عيد عبد الحليم - مسرحنا
من المؤكد أن يوسف إدريس قدم مساهمات واضحة في المسرح المصري من خلال مسرحياته «ملك القطن» و»جمهورية فرحات» و»الفرافير» والتي كانت بمثابة رؤية تجديدية زاوجت ما بين الحداثة والتراث لتقديم فرجة مسرحية أقرب إلى حالة «التمسرح».
ويعد إدريس أول من تحدث عن «المسرح الاحتفالي» عام 1964 من خلال بيانه الشهير «نحو مسرح مصري» حيث يقول: «تلك الأشكال المسرحية الجماعية التي يشارك فيها الناس تلقائيا كثيرة الحدوث في حياتنا اليومية في الأفراح والمآتم والمناسبات، في الاحتفالات الكثيرة التي ابتكرها الجنس البشري كحجة (أحيانا مضحكة) للتجمع، مثل التجمع للاحتفال بطهور أحد الأولاد، أو الاحتفال بنزول النقطة أو أعياد الحصاد والمناسبات الدينية. أكثر من السهرات اليومية في البيوت بعد انتهاء اليوم والعمل، التجمعات التلقائية في الأسواق وبعد انتهاء البيع والشراء».
وليست المسألة في فكرة ورود كلمة (الاحتفال عند يوسف إدريس إنما في كونه بدأ يطبق الفكرة عن التماس ما بين الممثل والجمهور في عمله المسرحي (الفرافير)، لأن ما ذهب إليه إدريس هو الفكرة الأساسية في المسرح الاحتفالي.
لأن من أهم سمات المسرح الاحتفالي «أن القضية لم تعد محاولة معرفة أيهما، المؤلف أم المخرج المسرحي، يستحوذ ويتحكم في النص، ولا إلى أي مدى تؤثر الممارسة المسرحية النصية على خشبة المسرح بل بالأحرى قضية معرفة كيف يساعد الأداء والتجريبية المسرحية الممثل ومن بعده المتفرج على فهم النص على طريقتهما».
يقول إدريس: «إن الاحتفال يسعى إلى إيجاد الآخر المشارك في الإبداع، ومتى أصبح مشاركا فإنه يتخلى عن التفرج، الشيء الذي يعطي العرض تلقائيته وعفويته، وبذلك يصبح المسرح كرنفال، يشخص فيه الكل»
وقد شغلت هذه الفكرة كثيرا من المسرحيين المعاصرين ليوسف إدريس الذين التقطوا الخيط وبدأوا يطبقونها عمليا من خلال عروض تمزج ما بين التراث والمعاصرة، لخلق حالة مسرحية شعبية.
ولعل المسرح الاحتفالي في المغرب هو من أكثر المستفدين من فلسفة «إدريس» المسرحية، وقد جاءت التسمية من خلال «جماعة المسرح الاحتفالي» بالمغرب والتي شارك في تأسيسها كل من المؤلف والناقد عبد الكريم برشيد، والمخرج الطيب صديقي، والناقد عبد الرحمن بن زيدان، والمخرج محمد الباتولي، والمخرج عبد الوهاب عيدوبية، والفنانة ثريا جبران.
وانطلقت الفكرة من أن «المسرح فن شامل متكامل وأنه فعل جماعي، قائم على التجريب الميداني وعلى التطوع الإبداعي.
يقول عبد الكريم برشيد: الاحتفالية ليست مجرد شكل مسرحي قائم على أسس وتقنيات فنية مغايرة، بل هو بالأساس فلسفة تحمل تصورا جديدا للوجود والإنسان والتاريخ والفن والأدب والسياسة والصراع»
وانطلقت الفرقة من إطار نظري تمت صياغته وفق معطيات مكانية وزمانية محددة، وهذه التصورات قامت -في الأساس- من منطلق تجريبي والبحث عن هزة للذوق الفني لدى الجمهور «ليس المهم هو إعطاء تقنيات جديدة، سواء في التأليف أو الإخراج، ليس هو إدخال وسائل تقنية مغايرة، محدثة كانت أو متطورة عن أشكال فنية عربية تقليدية، إن الشيء الأكثر أهمية بالنسبة للاحتفالية هو إحداث ثورة في الذوق العربي».
المشروع الاحتفالي يطمح إلى «الشمولية»، إذ ينطلق من تأليف النصوص الدرامية وإخراجها ونقدها ليصل بعد ذلك إلى فعل التنظير، وفي جل النصوص المسرحية والبيانات التي تصدرها جماعة المسرح الاحتفالي، نجد هناك مجموعة من الثوابت والمتغيرات، والتقليعات الجمالية والمعرفية التي تشي بوعيها الضمني والصريح بأهمية التجريب في الوصول إلى صيغة مسرحية مغربية/ عربية متميزة.
وهذه الأفكار مأخوذة من رؤية يوسف إدريس للمسرح والتي أسماها ب(التمسرح) التي يزاولها الشعب والتي كانت عرضة لتبدلات والتغيرات وفقا لنظام الحكم والعقائد في تاريخنا منذ الفراعنة وحتى الآن.
وقد وقف إدريس عند مسرح السامر متحدثا عن أهميته وضرورة استلهامه عند إرادة تحديث شكل المسرح المصري، باعتباره مسرحا شعبيا، وليكن ذلك بديلا عن استخدام تقنيات المسرح الأوروبي التي ظلت مسيطرة على شكل المسرح العربي مما أفقده هويته.
وهذه الصرخة الإدريسية كان لها أثر واضح أيضا على بعض مؤلفى ومخرجي الستينيات والسبعينيات في مصر. حيث بدأ ظهور المسرح الاحتفالي في منتصف الستينيات من القرن الماضي من خلال المخرج عبد الرحمن الشافعي، والذي راح يبحث عن صيغة مسرحية شعبية، تستفيد من عناصر الفضاء المسرحي الشعبي، من خلال المكان، وقد اختار «وكالة الغوري» وفناءها الواسع بمنطقة الأزهر، واستعان على مستوى النص بالسير الشعبية مثل علي الزيبق وأدهم الشرقاوي، واستعان بمفردات الفن الشعبي من المداحين والمنشدين وعازفي الآلات الشعبية، وهذا ما أشار الشافعي في شهادة له حول تجربته المسرحية حيث يقول: « لقد تراكمت لدي مفردات وأساليب وأماكن وأحاسيس وأفكار وخبرات في الممارسة المسرحية، تناسلت وتوالدت عبر كل مسرحية وأخرى، لا تتكرر ولا تتشابه، وكل مسرحية تشكل بالنسبة لي خبرة خاصة في طريق طويل لم أنجزه بعد، إنني أصبو إلى البحث في شخصيات السير الشعبية عن موضوع اتخذه عن قصد ركيزة لبنية جديدة في المسرح المصري».
وفى هذا الإطار شكل الشافعي مع الكاتب يسرى الجندي ثنائياً مسرحياً، قدما من خلاله مجموعة من العروض التي التقطوا الخيط وراحوا يطبقونها عمليا من خلال عروض مسرحية، لاقت نجاحاً جماهيرياً قدمت في أماكن مختلفة «في وكالة الغوري وعلى خشبة مسرح السامر وفي مسرح الثقافة الجماهيرية «ومنها مسرحية علي الزيبق» التي استمر عرضها عاماً كاملاً وظلت تعرض بمسرح السامر حتى انفجار معركة، ثم تلاها «سيرة بني هلال» و»عاشق المداحين» وغيرها من الأعمال التي امتزج فيها التمثيل بفنون الغناء الشعبي والعزف الحي على الدفوف بدون زخرفة شكلية، وكانت مثل هذه العروض البداية الحقيقية لإنشاء مسرح السامر والذي افتتح عام 1971.
ولا ننسى كذلك تجربة محمود دياب خاصة في مسرحيته (ليالي الحصاد)، التي استخدم فيها تقنيات السامر الشعبي.
ومن هذه التجارب التي تأثرت بفلسفة إدريس المسرحية فرقة «السرادق» المسرحية، فهي جماعة مسرحية ـ من الهواة ـ ظهرت في الثمانينيات، على يد المخرج صالح سعد، وكانت تسعى نحو تحقيق منهج مسرحي استقرائي يبحث في الأشكال الاحتفالية الشعبية وتقاليد الحياة اليومية وهمومها كي تعيد تقديمها في رؤيا مسرحية، جمالية أمام جمهور احتفائي بطبعه.
وقد جاء في بيانها التأسيسي: أن الفرقة ستعمل وفق عدة مقترحات فنية جمالية هي أن الفن في جوهره احتفال، وهو ـ في أي صورة من الصور ـ يحمل طابعا سحريا مدهشا، فما الفن غير صورة مقننة لنتاجات الخيال البشري في حالاته الفطرية ـ الطبيعية ـ الأولى، والمتراكمة بشكل تلقائي في صورة مجردات، تتحول فيما بعد إلى واقع جديد ومُشَيَّأ، بمجرد مرورها عبر مصفاة العقل المتوهج».
ولقد رأينا فن «المسرح» في تلك العلاقة الحميمية «التلامسية» المباشرة فيما بين الممثل وبين الجمهور، حيث تكمن فيها عناصر السحر والعمل معا، وذلك من خلال القدرة التوليدية للمسرح ـ كظاهرة اجتماعية ـ على إبداع شرارة التواصل الإنساني الفعال «بالحركة والصوت والكلمة وبالإشارة والإيقاع» أيضا من خلال قدرة المسرح ـ كحالة جماعية متميزة ـ على إتاحة المجال لتبادل الأدوار والذوبان الجمعي في مناطق شعورية مستحيلة، وأزمنة لا شعورية حالمة، بعيدة الغور في أعماق كل من قطبي العملية المسرحية «ممثل/ جمهور».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق