مجلة الفنون المسرحية
فاتحة الكلام
رحلت نعيمة المشرقي.. واقول رحلت. او سافرت. ولا اقول اية كلمة اخرى. وما هذا الوجود الا رحيل بعد رحيل بعد رحيل الى ما لا نهاية، فهي ممثلة. ومن حقها ان تنتقل من دور إلى دور. ومن مسرح إلى مسرح. ولكنها ابدا ستظل حاضرة بيننا وفينا ومعنا..
لقد رحلت تلك التي اسعدتنا بصدقها. والتي افرحتنا بفنها. والتي علمتنا بدون معلم. اي تلك الممثلة التي كان اسمها في احدى مسرحيات الطيب الصديقي (خيرة )
وبرحيلها يرحل عصر كامل ..عصر الصدق والمصداقية. وعصر الذين كانوا أساتذة أنفسهم. والذين تعلموا الحياة في مسرح الحياة.. وتعلموا علوم المسرح وفنون المسرح في مسرح الوجود
وفي اغنية (راحلة) للشاعر الغنائي الكبير عبد الرفيع الحواهري يقول العندليب محمد الحياني رحمه الله
( فهل يرحل الطيب من ورده
وهل يهرب الظل من غصنه؟
احقا كما ترحل الشمس هذا المساء
ترى ترحلين
وفي همساتي ولحني الحزبن
يموت انشراحي
تنوح جراحي
وفي الحي في كل درب
سارشف دمعي
ساعصر قلبي)
وداعا .. أقولها لك ولكل المبدعين الصادقين، والذين صنعوا عصرنا الذهبي. في الشعر وفي المسرح وفي الغناء وفي الموسبقي وفي القصة وفي الرواية وفي التشكيل وفي الفكر الفلسفي وفي المقالة الصحفية وفي الحلقة الشعبية وفي كل الآداب والعلوم والفنون
نحن والكلام والآخر والكلام
نحن والكلام. الآن هنا. والآخر والكلام هناك، في الأزمان الأخرى، هو عنوان واحد لملحمة شعرية واحدة بعمر تاريخ البشرية
وقد يتكلم المتكلم لأنه يعرف. او لأنه يريد أن يعرف. او لأنه يتوهم انه يعرف. وفي كل الحالات والمقامات،فإننا لا نملك سوى ان نتكلم، وبغير هذا الكلام لن يرانا اي احد. ولن يعرفنا اي احد، ولن يحس بوجودنا احد..
ونحن في هذه الاحتفالية قد لا نعرف كل شيء. ولكننا نعشق ان نعرف كل شيء، ولعل هذا هو ما يبرر ويفسر اصرارنا السيزيفي على الكلام وعلى الكتابة وعلى الحوار وعلى الحضور وعلى الاحتفال والتعييد. وقد يصل هذا الكلام درجة الصراخ. عندما يكون الصراخ ابلغ من كل كلام.
وفي كتاب ( مسافر وجهته السحاب ) يقول الاحتفالي ما يلي:
( إنني انا الكاتب،عبد الكريم برشيد. سواء في هذا الكتاب او في غير هذا الكتاب، لا أدعي في العلم فلسفة. ولا اقول بأنني احيط بكل شيء علما وفهما. واعرف بأنني لا أعرف إلا ما قدرت على معرفته، لو انني كنت اعرف كل شيء. في عالم الناس، وفي فقه الأشياء، ما قضيت العمر كله في السفر والرحيل، وفي التامل والنظر، وفي النبش والحفر، وفي القراءة والكتابة، وفي الهدم والبناء، وفي الحفظ والاستظهار، وفي الكتابة والمحو، وفي الشك واليقين. وفي البحث والسؤال، وفي طرق الأبواب الموصدة، وفي اقتفاء أثر العلماء العارفين والسالكين في دروب المعرفة والحكمة، ولهذا فقد كنت دائما على علم بحجم (علمي) و( ومعرفتي)
وانني انا الاحتفالي المتكلم والكاتب اتساءل دائما:
-- ماذا يمكن ان تكون هذه الاحتفالية سوى انها كلامها. والذي هو صراخها ايضا. والذي قد يصل درجة الرفض ودرجة التمرد ودرجة الثورة
-- وماذا يعني ان يكتب الكتاب اليوم. وان يبدع المخرجون والممثلون. وان يصمت النقاد والدارسون. وان لا يتكلموا إلا في الندوات المدفوعة الأجر؟ والا ينطقها بالكلام والاحكام إلا في المواضيع الغريبة والعجيبة، والتي تطرحها عليهم كثير من الندوات. والتي هي، في اغلبها، مواضيع متحفية ومواضيع مدرسية ومواضيع بالية وقدبمة.
في كثير من ندوات المهرجانات اليوم لا تحضر المبادرة العلمية. ولا تحضر المخاطرة الفكرية. وهي ندوات لا تعطي الباحث حرية اختبار اسئلته واختبار مسائله واختيار موقفه. وهي تحدد له الموضوع اولا. وتحدد له وقت مداخله ثانيا، ثم بعد ذلك تمر إلى تلك اللازمة المدرسية والتي هي:
حلل وناقش ..
كثير من النقاد ومن الباحثين ومن الدارسين نسوا اليوم فعل الكلام الحر. ونسوا فعل الكتابة الحية والحيوية. ولقد تعودوا ان لا يتكلموا إلا أمام الميكرفونات وامام الكاميرات وأمام جمهور لا يعنيه ولا يفهم اغلب ما يقال
ولعل أسوأ شيء، في واقعنا اافكري والجمالي، هو أن يتكلم الواقع. وان تتكلم الوقائع فيه. وان يظل الإنسان المثقف مختبئا في صمته المريب. ومندسا في غيابه او في غيبوبته. ومتقنعا بقناع كلام برتوكولي. به تضخم في الانشائية اللفظية. ولكنه فقير جدا إلى الفكر وإلى العلم وإلى الفن
نحن والمسرح والمسرح والوجود
ويقول الاحتفالي في كتاب ( مسافر وجهته السحاب )
(لقد عشقت المسرح. لأن الحياة مسرح، وانا في مسرح هذا الوجود قد حرصت دائما على أن اكون بطلا مسرحيا، وأن أكون شخصية من شخصياته، وليس مجرد صوت في كومبارس، ولقد عشقت فعل التفكير ، و( اقترفته) ايضا، عن سابق إصرار وترصد، لأن غرائب المخلوقات والمشاهدات قد استفزتني وتحدتني. وقالت لي: ( فكر ان كنت تقدر) وكان فعل هذا التفكير الحر أيضأ. اقتناعا مني بكوجيتو ديكارت ( انا افكر اذن فأنا موجود) ولقد حاولت أن اعبر عن وجودي في الوجود بالتفكير الحر)
والمطلوب من كل الأسرة المسرحية اليوم ان تخرج من صمتها. وان تخرج من غيابها. وأن تؤمن بان شرط وجودها يمثله كلامها. ويمثله حضورها. ويمتثله حريتها. ويمثله شغلها الفكري والجمالي. ويمثله قدرتها على البحث والتحريب وعلى مواجهة أسئلة العصر الحقيقية
ولأنني احد الشهود. على العصر وعلى التاريخ. فإنني اسمح لنفسي بأن اقول لكل المسرحيين. في المغرب وفي كل العالم العربي الكلمة التالية
-- ايها الراقدون فوق التراب افيقوا .. افيقوا.. واعلموا بان مثل هذا الرقاد لا يليق إلا بالموتى. او بأصحاب الكهف. والذين هم في درجة وسطى بين الحضور والغياب وبين الحياة والموت..
وماذا يعني ان يصمت النقاد اليوم؟ وتحديدا في هذا المنعطف التاريخي الصعب؟
وما معنى ان يصبح حضورهم حضورا موسميا. مرتبطا بتظاهرة مسرحية لا يتعدى عمرها بضعة ايام. لها بدء بهرجاني ولها ختام كرنفالي.. ثم تنطفي الأضواء. ويفرنقع الجميع. على أمل اللقاء في بمهرجان اخر
ونحن الذين تكلمنا وكتبنا وصرخنا، في هذه الاحتفالية المتكلمة والمشاغبة، يكفينا في رحلة البحث عن المعرفة العلمية والشعرية والحكمة الصوفية.د هو اننا قد ادركنا شيئا واحدا. وهو اننا قد عرفنا ان فعل التكلم هو فعل انساني. وانه فعل حيوي. وانه فعل مدني، وأنه لا يجوز ألا نتكلم في كون تنطق فيه البحر والنهر. وينطق فيه الحجر والشجر وتنطق فيه الأشياء والبشر. وتنطق فيه الأيام والقدر
من يلعب بالكلام ومن يلعب
به الكلام
ونحن مع الكلام لنا قصة طريفة. قصة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب والحيرة والشك والسؤال. وفي هذه القصة قلنا وكتبنا. بان بعضنا يلعب بالكلام، وبان اكثرنا تلعب به الكلمات والعبارات والمصطلحات والشعارات. وهناك من يقول قوله، وهو يعرف ما يقول، ويعرف معنى ما يقول، ويعرف حدود ما يقول، وهناك من يقوله القول ما لا يريد أن يقوله، ولهذا فان اسوا ما اخشاه. انا الكاتب، هو مكر الكلام. والذي قد لا يقل خطورة عن بعض الفاعلين من عباد الله، وفي كتاب ( الاحتفالية وهزات العصر) يقول الاحتفالي ما يلي:
( هذا الوجود هو حفل كرنفال، وأنه ليس في هذا الحفل التنكري إلا الأقنعة، اما الوجوه فليس لها وجود، وأن اخطر الأقنعة، ليست هي تلك الأقنعة الحسية، والتي يرتديها الممثلون، ولكنها تلك الأقنعة المعنوية الأخرى. والتي تتمثل في الأسماء والكلمات، ولا شيء أخطر من كرنفال اللغات ومن كرنفال الأسماء، وانطلاقا من هذه الاقتناع، فقد تعاملت الاحتفالية بحذر شديد، وذلك مع الكلمات ومع المصطلحات، ولم تنجرف مع اقنعتها، والتي قد تظهر مرة في صورة مصطلحات ( علمية) أو في صورة شعارات عقائدية او حزبية)
واذا كانت العملة المزيفة تخرب الاقتصاد. فإن الكلام المزيف، يمكن ان يفسد العلاقات الإنسانية. ويفسد المؤسسات، ويفسد المجتمعات، ويفسد الفكر، ويفسد الفن، ويفسد العلم ايضا. وفي مسرحنا اليوم كثير من الكلام المزيف والمتقنع باقنعة كرنفالية. وفي هذا المسرح كلام كثير،، وفيه إبداع قليل. وفيه مزاعم وادعاءات. وفيه حروب دنكشوتية وفتوحات وهمية كثيرة جدا .
وبحسب الاحتفالي و الاحتفالية، فان كل الكلمات ينبغي ان تكون بريئة. وان تكون صافية وبلا لون، تماما مثل الماء ومثل الهواء. ولا بأس بعد ذلك ان تكون لها ظلال حسية ورمزية كثيرة جدا، وأن تكون بكل الألوان الكاىنة والممكنة، وبحسب الاحتفالي والاحتفالية دائما، فان أكثر معاني الكلمات موجودة في صدور من ينطقها. وفي اذن من يسمعها. وفي عقل من يفهمها، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي:
ان البيت (عندما نسكنه يكون بيتا، ويكون مسكنا، اما عندما نغادره فإنه يتحول إلى اطلال وخراب) هكذا تحدث الاحتفالي في كتابه (كتابات على هامش البيانات)
وفي التعليق عن هذا البيت. والذي يمكن ان يكون بيتا واحدا، وان تكون له أسماء متعددة. يقول الاحتفالي في كتاب (الاحتفالية وهزات العصر)
(هو بيت واحد اذن، ولكن صورته يمكن ان تتغير، تماما كما تتغير اسماؤه، فهذا البيت بيتنا نحن. اذا كانت مفاتيحه بين ايدينا طبعا، وكنا بداخله احرارا، (اما اذا كانت هذه المفاتيح بيد الغريب، وكان هذا الغريب يحمل اسم السجان، فإن بيتنا لابد ان يصبح سجنا، وتكون أبوابه علينا وليس لنا)
وهذا هو حال المسرح المغربي والعربي حاليا. فهو بيت من يملكه. وهو غرفة مساجرة في فندق. وهو زنزانة في سجن. وكل الثورة الاحتفالية قائمة على اساس ان ان يكون هذا البيت المسرحي بيتا حقيقا. وان يكون المبدع فيه مالكا لذاته وللغته ولثقافته ولأسئلته ومسائله الوجودية والاجتماعية والفكرية والسياسية
ويقول الاحتفالي في نفس كتاب ( الاحتفالية وهزات العصر)
(وهذا هو حال المسرح عندنا، وحال السينما. وحال الرواية، وحال التشكيل ايضا، انها كلها بيوت نقيم فيها ولا نسكنها، وهي غرف في فنادق مرة وزنازن في سجون مرة اخرى، ونحن في هذه الفنون - السجون - عابرون ومعتقلون، لأن مفاتيحها ليست بأيدينا، ولعل هذا هو ما جعل البيان الأول للمسرح الاحتفالي يطالب بان يمتلك المحتفل المسرحي كل الدعوة اى إعادة اكتشاف اللغة. وإلى ومن حقنا بلا شك. ان نعرف في حياتنا، وفي حياة فكرنا، ثورة ثقافية حقيقة، وان نبدا من درجة إعادة اكتشاف الكلام. ومن درجةالنبش في اسرار الكلام. وذلك حتى تسمي كل شيء. وكل فعل. باسمه الحقيقي
وينبغي ان نعترف. بانه في مجال هذا المسرح المغربي والعربي. يوجد اليوم كثير من الأمية. ويوجد كثير من الأميين. ويوجد كثير من اشباه المتعلمين واشباه المسرحيين.
نحن والآخر ولعنة العبقرية
إن الاحتفالية اساسا حرية وتحرر، انطلاقا من عين حرة. وانطلاقا من وعي حر، وانطلاقا من ارادة إنسانية ومدنية حرة، وانطلاقا من حسابات اجتماعية سليمة. وهي في كل كتاباتها الفكرية تؤكد على ما تسميه بالنسبية السيكولوجية. وذلك لأن النسبية تحكم علاقتنا بذاتنا، وتحكم علاقتنا بالأشياء، وتحكم علاقتنا باللغة، وتحكم علاقتنا بالوطن وبالعالم، وعليه. فقد سمح الاحتفالي لنفسه ان يقول ما يلي، ليست كل العيون تبصر. وليست كل العيون ترى بنفس القوة وبنفس الحدة وبنفس الدقة. كما أنها لا ترى ما تراه من نفس الزاوية. و لا من نفس الموقع، وفي كل عين من العيون ميزان. وليست كل العيون يمكن ان تزن مشاهداتها بنفس المبزان ولا بنفس المقاييس والمعاير. فهناك عيون استثنائية تزن ما تراه بعين الماس و الذهب. وهناك عيون اخرى تزنه بميزان الخشب او الحطب، ولا شيء في هذه الحياة الاحتفالية ثابت وجامد. وكل ما نشاهده متحرك في ذاته، ومتحرك في العين ايضا. وذلك في عالم يتحرك ويتغير ويتحول بشكل متجدد. وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي بان الوجود داخل الأشياء ليس مثل الوجود خارجها. وان الوجود ( خارج الوطن ( هو) منفى. وقد يكون الفن خروجا من الذات، وقد يكون الاختلاف وقاحة، ويكون الإبداع المؤثث بالهذيان صعلكة. وتكون العبقرية جنونا، ويكون الاحتفال هروبا، ويكون التنظير فلسفة وهلسفة، وبهذا المنطق تم التعامل مع الاحتفالية)
وهذه الاحتفالة عاشت الغربة والمنفى. فقد وجدت نفسها تقتسم الزمن وهذا الفضاء مع من لا يعرفها ومع من لا يفهمها، او لا يريد أن يفهمها. وبالنسبة للاحتفالي فإن( المنفى لا يرتبط بوجود المسافات المكانية فقط، لأنه يرتبط - قبل ذلك - بالمسافات الفكرية والنفسية والروحية، والتي قد تباعد بين الإنسان وجسده. والإنسان وفكره، وبين الإنسان ورؤيته، وبين الاتيان وموقفه)
يقول الاحتفالي في كتاب ( كتابات على هامش البيانات)
( والعبقرية. أليست منفى ايضا؟
فهي تسبق زمنها، وترى وحدها، وتدرك الغد الذي لم يات بعد، تدركه وتقبض عليه، وتعيشه قبل اوانه)
وخوفا من هذه العبقرية التي تؤدي إلى الغربة والمنفى، فقد قال القائلون ( سيروا بسير ضعفائكم) وفي احتفالية ( فاوست والأميرة الصلعاء) نجد شخصية الزيبق. والذي اعطي في المسرحية زي الخادم.مع انه لا يتناسب مع عبقريته .. يقول
( ان العبقرية أكبر جرم في عرف الناس التافهين. وما اكثرهم في هذا الوجود)
الحياة زئبقية. والحقيقة متنكرة. والساعات منفلتة. والوجوه مقنعة. والكلمات ماكرة. والأزياء مزيفة. والأيام غير وفية، وأكثر العقول لا تعقل شيئا. وأكثر الفقهاء لا يفقهون شيئا. والساعات بعد الساعات كلها ساعات ماضيات إلى حيث لا أحد يدري.. والعاقل هو من يحيا الحالات في لحظتها. وان لا يؤجل الاحتفال بها إلى اليوم الآخر، او إلى الساعة الأخرى، وان يدرك ان ( الحالات تتدفق، ونهرها لا يكف عن الجريان. ولا أحد يمكن ان ينزل النهر مرتين، والمهم هو ان تستحم بماء الحالات، وأن تعيش اللحظة الأخرى،وبوعي آخر طبعا، وبعيون اخرى مغايرة. أما امتلاك النهر، وتخصيصه. او تأميمه فذلك وهم لا يدرك في دائرة المشروع الاحتفالي) من كتاب ( كتابات على هامش البيانات)
فهذا العالم هو عالم احتفالي. ان لم يكن ذلك بالفعل. فهو عالم احتفالي بالقوة. وكل من يحيا في الوطن الاحتفالي. كما هو كائن وكما ينبغي ان يكون، فهو بالتاكيد مواطن احتفالي. وكل من يعيش خارجه فهو إنسان غريب .. إنسان يعيش النفي والمنفى من حيث يدري او لا يدري ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق