إعلام الهيئة العربية للمسرح
ملاحظة: الدكتورة أسماء بسام، ومن خلال المتابعة عن بعد عبر بث فعاليات المهرجان، سطرت هذه الورقة.
من بغداد إلى مهرجان المسرح العربى استعدَّت فرقة مسرح المستحيل فى عرض مسرحية (بيت أبو عبد الله) العراقى تأليف وإخراج أنس عبد الصمد؛ لنخرج إلى إطار مغاير للمسرح ومفهوم يجذب المتلقى للمشاركة فى الفعل ورد الفعل وإحاطته خبرات متنوعة انفتح من خلالها على تأويل النص المعروض إلى نص ذهنى داخله يوازى النص المعروض، هذا النص جاء من مشاهدة العرض والانفتاح على خبرات العرض مشاهدة مدمجة مع الخوف المشكل للهم الإنسانى والعربى المشترك، لنظل أمام فكر أعمق بكثير من فهم الموقف المعاصر والمحاصر.
فالموقف المحاصر مفهوم فهمًا ساطعًا وثابتًا ولا يتغير أبداً، ولكن الفكر المعرفى يتغير بجودة متلقيه وبتمثلات المعرفة المسبقة لدى العقل الإنسانى، لا نتغير إلاَّ إذا حاولنا أن نتغير، ولا نفهم معنى التغير إلاَّ بنصوص تعى معنى التغير وتفهم محتوى الفكر والفكر المضاد، تفهم معنى النص القيد لتتحرر به من القيد إلى الحرية، تفهم معنى المنزل القيد لتحرر المكان من ثبوته وسجنه.
تجسد الاحتلال والاختلال فى هذا النص من الصمت إلى الكلام، ومن الكلام إلى الصمت، كما تشكلت حالة من فرض الهيمنة والسيطرة على العالم المحتل والمختل الذى يضعنا تحت الفكر المحاصر والصوت المحبوس والمكان المسجون لنجد أنفسنا أمام حالة سكون تام يهيمن على المكان.
يفتح العرض أفاقًا واسعة لتأويلات المتلقى؛ حيثُ يحوى داخله جسدًا متمردًا على جميع القوى الخارقة للمجتمع الإنسانى، من خلال لغة مرجعيتها الجسد تندمج تحت إطار المشاهدة والتلقى، فالعرض القيد يتيح للمتلقى حرية إبداع نصًا موازيًا لكون العلاقة بين المعروض والمُشَاهد علاقة تفاعلية مرتبطة بمخيلة المتلقى ومشتركة معه فى إبداع حر انسلخ من نص قيد صامت ميتامسرحى لمناقشة الهم الإنسانى الحاد فى كل مكان وزمان، وهنا هتاف صامت إلى العالم العربى يعرض مفهوم الخوف المتكلم / الصامت ، وهيمنة السلطة / المقاومَة.
ننطلق من البيت الذى هو مصد الأمن والأمان لنعبر به سلسلة متواصلة من السجون والخوف والرعب؛ حيثُ سجن الذات العربية داخل المنزل، سجن أبدى يشتمل ظلام دامس لا يحوى سوى بقع من الإضاءة الشديدة التى تحجب المتلقى التمييز بين الشخصيات الموجودة، كما نجد هذا المكان يحوى مرحاضًا للتخلص من نفايات العالم السلطوية، وغسالة ملابس للتخلص من الدماء الموجودة والبعثرة فى أجواء المكان، وشخصية ثابتة فى مكان متغير، وحوائط المكان متحركة تحجب المعرفة عن هذا المكان، وشخصيات تخرج من بين الحوائط لتعبر عن غضبها وثورتها ضد العالم، ولكنها لا تستطيع التعبير سوى بحركاتها ورقصاتها التى تحررها من قيد المكان، صوت عال فى فضاء المكان يشير إلى وجودية المقاومة مهما كان الخوف ومهما صمت الصوت فالصوت البديل موجود فى الفضاء والاعتراض الوجودى موجود مادام الجسد مستمرًا فى المقاومة باللغة الديناميكية المعترضة والمتمردة.
إذن المكان يهيمن على العالم، والعالم لا يسمح للشخصيات التفرد بالمكان، وندور فى دائرة مفرغة ولا نهائية من العلامات والدلالات السيميائية التى تحول النص الصامت إلى نص ديناميكى متفاعل مع الأحداث اليومية فى عالمنا العربى، ونبقى فى شك دائم ومستمر.
من جانب آخر نلمح الشخص المتكلم يخنق الصامت فى الفضاء المسجون، والشخص الصامت يشوشر على المتكلمون بحركات جسدية لا إرادية تحرر الجسد رقصًا واهتزازًا وتفاعلاً، وتلعب مع المتلقى انفعاليًا بخطاب تفاهمى واضح يتكون من علامات أدائية من شأنها الإيقاع بالمتلقى فى فخ تنافسى بينه وبين الذات والآخر ويبقى المتلقى هو اللعبة الأساس فى دائرة الخوف فيتشكل لديه حلم الرغبة والرهبة والانتقام لهذه الشخصيات ومنها فى نفس الوقت ويبقى لديه تغريبًا واضحًا يكسر به الإيهام مع النص المعروض محاولاً تغيير الكائن بما ينبغى أن يكون.
هنا لم يتخطى العرض المسرحى الحاجز الأرسطى فقط بل تعدى على البريختى وأصبح يشرك المتلقى فى إنشاء نصًا موازيًا ليس لتغيير الوضع فقط والتمرد بل لكسر حاجز الخوف من المكان الآمن الذى يحوى (أصوات صاخبة، أجساد متحركة حركات أيديولوجية مقاومة، كف ملاكمة ووسادات بيضاء تقوم مقام الأجسام الثابتة، جدران متحركة تطمس الهوية، مراقبة ومعاقبة للجسد من خلف هذه الجدران من شأنها تشويش الهوية وزعزعة الأمن داخلها).
تتغير متتبدل حركة الممثلين لنشعر أننا أمام طاقات لغوية ديناميكية متعددة المواهب الأدئية، كما نلحظ الصوت الخلفى يهيمن على ذات المكات ليشير إلى حماسة وفرض شخصية مهيمنة تجعل نفسها مادة مهمة من خوف الذات ومراقبة الآخر من خلف الجدران المتحركة، ولعل الثابت فى تحرك الجدران يشير إلى خوف المكان واهتزازه ورعبه من الشخصيات التى تختبىء وراءه.
كل شخصية تحاول الخروج من بين الجدران، كما أنَّ كل شخصية تحاول أن تتجسد فى الأخرى، ولكنها لا تستطيع فترجع إلى ذاتيتها مرة أخرى هربًا من الواقع المعاصر والمحاصر.
تنبعث إضاءات دائرية تقطعها الحوائط المتحركة لتهيمن الحوائط على المكان والإضاءة والشخصيات، وهنا يصنع الآخر المحتل/ المراقب حاجزًا صدًا من شأنه إرباك الذات واختلال الشخصيات وسط الظلام الدامس، ليبقى الجسد هو العلامة الوحيدة الإرشادية المضيئة بالحركة اللغوية.
امرأة ورجلان وشخصيات ثابتة جامدة وأخرى خلف الجدران متفاوتة فى المراقبة الدائمة لهم، المرأة تحاول لفّ شعرها ورفعه إلى أعلى لتششير إلى التغير والنجاح التى تسعى إليه، والاحتفاظ بجانب العزلة من المجتمع الذى يراقبها، أمَّا الرجل الذى يقرأ فى الكتاب ليتطلع إلى العالم المعرفى حوله فجأوة يمزقه صفحة صفحة ويقطعه لينقطع عن الخبرات المعرفية السلطوية التى تهيمن عليه وينعزل ويتقوقع فى ذاته مرة أخرى، نتبين طمس وجهه بالألوان المتعددة لنجد أنَّ هذا الوجه متعدد الملامح ومتعدد التجارب يتشوه فى ذاته ولا يشوه الآخر، أما عن الرجل الذى يحاول الغناء فهو لا يستطيع؛ لأنَّ القوى الخفية تمنعه، ويبقى المقدر الوحيد للذات هو (يموت الجميع وتعيش القوى الخفية التى اخترقتهم) ، والموت هو الحالة الوحيدة الحقيقية لمقدراتهم.
تتحرك الحوائط، والرجل الثابت مازال ثابتًا، الأطباء يحاولون الإنقاذ ولا يستطيعون وسط الركود التام من العالم الدموى، الأطباء تعطى (حقنة) الحياة ولكن للوسادة ولكن الوسادة لا تتحرك هى فقط تعطى صفة الحياة للشخصيات الجامدة الراكدة، فيبقى الجسد الجامد ثائرًا وتبقى الوسادة متحررة من الصمت فى صفة الوجودية والإنسانية الخالصة .
فعندما ترجع الشخصيات من موتها المؤكد تبحث عن عالمها الحقيقى وسط الوسائد الجامدة الخالية من الدم والموت لتحقق معادلة عربية صعبة جدًا وهى لم مبعثراتها وأدواتها وتجميع حفرياتها المعرفية الوجودية التى تمتلكها من الواقع الجاد الذى يتمثل فى الهيمنة والسلطة والقوى الخفية الميتافيزيقية، والشخصيات المراقبة والمعاقبة للذات وسط ظلام المكان الدامس الذى يعقبه بقعة ضوء لنظل أمام سؤال الوقت والزمان المرتبط بالساعة البيولوجية للمكان المهيمن الذى يهدف إلى إقامة ذات متحررة متنقلة مع الجدران المتحرر داخل المكان.
يفتح الباب فى النهاية ويدخل شعاع ضوء معرفى وقبل أن يهيمن على باقى المكان تتخذ الجدران المتحركة وظيفتها فى حجب هذا الضوء، والشخصية المختنقة بالكلام تريد الغناء ولا تقوى، تحطمها قيود الهيمنة العالمية على حنجرتها المأخوذة من الحياة إلى الموت ومن الموت إلى الحياة لنظل فى جدال مستمر، نعرف معنى الهيمنة والسطلة، ونعرف كيف نتحرر منها ونعرف الزمان والمكان المناسب ولكننا لا نقوى فعليًا على فعل المقاومة.
هل يستطيع الإنسان العربى وسط كل هذه القيود الإعلامية والفكرية والمعرفية والخبراتية، ووسط العالم المادى السلطوى الذى يهيمن عليه بالصوت والضوء والمراقبة وحتى بالنفس الذى يخرج من جسده أن يتحرر من القيد والقوى الخفية الميتافيزيقية، ويتحرر من المكان والإضاءة الخافتة ويحرر من قيوده الذاتية والسلطوية؟ أم يجب علينا أن نفعل الأكثر من الأعمال المسرحية التى تحرره من الواقع المهيمن لأننا مازلنا نبحث عن هوية تجمعنا نحو الجديد والمتجدد؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق