ظافر جلود - الزوراء
الفنان الأستاذ والمعلم قاسم محمد من الجيل الثاني من المسرحيين والمخرجين الذين شهدتهم المسارح العراقية بعد ثورة تموز عام 1958، لعب منذ عودته من دراسته في معهد الفن في موسكو عام 1968 دورا نشيطا في الحركة المسرحية العراقية خلال سنوات السبعينات والثمانينات، أستاذا حداثيا ومعلما تربويا ومخرجا وممثلا متمكنا على نحو خاص.
كان قاسم يتنفس المسرح ويعيش وهجه ورحويته، أينما حلّ وكيف ما توجه.. هو من ارتأى ذلك وأراده.. فكان مشجعا على الفن.. حاثاً عليه، ومحفزا أبناءه على الانخراط في مجالاته. وهكذا تخصص تلامذته في مجالات الدراما المختلفة.
وأهمية قاسم محمد تأتي بالدرجة الأولى من خصوصية مسرحه وبحثه عن قالب يستخدم فيه المؤثرات والعناصر الدرامية من نصوص معينة لتأصيل العرض المسرحي المحلي ذي الطابع الشعبي. نحو الأصالة هي التي فتحت عيونه على هذا العالم في وقت مبكر منذ دراسته في معهد الفنون الجميلة في بغداد بين 1958 و1962، وكان قاسم محمد الذي استمر بالعمل مع أستاذه في معهد الفنون الجميلة على رغم اعترافه المتأخر بأن استمرار أستاذته بالمعهد في تقديم مسرحيات عالمية يعدّ نوعا من تكريس لواقع كان هو نفسه يدعو لتغييره. وكان اطلاع قاسم محمد على المسرح الروسي أثناء دراسته في موسكو عاملا آخر أسهم في تعميق إحساسه بضرورة العمل على خلق ما كان يسميه (مسرح وطني عراقي).
لذلك فأن قاسم محمد يعتقد أن كثيرا من التراث والفولكلور الشعبي العراقي والعربي يحوي مظاهر مسرحية وجذورا درامية يمكن استغلالها والإفادة منها. وهي كما يقول لا تحتاج إلا الى قليل من الخبرة المسرحية كي تصبح عروضا مسرحية ممتعة ومعبّرة وقادرة على أن تمنح وجها وطنيا نقيا للمسرح العراقي والعربي.
ولهذا فان محاولته هذه ليست جديدة، كما هو معروف، إذ إنها تندرج ضمن اتجاه عام ظهر في أكثر من بلد عربي ينادي للبحث عن قالب مسرحي (غير مستورد) يكون نابعا من طبيعة الحياة العربية وملبيا لاحتياجات الطبقات الشعبية العريضة فيها، ويمكن لهذا القالب أن يعتمد الأشكال المسرحية الشعبية التي توجد في تراث وفولكلور أكثر البلدان العربية. فهي تحاول عبر المزج بين حكايات تراثية وفولكلورية ومعاصرة، واقعية وأسطورية، أن تعرض واقعا خاصا يختلف في شكله ومحتواه عن الواقع الذي تعرضه المسرحية الأوروبية، أو تلك المتأثرة بها. فهذه النصوص لا تملك خصائص المسرحية الأوروبية أو الآرسطية ذات العقدة والبناء الدرامي النامي والمتطور، وإنما هي، كما يسميها قاسم محمد، عروض لها خصائص الرواية الشرقية القديمة في التنويع والانتقال من موضوع الى آخر. وعرض أشخاصا وحالات وظواهر من واقع الحياة الشعبية القديمة والحديثة بما فيها من تناقض واختلاف هو التعبير عن واقع التناقض الموجود في الحياة الشرقية نفسها في الحاضر كما في الماضي.
وهي تتخذ على الخشبة شكل عروض شعبية المقصود بها الفرجة والتسلية الى جانب التعليم وأخذ العبرة.
ففي الستينيات عزم قاسم محمد على اكمال ثقافته الاكاديمية والاستزادة من تجارب العروض المسرحية العالمية، فسافر الى موسكو لإكمال دراسته المسرحية، حيث انضم الى معهد الدولة في موسكو وتخرج منه عام 1968 ليعود الى العراق واحلامه في ان يطرح ما كان يخطط له بأسلوب فني وجميل مما جعلت تمارينه مع الممثلين ان تحقق ثمارا كانت الاساس في ذلك، اسلوب تحريكهم وترجمة قيادة هذه المجاميع بأشكال اضفت جمالية التعبير من خلال رؤى بصرية، هذا الاسلوب نجح من خلاله على تجسيد الرمز والتعبير من خلال هذه المجاميع والذي اجهد نفسه في التركيز على التمارين المكثفة والتي يؤمن بها على انها تضفي للممثل جسدا مرنا ليساعده على تحريكه وفق متطلبات الحركة المرسومة له من قبل المخرج، وهكذا كان له النجاح في تطبيق رؤاه على المسرح. لقد قدم قاسم محمد اعمالا عديدة رسخت مفاهيم جديدة واساليب حديثة في العروض المسرحية العراقية والعربية، وتركت اثارا لم ينساها الجمهور العراقي والعربي منها: النخلة والجيران، ومسرحية انا ضمير المتكلم، ومسرحية بغداد الازل بين الجد والهزل، والخرابة، ومسرحية شيرين وفيرهاد، ومسرحية كان ياما كان، وتموز يقرع الناقوس، ومسرحية طير السعد، ومسرحية الشريعة، ومسرحية الباب، ومسرحية الصبي الخشبي والتي عرضت من على قاعة المسرح القومي في كرادة مريم في بغداد.
فقد وجد اثناء دراسته في موسكو أن أبرز خصائص المسرح الروسي هي قدرته عن التعبير عن الواقع الروسي والشخصية الروسية. وقد بدأ أثناء دراسته هناك كتابة مسرحية أسماها (الملحمة الشعبية) وأتمّها، كما يقول، عام 1978 في بغداد. وعلى رغم عدم رفضه للتغييرات الإيجابية في المسرح الأوروبي، فما كان قاسم محمد يريد تحقيقه وراء كتابة هذه المسرحية هو أن تكون عراقية صميمة.
وهذا النص إلى جانب نصوص أخرى مثل النخلة والجيران التي أعدها عن رواية غائب طعمه فرمان بالاسم نفسه، ومسرحية بغداد الأزل بين الجد والهزل المعدة عن تراث الجاحظ، ومجالس التراث التي تدور حول حياة أبي حيان التوحيدي وكتبه، وكان يا ما كان المعدة عن بعض الحكايات الفولكلورية العراقية وولاية وبعير المعدة عن مسرحية سعد الله ونوس الفيل يا ملك الزمان وغيرها، تندرج في هذا الإطار الذي يحاول التأكيد على هذا الجانب.
لقد حاول قاسم محمد بالبحث عن الجديد في المسرح، فكان هدفه ان يسبق اساتذته بالتجديد والتطوير، واستحداث اساليب ومدارس جديدة في الطرح بمضامين فكرية في اشكال فنية لم يسبق وان طرحت قبلا من على خشبة المسرح في العراق، والمعروف عنه انه كان كثير البحث والاطلاع في الكتب والمصادر، فهو يسعى خلف بصيرته المتفتحة ورؤيته الناضجة، وفق خيال مبدع ومبتكر هدفه ان يجد رافدا من روافد الابداع والتجديد في المدارس المسرحية، ان قاسم محمد ينبوع من ينابيع التجديد للأساليب الحديثة في الطرح والمضامين الفكرية لأشكال لم تطرح من على خشبة المسرح في العراق وربما في الوطن العربي، ولهذا كان يطرح ما عنده على بعض الاساتذة، فيقابلوه بابتسامة يترجمها على انه مازال يعيش التجربة في مختبرات المسيرة الفنية للمسرح العراقي، فكان يزداد عزيمة واصرار على تطبيق ما يؤمن به، رغم بعض الالم والحسرة منها لهذا العدم المبالات لأفكاره ولابتكاراته المتجددة للمسرح الا انه لا يكترث لها بقدر ما كان يزداد اصرارا على صحة آرائه مما دعاه الى التقصي والبحث في الكتب التراثية والعربية، والبحث في مجلدات الف ليلة وليلة.
قاسم محمد ذو نكهة وتميز في العراق، نكهة متمايزة بفضل توليفة خصوصيتها التي تضفي وقعاً جميلاً على أهمية الدور الذي لعبه والمهام التي اضطلع بها، إذ لم يؤطر نفسه، في سياق تلك المرحلة، في جهة عمل واحدة، بل استمر ابناً ومبدعاً باراً بالمسرح العراقي عموما، يأبى أن ينطوي أو يتوقف عند حد ما. وبذا كان ممثلاً ومخرجاً وباحثاً وفاعلاً، في أكثر من فرقة مهمة ومعروفة. وهكذا توزعت تجربته وعطاءاته لتشمل: «مسرح معهد الفنون الجميلة» «فرقة الشعلة “،” المسرح الحر»، «المسرح الفني الحديث»، «الفرقة القومية».
كما أن تجريه قاسم محمد في العراق لا يمكن أن تنفصل عن محاولات أخرى جرت أيضا في المغرب على يد الطيب الصديقي وعز الدين المدني في تونس، لاستغلال مقامات الحريري وتقديمها في عرض مسرحي ناجح. كذلك استغلالهم لمسرح الحلقة والمسرح الاحتفالي.
وليس هناك من شك عندنا أن قاسم محمد اطلع على كل هذه المسارح ورأى بعضها وتأثّر بها، على رغم أنه لم يحدد نفسه بشكل مسرحي معين، وأنما حاول أن يمد بصره الى تراث بلاده وفولكلورها الشعبي من أجل توظيفه في مسرحه الشعبي هذا.
فمثلا في مسرحية «كان ياما كان» اعتمد على أربع حكايات شعبية وجدها في مجلة التراث الشعبي العراقية. وأهم هذه الحكايات التي يقوم عليها العرض حكاية ابنة الملك التي خرجت خلافا لأختيها على طاعة أبيها الملك محافظة منها على مبدأ الصدق الأخلاقي مع نفسها وتحاشيا للسلوك المنافق لأختيها من أجل تحقيق مصالحهما الشخصيّة. وواضح أن بعض عناصر هذه الحكاية تتشابه وحكاية الملك لير مع بناته في مسرحية شكسبير المشهورة.
لكن قاسم محمد يرى أن الحكاية العراقية أقدم من مسرحية شكسبير نفسها. والعرض الذي قدمت فيه هذه الحكايات يعتمد على مغنّ وكورس يؤديان بالتناوب بعض الأغاني الشعبية التي تعلق على الأحدث وتصف بعض المواقف، والمسرح الذي جرى عليه العرض كان عاريا تقريبا تلعب فيه الإضاءة دورا محدودا وتقتصر وظيفتها على تحديد أماكن الشخوص والحدث.
واخذ من أدب أبي حيان التوحيدي مسرحية «رسالة الطير» التي تمثل تجسيدا لأدب وفلسفة رسائل ابن سينا، كذلك “كان يا مكان»- عن الموروث الشعبي، «الملحمة الشعبية»- مأخوذة من التراث،» مقامات الحريري» وهي عن مقامات الحريري، «الزمن المسوس» التي تحكي عن محاورات السميساطي، «لا أحد يستطيع أن ينسى النخلة والجدران»- عن رواية غائب طعمة فرمان. وهناك أيضا، العديد غيرها.
لم تفقد الساحة المسرحية العراقية، إلى اليوم، بريق جماليات أعمال قاسم محمد وقيمتها. ومن بينها: «بغداد الأزل بين الجد والهزل» المأخوذة عن أدب الجاحظ، «شخوص وأحداث في مجالس التراث». إضافة إلى ارثه الخالد كأستاذ في معهد الفنون الجميلة في بغداد، حيث درس وتخرج، على يديه، مسرحيون (أصبحوا مبدعين بارزين وأسماء لامعة)، يعدون بالعشرات، بل بالمئات، انتشروا للعمل مع شتى المسارح في الوطن العربي.
لقد حازت تجربة قاسم محمد، في دولة الإمارات العربية المتحدة، جملة سمات نوعية، تجلت فيها أطر التجديد والابتكار، والاشتغال على رؤى مسرحية مميزة، فمعظم أعماله تركز في سياق توليه لمهام جسام في خلق رؤية مسرحية تواكب نصوصاً تاريخية ذكية ومتقنة في محولاتها وإسقاطاتها، وأخرى ذات صبغة التزام بقضية محورية. وهنا، ومع هذه الروحية، أخرج قاسم محمد مسرحيات الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة. وهي: «عودة هولاكو»، «القضية»، «الواقع صورة طبق الأصل». كما أنه أخرج العديد من عروض مسرح الشارقة الوطني. وقدم مجموعة متكاملة من الورش والدورات والملتقيات المسرحية.ويعد ابا زيدون، رحمه الله، من المسرحيين العرب البارزين، الذين اهتموا بتوظيف البحث العلمي المنهجي في حقل تطوير المسرح بكافة تخصصاته. فجسد بهذا الخط، نموذج المبدع العقلاني، الحريص على تذخير شتى التجارب الإبداعية، بمساق أكاديمي يكفل تحقيق الفائدة الأكبر للشرائح جميعها.
لم يكن موت قاسم محمد في السادس من نيسان عام 2009 أثر مرض عضال، ونقل جثمانه الى بغداد، ولم تكن مسيرة تشييعه، شبيهاً بما اختاره من هدوء يواكب صخب الإبداع في حياته.. فرحيله أحزن الجميع، فأبت عشرات الآلاف إلا وأن تشارك في وداعه الأخير، وكان تشييع جثمانه في بغداد مسقط رأسه، التي عاد إليها محمولا، تكريما فريداً لهذا المبدع الذي أخلص للمسرح والإبداع عموما، فبقي وفياً لمشروعه الفكري، يغادر ويغامر لأجله وبحثا عن متنفسه وبيئته، إلى أن وافته المنية، فأعلنت نهاية رحلة السندباد في غربته الذي عاد منها إلى شواطئ دجلة لينام على ضفافها إلى الأبد.
واخيرا تبقى مدرسة الفنان قاسم محمد نبراسا لمسرح متجدد ومعطاء، بعد ان غادر خشبة المسرح والحياة.. انه الرمز الخالد في المسرح العراقي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق