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق