عبد العليم البناء
من جديد تفقد الثقافة العراقية والمسرح العراقي واحداً من الرموز الثقافية والمسرحية المبدعة والأصيلة، برحيل الكاتب والمخرج المسرحي عكاب حمدي الذي كان عاشقاً، حد النخاع، للمسرح بكل تلاوينه، والذي كان استثنائياً وربما فريداً من نوعه، في محافظته الأنبار، وتحديداً في مدينته الفلوجة، بكل ما مرت به من أوضاع متباينة وتعقيدات شديدة ومصاعب، لاسيما حين داهمها ظلام الإرهاب الداعشي الوحشي، لكنه بمهنيته ومبدئيته ظل علماً شامخاً يرفرف بعطاءاته وإبداعاته في رحاب الوطن من شماله إلى جنوبه دون كلل ولا ملل، متمترساً برسالة وخطاب المسرح بكل ما ينطوي عليه من جمال، ونبذ للعصبية والظلامية والسوداوية والتخوين والتكفير لأبناء الوطن الواحد، وبقيت أحلامه وأنفاسه حتى آخر لحظة من حياته تنتشر في فضاءات المسرح الذي كان عشقه الدائم والأبدي لتفيض روحه محلقة من (مسرح الدنيا) إلى (مسرح الآخرة) دون انفصام.
بسبب حبه وشغفه بالمسرح منذ نعومة أظافره قام بدراسته وصقل موهبته بإصرار وعصامية عالية في معهد الفنون الجميلة في ثمانينات القرن الماضي، لينهل من مبادئه وعلومه على يد أساتذة أجلاء مزاملاً مجموعة من خيرة فناني المسرح العراقي، كان من بينهم المخرج الطليعي كاظم نصار، الذي يؤكد أن عكاب " نقل اسم مدينته (الفلوجة) من مدينة حرب إلى مدينة سلام ومسرح وجمال".
وبعد مسيرة حافلة من العطاء المسرحي الجاد والمثابر والكفاح والصمود أصر على زيادة معارفه في مسيرة المسرح الطويلة ليتقدم لدراسة المسرح مجدداً في زمن الطائفية والشوارع شبه خالية، طالباً في قسم الفنون المسرحية / الدراسة المسائية، بكلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد، وحسب الدكتور جبار خماط، كان يحكي له "كيف يجئ من الفلوجة الى بغداد / الكسرة ، وسط اشتعال الصراع الطائفي متنقلاً بين الأمكنة حتى يصل من دون أن يتأخر على موعد المحاضرات ! "، ليؤسس المنتدى المسرحي الجاد في مدينته الفلوجة في محافظة الأنبار عام 2008، الذي كان سفيرها المسرحي المميز مؤلفاً ومخرجاً في تقديم العديد من العروض المسرحية المهمة لينافس فناني العاصمة بغداد فضلاً عن فناني المحافظات، لاسيما في مسرح المونودراما الذي أبدع فيه أيما إبداع، وهنا يؤكد الدكتور حسين علي هارف " لقد جاهد طوال حياته من أجل إنبات الفن المسرحي في الأنبار العزيزة على الرغم من عدم توفر البنى التحتية لمثل هذا الفن .. وساهم كثيراً في تطوير فن المسرح في الفلوجة والرمادي".
وأقام أكثر من مهرجان مسرحي مهم في محافظة الأنبار.. وكان من اللافت أن يطلق على أحدها إسم الناقد الجمالي والكاتب والمخرج المسرحي الكبير الأستاذ الدكتور عقيل مهدي يوسف، ليقدم أكثر من دلالة وطنية وإبداعية، يستذكرها (عقيل مهدي يوسف) شاكراً وهو يؤبنه " شكراً على نبل مواقفه الإبداعية والأخلاقية الراقية حين كرمني بتسمية الدورة الأولى لمهرجان المسرح.. باسمي.. وهذا يدل على الوفاء والاخلاص والقيم الرفيعة.."
تولى الراحل مسؤوليات نجح في إدارتها، ففضلاً عن تأسيس ورئاسة المنتدى المسرحي الجاد في مدينة الفلوجة, ترأس فرقة المسرح فيها, وتولى مهمة مدير النشاط المدرسي في تربية الفلوجة، وكان عضواً في نقابة الفنانين العراقيين، ونقابة الصحفيين العراقيين، وشارك في عديد المهرجانات المسرحية التي حصد فيها العديد من الجوائز والتكريمات ناهيك عن الحضور الإبداعي الرصين، وكان آخرها تكريمه في مهرجان المسرح العربي الرابع عشر الذي أقامته الهيئة العربية بالتعاون مع وزارة الثقافة والسياحة والآثار ونقابة الفنانين العراقيين ودائرة السينما والمسرح، ضمن كوكبة لامعة ضمت عشريناً من فناني المسرح العراقي.
لقد كان الراحل محبوباً معطاءً وفاعلاً مسرحياً لم يغادر المسرح ولا غادره المسرح مذ عرفته في الثمانيات، ليترك بصماته المميزة في المجال الثقافي والمسرحي لمحافظة الأنبار ومدينته الأثيرة (الفلوجة)، ليرحل إلى الرفيق الأعلى وهو يعيش الفصل الأخير من عشقه وهوسه الدائم بالمسرح مشرفاً على إخراج ونصب ديكور، مسرحيته الأخيرة (اللعبة) من إنتاج منظمة المكفوفين وضعاف البصر في الفلوجة وبالتعاون مع منتدى شباب ورياضة الفلوجة، ومن تأليف د.عبد علي كعيد للمشاركة بها في المهرجان العراقي للمكفوفين في محافظة النجف الأشرف، وكانت من تمثيل نجله (معاذ) الذي تتلمذ على يديه ولعب أدوار وبطولة العديد من عروضه، وتشرب تجربته ومسيرته الشاقة والصعبة ودأبه ومثابرته وعصاميته، فصار الوالد قدوته ومعلمه الأوفى والأفضل، وسيظل (معاذ) وفياً لمسيرة هذا المخرج والمؤلف المسرحي الأصيل الذي تحدى الصعاب، وكلنا ثقة بأنه سيكملها بحرص وتفان ومسؤولية وإبداع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق