مجلة الفنون المسرحية
الاحتفالية أسئلة ومسائل(97)
فاتحة الكلام
ويسألني سائل من الناس ويقول لي :
الست انت هو ....؟
واقول له, نفس ما قاله عبد السميع في تغريبة (عبد السميع يعود غدا) عندما سئل نفس السؤال:
لا .. أنا لست هو.. أنا انا وانت انت وهو هو ..)
-- لست انت هو المدعو قيد حياته عبد الكريم ..؟
نعم، وحتى قيد مماته سيظل هذا المخلوق الذي امامك يحمل نفس الاسم،. والذي هو عبد الكريم برشيد، ابن الحاج المصطفى دفين مقبرة سيدي احمد ابركان بمدينة ابركان العامرة والسعيدة
ولقد اسعدني حظي بأن كنت عبد الكريم، وليس عبد اللئيم، ولقد اكرمني الكريم ربي، فصرت له عبدا..
ويعود السائل ليسالني سؤالا آخر :
-- لقد سمعت من الصادقين الذين لا يكذبون بأنك (تقترف ط) فعل الكتابة، فهل فعلا انت كاتب؟
وأقول له، انني أزعم فقط بأنني كاتب. حتى يثبت التاريخ حقيقة ما اقول، او عكس ما ادعي، وقد اكون مجرد عاشق يهوى الكتابة، والعشق ليس ذنبا. وليس حراما، وليس جريمة، وقد اكون مجرد تلميذ متمرن على الكتابة، وانني قد كنت ومازلت عند درجة الصفر في هذه الكتابة، اما بالنسبة لهذا الذي افعله، أو اقترفه بحسب تعبيرك، وهل هو كتابة ام شبه كتابة او انه لاكتابة، فتلك مسألة اخرى، والمهم انني احيا في هذه الكتابة حياة اخرى اضافية، وانني احيا بها. بحثا عن شيء، او هروبا من شيء، لست أدري..
ويعود نفس السائل ليسألني
-- ولمن تكتب ايها (الكاتب) المتمرن، هل للبشر ام للشجر ام للحجر ؟ واسمح لي ان اضع كلمة الكاتب بين قوسين.
وأقول له لا تهتم با صاحبي، وحتى لو وضعتها بين الف قوس وقوس، فان ذلك لا يزعجني ابدا، وانني (اكتب)اليوم، تماما كما كتبت بالأمس، لكل لمن يقرأ، وتحديدا لكل من يحسن فعل هذه القراءة. وليس كل قارئ يعرف أسرار القراءة، ويعرف ادابها واخلاقها، والأصل في هذه القراءة هو انها مطلوبة لذاتها، وبهذا فهي عشق عاشقين، واتمنى ان تكون منهم، وهي الوجه الثاني للكتابة التي لا يمكن أن تكتمل إلا بها، وهذه القراءة، وفي معناها الحقيقي، لا يمكن ان تكون مجرد فعل عابر، وذلك في انتظار القطار. او في انتظار الحافلة،او في انتظار النوم..
ويعود نفس السائل ليسالني من جديد السؤال التالي:
-- وهذا القارئ، هل تعرفه؟
واقول له نفس ما قالت السيدة ميمونة الأمية( ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة) وانا اليوم اقول نفس قولها ( هذه الكتابة تعرف قارئها وقارئها يعرف كتابته) والأمر يتعلق بسر رباني خفي، لا أعرفه انا الكاتب. ولا يعرفه صاحبي القارئ، ولا يهمني ان اعرفه او لا اعرفه، وبحكم انني مجرد (كاتب) متمرن، وان ما اكتبه ما هو إلا تمارين في مدرسة الحياة الابتدائية، فان مهمتي هي أن أعرف اسرار صناعة الكتابة فقط، وأن اتقنها، اما معرفة من يقرأ ومن لا يقرا، فان هذه المهمة ليست مهمتي، ولا اظنها يمكن ان تكون مهمة اية كاتب آخر، لأنني فقط لست تاجرا من التجار ولست ناشرا من قبيلة الناشرين، ولست اخباريأ، وما أنا الا (كاتب) متمرن، حياته الكتابة وهوايته الكتابة وعشقه الكتابة ومتعته الكتابة.
القارئ يختار كاتبه والكاتب لا يختار قارئه
انني كاتب عمومي متطوع، هكذا قدمت نفسي للناس وللتاريخ، ولقد دخلت عالم الكتابة السحري من باب العشق والهوى، وانني اجد حياتي ومتعتي ولذتي في فعل هذه الكتابة، وأنا لا ارجو منها أن تطعمني خبزا، او ان تحجز موقعا رفيعا في المجتمع، كما انني لست خطيبا ولا زعيما ولا مصلحا ولا فقيها ولا مرشدا في هذه الكتابة، وعليه فانني لا اطمع ابدا في ان اغير مسار العالم بهذه الكتابة، كما انني لا اقول للناس بأن كل الحق والحقيقة موجودان فقط في كتاباتي، وان من يبتغي غيرها من الكتابات الأخرى فلن يقبل منه، كما انني لا ازعم بانه في هذه الكتابة يسكن الجمال، ويقيم الكمال والجلال، وما يهمني اساسا هو أن أقول (بعض) ما اعرف، وان أحرص في المقابل على اعرف كل ما اقول، وأن أكون على علم بجغرافيا علم الكلام، وأن اعرف حدود فن القول وعلم القول وفقه القول. وان اكون في هذا الزمن حاضرا بشكل كامل ومتجدد، وألا اغيب لحظة واحدة عن وقائع هذا الواقع، ومهمتي هي ان اعيش حياتي الخاصة. وان (اتطفل) على حيوات الناس الأخرين، وان يكون فضولي فضولا جميلا ونبيلا، وان يفيد حاضر ومستقبل الانسان، من غير ان يسيء لأي انسان، وان أشهد ما يجري ويدور في هذا العالم، وان اكون شاهدا عليه بالحق، وأن اكون صادقا وامينا في كل تمارين الكتابة
ومرة اخرى، يعود نفس ذلك السائل ليسالني السؤال التالي:
-- ومن يكون قارئك المفضل؟ وما الذي يعجبه تحديدا في كتابتك التي ليست كتابة؟
واقول له، إن من حق القارئ أن يقرا ما يشاء، ولمن يشاء، ومتى يشاء، ولكن، هل من حق الكاتب أن يختار قارئه، وان يسمح لهذا بالقراءة، وأن يمنع القارى منها، وان يكتب على غلاف كتبه نفس ما يكتبه الحلاقون على ابواب صالوناتهم ( خاص بالرجال) او ( خاص بالنساء) واطن اكتب على غلاف كتبي ( خاص بالمناضلين) او ( خاص بالتقدميين) او ( خاص بالتجريبيين)
ولقد كان بودي ايها السائل لو ان سؤالك كان عن أول قارى أكتب له، وعن اول قارئ يقرا ما اكتب، لأن هذا القارئ موجود فعلا، وانا اعرفه، وهو يعرفني، وبيننا صحبة ورفقة ومحبة قديمة جدا، واذا كان يهمك ان تعرف من يكون هذا القارئ فإنني أقول لك هو (انا) وتحديدا هو (انا) الآخر، والذي هو الوجه الآخر الخفي للكاتب الذي يسكنني وأسكنه، ولقد قلت دائما باني لو استطيع أن اقنع وامتع هذا القارئ الذي بداخلي، فانني بالتاكيد سأكون اسعد كل السعداء، ومن خلال هذا القارئ الذي بداخلي، ساتمكن من ان اقنع وان امتع كل العالم
الكاتب ومضاعفه الداخلي
وانا الكاتب الواحد يوجد في ذاتي صوتان اثنان. احدهما شاهد على الثاني، وهو ملتصق به، ومهمته ان يراقب ما يقوله وما
يكتبه وما يبدعه الصوت الأول، وبهذا اكون ذاتين في جسد واحد. وبخصوص هذا (الأنا) الآخر الذي يسكنني، من غير ان يوافقني، هو ضميري بكل تاكيد، وهو ضميري المستتر في اللا مكان وفي اللازمان، والذي يمارس فعلا نسميه النقد الذاتي، وهو صوت حاضر ويقظ دائما. وانني استمع اليه، وانصت اليه، وآخذ برايه. وهو يكلمني بغير كلام، وقد يجيبني، في احيان كثيرة، حتى من غير ان أساله، وهو يمارس حقه في الرقابة على ما اكتب وعلى ما ابدع، وهو يمارس اجمل واصدق النقد، والذي هو النقد القبلي على كتاباتي، ولأنه لا يخطئ في تنبيهاته وتحذرياته فانني اثق به ثقة تامة، ولقد أشعرتني كثير من التجارب بأن هذا النقد هو وحده الصحيح، وأن اغلب ما عداه باطل وبلا معنى وبلا فائدة، لأنه نقد صادق ياتي من الداخل، وياتي في وقته وحينه، وليس بعد خراب البصرة، وبهذا فقد كان نقدا عاشقا. وكانت مهمته ان يساهم في عملية الإبداع، وّهو نقد يشعرني بأنني كاتب حر، وبان كتابتي هي كتابة حيوية وليست ميكانيكية، وبانه من حقي ان اراجع ما اكتب، وهو يقترح على ان اشطب على هذا الكلام او على هذه الكلمة او على هذه العبارة، او على هذه الصورة، كما يقترح على أن امزق هذه الورقة، وعلى محو بعض ما كتبته.اومحو كل ما كتبته، وان اعود من حيث بدأت، اي إلى نقطة الصفر، وتحديدا الى تلك الورقة البيضاء. قبل ان اسودها، وهذا الصوت الداخلي هو الذي يكتب معي، وانني اثق به، واعتبره اول من يقرا ما اكتب، وهو عندي اصدق القارئين، وانني اعتبره اول النقاد، وانه أصدق كل النقاد، وانه اقربهم جميعا الي وإلى ما اكتب، وايضا، إلى الحق والحقيقة
وهذا الحوار الداخلي هو الذي يجعلني لا أفرج على كتاباتي، ولا اذيعها في الناس. إلا بعد ان يرضى عنها صوتي الآخر، والذي هو صوت الناقد المبدع، والذي يامرني واطيع، ويجعلني اشطب واضيف واحذف وأحول واستبدل كلاما بكلام، وأن اتخلى على كل او بعض ما لا فائدة فيه، وذلك قبل ان يخرج هذا المكتوب للناس. ويكون من المستحيل اعادة كتابته من جديد، ويكون البكاء وراء الميت خسارة، كما يقول المغاربة
انا الكاتب من أين اتيت؟
وهذا السائل الذي سألني عني. وعن فعل الكتابة، وهل أنا فعلا كاتب، قد يكون هو نفس السائل الذي سأل عبد السميع بن عبد البصير (من أين أتيت) وقد يكون عبد السميع هو أنا،واكون انا هو عبد السميع، وقد تتغير الأسماء في مسرحيات الوجود، ولكن المسمى واحد، ولذلك يقول عبد السميع في تغريبة ( عبد السميع يعود غدا) لمن يساله:
(-- تسألني من اين اتيت. واقول لك من كل الأمكنة التي اعرف يا صاحبي
-- وإلى أين تمضي الآن؟
-- إلى كل الأمكنة زالتي لا أعرف أنا،ولا تعرف انت، ولا يعرف أي أحد، وخريطة الروح اخطر كل الخرائط، فأسأل عن الإنسان ولا تسأل عن العنوان، واحذر أن تخدعك العناوين الخادعة)
نعم، هي العناوين خادعة دائما، وأكثر نقاد الاحتفالية اليوم يعرفون عنوانها فقط، ولا يعرفون فكرها،ولا يعرفون فنهاولا يعرفون علمهأ، ولا يعرفون روحها، وانني ادعو كل الذين يمارسون فعل النقد إلى ان يتعلموا فقه القراءة، وان يبحثوا قي قراراتهم عن الجميل والنبيل وعن الممتع وعن المقنع، وعلى إلا يقتصر دورهم على فعل الاتهام وعلى إطلاق الاحكام
يقول عبد السميع، في رؤيته الإنسانية والكونية للوجود.
أنالا ادين العالم، وابرئ نفسي، وهو يرى أن البراني هو مجرد صور، والتي قد تكون فب اغلبىالحالاتوخادعة ومضللة، وأنا الاحتفالي مؤمن. مثل هذا العبد السميع، بان الداخل والخفي في العقول وفي النفوس وفب الأرواح هو الأصل. وهو المبتدأ والاستمرار، وأن اصل كل هذا العالم موجود في اعيننا وفي قلوبنا وفي عقولنا، افلا تبصرون؟
و( لا أحد يهرب من نفسه.. الداخل هو الأصل يا صاحبي، ولو هدان نفوسنا وارواحنا، لهدأ كل شيء في الطبيعة، ولسكن كل شيء في هذه آلدنيآ )
وعن ماذا تبحث ايها المسافر الهارب؟ هو سؤال نور الدين الحكواتي لعبد السميع المقيم في السفر والساكن في الترحال؟ وانا الكاتب المفكر والمبدع مثله،وإنني اقول اليوم وغدا وفي كل يوم نفس قوله الحكم :
(وكل هذا الترحال يا سيدي، وكل هذا التسكع والتشرد، وكل سنوات التيه والضياع، كلها كانت من أجل نفسي الضائعة في دنيا الضياع،ووكانت بحثا عن روحي التائهة في متاهات الوجود والغريبة في أوطان الغربة. قل لي.. هل هناك ما هو أغلى منا حتى نبحث عنه؟)
ولأنه لا وجود في هذا الوجود لما أغلى منا وأصدق منا،فنني في كل كتاباتي وابداعاتي المسرحية لا لا ابحث إلا عنا،وما فائدة أن نربح كل العالم وان نخسر انفسنا؟
منزالنقد الجواني إلى النقد البراني
واذا كان لي بداخلي صوت صادق، يهمه جمال التفوس والأرواح، ويهمه جمال الكلمات والعبارات، فهناك شخص من خارج ذاتي، وهو لا يعمل، وبحزنه ويشفيه ان يراني اعمل، ومهمته هي ان يراني، وان يراقبني، وأن يتابع كل ما اكتب، وان يحسب كل خطواتي،ّخطوة بعد خطوة بعد خطوة. وهو لا ينظر الى كتاباتي بنفس العين التي ينظر بها الي ذلك القارى الذي هو وجهي الآخر، او هو قناعي الآخر، وقد يكون ما يهمه اساسا في كتاباتي هي الأخطاء، وهي التناقضات وهي الهفوات وهي السقطات وهي الفراغات والبياضات وهي المنسيات، وبالتأكيد فإن راي مثل هذا الناقد لا يهمني. لأنه لا يضيف للفكر والفن والعلم والآداب اية قيمة مضافة، ويكفيني في كثير من الأحيان أن أعرف اسم هذا الناقد او ذاك،حتى اعرف كل تفاصيل ما سوف يقول وما سوف يكتب
وعندما كتبت كتاب ( الاحتفالية مواقف ومواقف مضادة) بجزئيه الأول والثاني، تحدثت عن الآراء التي ناقضت افكاري، والتي ناقشتها، بموضوعية او بانفعالية او بمزاجية، اما بالنسبة للذين تعجبهم او لا تعجبهم مسرحياتي، فانا ما ثبت يوما انني ناقشتهم،
لأنني اعرف ان الفن ليس معادلة رياضية، تحتمل ان تكون صحيحة او تكون خاطئة، ولكنه شيء رمزي، يخاطب الروح والوجدان اولا، ويخاطب العقل والخيال ايضا، وهذا (الشيء) الذي نسميه مسرحية، يمكن أن يتذوقه المتذوقون وحدهم. ومن كان بلا ذوق وبلا خيال وبلا حس جمالي، وكيف يمكن ان أوصل البهم هذا الشيء الجميل والنبيل؟
وأعرف أن الذوق طبقات، بعضها أعلى من بعض، ولهذا فإن على البلد الذي (ينتج) الكتاب الكبار والمبدعين الكبار ان يعمل من أجل إيجاد القراء الكبار والمترجمين الكبار ايضا
وهذه الاحتفالية ليست مجرد أسماء تفكر وتكتب وتبدع في المسرح وفي الحياة ،اسماء قد نعرف بعضها فقط، ولكننا نجهل اغلبها، والاحتفالي الصادق هو من يعيش احتفاليته بصدق وامانة، وهو من يحاول ان يعرف كل الناس، والذي لا يهمه بأن يعرفه او يجهله الناس
ولهذا نقول بأن ما يميز هذه الاحتفالية هو أنها(مسار وجودي متكامل،مسار فيه الكائن والممكن، وفيه المحتمل والمحال، وفيه الظاهر والخفي، وفيه القريب والبعيدوالمستبعد، وفيه الحاضر والغائب والمغيب، وفيه المحسوس والمتخيل، وفيه الواقعي والافتراضي، وفيه البراني والجواني، ولعل اهم ما يميز هذه الاحتفالية هو انها كائن اعتباري معاند ومشاكس ومشاغب، وانها سباحة حرة ضد التيار،ةوانها فعل يومي سيزيفي يتجدد بتجدد الحياة البومية وبتجدد التاريخ، هي تفكير جاد وجديد بشكل دائم ومتجدد
وهذا ما يفسر ان يكون كل النقد الذي وجهه كثير من النقاد الى مسرحياتي قد كان نقدا بلا مردود، وبلا فائدة، وكان مجرد كلام ومجرد أحكام في الظلام، ولهذا فقد قلت دائما انا لا يهمني راي النقاد في المسرحية الاحتفالية، لأن الكتابة الاحتفالية في الإبداع، هي اساسا كتابة غير مدرسية وغير ايديولوجية وغير مزاجية، وبذلك فهي لا يمكن ان تخضع للمسطرة ولا للمحبرة، ولا لأصحاب القلم الأحمر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق