تصنيفات مسرحية

الثلاثاء، 5 مارس 2024

النص الموازي في “ذاكرة التراب” للكاتب عدي المختار

مجلة الفنون المسرحية 
النص الموازي في “ذاكرة التراب” للكاتب عدي المختار 

بقلم - علي حسين الخباز

سعى الكاتب عدي المختار في نصه “ذاكرة التراب” إلى الذاكرة الذهنية لخلق مقاربات ترميزية عبر دلالة المعنى المنتج معتمدا على مرتكزين يشكلان الرؤية…
المرتكز الأول.. الخطاب البصري، والمرتكز الثاني.. الخطاب النصي الوصف والحوار والنص الموازي إرشادات المؤلف لإيصال الفكرة لمتلقيه بأسلوب (تعددية التأويل) وتنوع الأداء على وفق المسعى التواصلي، بدءًا من العنوان الانزياحي (ذاكرة التراب)، والمزاح هو الإنسان، التراب لدى عدي المختار يساوي أبعاد التكوين الإنساني والتي منحته مساحات إثارة واسعة من خلال تقسيم المشاهد، (المشهد البصري والخطاب النصي) من جانب ومن الجانب الآخر جمع بين (المؤثر السمعي والضوء).
الصورة الأولى للمشهد الأول (إظلام + صوت ماكينة خياطة لبضع ثوان ثم بقعة ضوء) مساحة تأويلية لضمان تفاعل المتلقي صمم الفضاء بدقة عالية (خياط غير واضح المعالم جالس على ماكينة خياطة ضخمة ويخيط بقماش أبيض يتساقط من كل الاتجاهات)
1ـ خياط غير واضح المعالم.
2ـ ما كنة خياطة ضخمة.
3ـ قماش أبيض.
جعل لكل متلقي رؤية
الخياط يدل على الموت كونه غير واضح المعالم، ضخامة المكنة تعني ضخامة فعل الموت، والقماش الأبيض الكفن، جمالية هذه الشعرية التي قادت التأويل إلى خلق عوالم رحبة تفتح الذاكرة المؤولة، والتي هي ذاكرة التراب يستخدم اللون الأبيض في الكثير من المعاني، والتي هي دلائل نفسيه كنقاء السريرة، الزفاف، الأمل، السلام، الهدوء، وتأدية الفروض للاتصال الوجداني شعائر دينية، صلاة، حج، الكفن الذي هو علامة الطهر، وعلامات أكثر قربا لروحية المعنى، قوله تعالى ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ وقوله ﴿وَنـزعَ يَدَهُ من جيبه فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ وقوله تعالى ﴿تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾.
يستخدم الكاتب والمخرج عدي المختار في أغلب نصوصه الإبداعية تقنية البرواز، والبرواز الداخلي هو برواز يحدد مساحة المنظر ومكانه خلف الستارة مباشرة، والغرض منه إبراز المنظر المسرحي للمشاهدين وإخفاء الفراغات الجانبية والعلوية.
استخدم المرايا لتمثيل مجموعة واسعة من الموضوعات والأفكار في النص، مثل التأمل الذاتي، البحث عن الهوية، ويساهم في ترسيخ العمق النصي، في أغلب النصوص المسرحية ترسم المرآة كأداة تعكس غرور الشخصية واهتمامها المبالغ به في الذات، أما في نص ذاكره التراب أضاف الجراح التي تنزف للمرايا، هناك حركات راقصة لروح معذبة، براويز ملونة، الأبيض والأحمر والأصفر، رقص بوح داخلي سيكشف هوية النائم على الأرض، مرايا منها ما يمثل الوهم والمخادعة، لافتة ترفع (الضحية تقلد جلادها)، تدل على رمزية الحراك النصي، المرايا هنا تجاوز استخدامها العملي إلى تمثيل روحية الشخصية المتفردة في النص.
من مميزات نصوص عدي المختار هو النص الموازي تدخل الإرشادات المسرحية إلى جنب مع الحوار تساعد على تكوين صورة المشهد (تضاء بقعة وسط المسرح على حقيبة كبيرة وخلفها ممثل بملابس غير واضحة الهوية، يحاول أن يخرج راسه مع الموسيقى، يبدا الممثل الخروج ببطء ومن ثم تصاعديا ليستمع لأصوات، لغط قد ينكمش خوفا خلف الحقيبة، بعد ثوانِ يخرج وهو يتفحص جسده وكذلك المكان، باستغراب ينتقل بين المرايا، كلما يقف أمام مرآة يظهر له شخص غيره بالجهة الأخرى.
فيهرب للأخرى وللثالثة، يصيح بلغط ويحاول الرجوع للاختباء خلف الحقيبة، يخرج من البراويز نحو ثلاثة صوامت يتجمعون حوله وهم يضعون أيديهم على راسه ومن ثم يكبسوه للأرض فيصرخ (صمت + إظلام) هذه الإرشادات جميعها في صورة واحدة هي الصورة الثالثة، تقوم هذه الإرشادات لتدعيم النص، ومن وظائف تلك الإرشادات قدرتها على تحديد مكان الحدث وزمانه، تحمل معلومات تخص الشخصيات شخوص العمل.
ـــــــــــــــــــــــــ
1ـ ممثل
2ـ مجموعة صوامت
ملاحظة:
ــ مسرحية من فصل ومشهد واحد إلا أنها تعتمد نظام المشاهد القصيرة، النص الموازي ساعد السينوغراف في تأثيث العرض المسرحي من خلال معلومات يعطيها المؤلف، والذي أعطى الديكور ـــ الملابس ـــ الإضاءة ـــ الاكسسوار، ساعد في اختيار التقنيات المناسبة لمختلف المشاهد المسرحية على خشبه العرض.
التناسق القرآني في النص المسرحي يساعدنا على معرفة ثقافة الكاتب القرآنية ويزيد قيمة الأثر الأدبي، ويعمل على إحياء ذاكرة المعنى في النص ويساهم في جمالية اللفظ وترسيخ المعنى، يستحضر في بطله أداء دورين لشخصيتين في الحوار
الرجل: ـ انت من راودتني عن نفسك
السيدة: ـ وأنت من انتبذت للفجيعة مكانا شرقيا
الرجل: ـ قلت لك انبذيه قبل أن يكون فتيا
السيدة: ـ وأكون في دنياك نسيا منسيا وراح
يستخدم الجرس اللفظي على قوالب تقترب من المصدر القرآني فهو يستمد من منابع مختلفة من السور والآيات (مكانا شرقيا/ نسيا منسيا) ولم يكتف بالقران بل يذهب الى التناص التاريخي
الرجل: ـ لها وطن يحميها أو يتناص مع شعرية السياب
الممثل: ـ وكأن عمياء رمتني صرخة في التيه لا دين ولا وطن
أخذنا مفهوم ذاكرة التراب إلى مفاهيم تدوينية تخص ذاكرة الخلق الأول التراب وهذه المساحة الواسعة من عودة الذاكرة إلى مرجعها الأول، منح النص قدره استحضار الاستفهام الذي يمتلك فاعلية تكوين الوعي وترسيخ الفكرة وإثارة فاعلية التأويل والعمق الدلالي (أأستغفر الله أم أستغفر للخطيئة التي انجبتني في ظلام اللعنة المقدسة) والاستفهام يمكن لنا الشعرية العالية (الست قطعة من قداسة الولادة، لمّ لفضتني للتيه).
هل تقدر الذاكرة أن تخون، وهل خيانة الذاكرة تمنحنا صدق التعبير والمشاعر والرؤى، هل تدفع طاقة التأهيل لوجود ذكريات دون ذاكرة، لهذا ولد المعنى الشعري.
السؤال الذي أرقني عند قراءه النص هل أيقظ النص ذاكره التراب أم ذاكرة الجراح؟
هذا المس الشعوري منح الشعرية تدفق الحضور والانبثاق، هل يريد أن يخبرنا بالأفول الإنساني (صراخ طفل رضيع ومن ثم يبتلعونه وكأنهم يلوكون به، وبالجهة الأخرى الممثل وهو يؤدي حركات تترجم الفعل حتى يصيح بألم مع إظلام جهة الصوامت)، تمتزج الشعرية أحيانا بروح الفلسفة أمام مساحة فعل (القداسة هنا ــ هناك في كل مكان بروج من أوهام العاجزين) نص يحتوي الكثير من الوجع الإنساني، الإحساس وكأنها تصفية حساب مع الذات، وجدت ذاكرة عبارة عن رؤى مكسورة الخاطر تنعي الهوية، (من قال إننا من تراب؟، لو كنا كذلك لما لفظ أحدنا الآخر) (سر الخديعة ليس بالتراب بل الروح التي تسكن فيه)
الفلسفة هي جرح الساكن في الروح، والذاكرة مجرد جسر لعبور الألم ـ إلى التراب، أؤمن بأن لا مسرحا دون الفلسفة / الفكر/ المفاهيم/ البراهين /التفاعل مع بؤرة الخلق التراب، والعبور من فلسفة الخلق إلى فلسفة الوجود الإنساني عبر الإيماءة / الهتاف / الحقب التاريخية التي مرت على الشعب / وصولا إلى اللهاث، وبيع الذمم وروح التقاتل تحت رمزية الحقيبة، (أرواحنا هي الخديعة التي نعرفها ونتغابى.. نعم نحن لسنا بنقاء الاغبياء).
للذاكرة وظيفة نفسية مدعومة بالوعي، وينصهر عندها الواقع بخيال المؤلف، ذاكره التراب لا تحتاج إلى أرشفة الأحداث، لكنها تجسد الصور التي تستقر في الذاكرة.. التراب صورة عسكرة الإنسان في بلد لا يستريح إلا على ضيم، الجور / التعذيب / الحقد /الكره… أثار الكاتب قضية الهوية / الانتماء إلى التراب /الانتماء إلى الخطيئة ذاكرة ينهشها الوجع الحاد / امهلني لأسأل ماذا لو ينمو الأنسان في التراب كما الشجر؟، لما عمّروا الفضيحة عبر أسئلة مهلكة الأعذار، التراب السبب في الخلق الأول، التراب وجدان الإنسان/ للوطن ذاكرة محصنة ضد داء النسيان، امتزج ترابها بالدم، التراب أمر تحتشد فيه التواريخ، المشانق وحدها تعرف معنى أن نموت ويحيا الوطن، هل (الكفن) من مؤثثات المكان؟ /من مؤثثات الثورة والاحتجاج؟ / مؤثثات الجرح الانساني؟ (نحن ليس سوانا من يحدد المشهد الأخير لموته ــ عليكم أن تحرصوا على الموت بكامل قيافتكم (يرتدي الكفن) بكفن أبيض ولدنا وفيه نموت) علائق الذاكرة، فضاءات ثرية، رؤى دلالية رمزية تهدم النتائج بصورتها الاستباقية، (هبل لم يسقط في ساحة التحرير هو لا زال في الرؤوس) السؤال الوجداني الذي بنى الكاتب عدي المختار فلسفة النص عليه هل يمكن أن يولد الأنسان من كفن؟ نعم عدي سيولد من جديد لأنه ولد من تراب، والتراب صحو أمة وضمير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق