مجلة الفنون المسرحية
قراءات في المونودراما الشعرية زَيْزَفْ .. مراحل الحزن الخمس في المونودراما الشعرية زَيْزَفْ لـ عادل البطوسى
د. أحلام عبدالرحيم علي
كثيرة هي تجارب الشاعر المسرحي عادل البطوسى الحداثية المتمرِّدة على الشكل التقليدي للمونودراما إلا أنه في هذا النص (زَيْزَفْ) إلتزم بالعناصر الأساسية الفنية والتقنية والجمالية والثوابت المتوارثة لفن المونودراما بخصائصها وخصوصياتها في البناء الفني المتكامل لها، كما إلتزم بتفعيلة بحر "خَبَب المُتدارك" التي إستخدمها في كتابة النص كتابة شعرية مواكبة للحالة الشعورية الإنسانية كمحور رئيسي للكتابة المونودرامية الشعرية التي تفاعلت فيها مراحل الحزن الذي يكاد يصل حد المأساة الفاجعة ..
في هذا النص "زَيْـزَفْ" كتب الشاعر عادل البطوسي مونودراما شعرية إنسانية بخبرةٍ وحرفية شديدتين في توصيل مناجاته وآلامه بأسلوبية أكثر رشاقة رغم أوجاع المرض ومرارة الفقدان معتمدا ـ عن عمد ـ على شخصية نسائية (الإبنة) ـ وليس هو (الإبن) كشخصية درامية تستدعي شخصيات أخرى (الأم ـ الطبيب) إستدعاءً إيجابيًا مؤثرًا وضروريًا وفاعلا وتكامليًا في الحدث الدرامي لهذا النص البديع الذي سلمني وقتما قرأته إلى ذلك الحصار الذي وقع فيه كاتبه، فقد سُجن في لحظة فراق والدته، وسجنني في ذات اللحظة، بين أسوارِ من ذكريات متشحة بالسواد، وحاضر قاس، ومستقبل غائم، فيقول مثلًا :
كَانَتْ أمِّي نَبضًا يَتدَفَّقُ في أوْرِدَتي
وَشَهِيقًا يَترقرَقُ في رِئتِي
كَانَتْ نَجمًا يَحمِلُ خُبزًا لِمَوائدِ يُتمي
فَجرًا يَأتِي بالشَمْسِ المُشرِقةِ لشُرفةِ حُلمِي
لقد تعلق الشاعر بأمه (زَيْزَفْ) وهذا (التعلق) جعله لا يتقبل فكرة فقدانها، وعاش مع ذكرياتها، وهي التي كانت بروحها القوية تهب الحياة لكل ما حولها فتحلو بها الحياة وتطيب؛ ولكن رحيلها أصاب الكاتب بإحدى صور الموت لما ذاقه من مرارة هذا الفقدان فانتابته حالة من الإستغراق في إستجلاء واستدعاء تفاصيل المرض بتعبيرات مأساوية في سياق الصراع النفسي للبطلة (الإبنة) داخليا وخارجيا، وما أن انسحبت روح "زَيْـزَفْ"الشفيفة - رحمها الله- حتى بدأت روح الكاتب في الإنسحاب،ورحل كل ضي ودفء؛ فعم الظلام داخل الكاتب وحوله، وساد الصقيع، واحتضر الهواء فانقلب لعواصف هوجاء من النحيب والصراخ وما نتج عنها من عتمة وظلام :
يَا لِلعَاصِفَةِ الهَوْجَاءْ
الآنَ سَأُحكِمُ غَلقَ النَافِذَةِ
فَقَدْ تُطْفِيءُ مِصْبَاحَ الغُرفَةِ
وَقنَادِيلَ الرُوحِ الخَضْرَاءْ
(وَهيَ تَرْنُو مِنَ النَافِذَةِ قَبلَ إغلاقِهَا) .....
ــ لا أحدَ هُنَاكَ سِوَى العتمَةْ
لا شَيءَ سِوَى المَجهُولِ الغَامِضِ
والخَوفِ المُرعبِ في أعمَاقِ الظُلْمَةْ
لا شَيءَ يُضِيءُ بَتاتا ..
لا قمَرَ يَبُوحُ بألقِ الضَوءِ ولا نَجمَةْ
وربما يستوجب ذلك منا الوقوف عند أنموذج كيوبلر روس المعروف بـمراحل الحزن الخمس (Kübler-Ross model, Five Stages of Grief) وهوَ نموذَج يَصِف خمس مراحِل للطريقة التي يتعامَل بها الإنسان مع الحزن الناتِج عن المصائب أو المآسي حيث يصبح الحزن عالما بائسا مقفرا لكنه مع مرور الوقت يخفت ويخمد ويصير مجرد لحظة عابرة، وهي على النحو التالي :
(1) الإِنكار : وهو يعد أول المراحل وعادة ما يكون مجرد دفاع مؤقت للمرء وهو شعور يستبدل عادة بالوعي الشديد بالموت وما بعد الموت، حيث ينكر البطوسى في هذا النص موت الأم زَيْزَفْ في حالة من عدم التصديق وإنكار رحيلها فيقول :
لا .. لَسْتُ أُصدِّقُ ..
لَسْتُ أُصدِّقُ .. لااااااااااااااا
هِيَ مَازَالتْ نَائِمَةً مُسْتَسْلِمَةً لِلمَرضِ القَاتِلِ
مَازَالتْ نَائِمَةً ..
مَازَالَتْ .. مَااااااااااااا
الآنَ سَأُعطِيهَا أدْوِيَةَ الأَوْرَامِ الكِيميَائيَّةْ
وَسَأحْمِلُهَا فِي الغَدِ
لِتوَاصِلَ جَلسَاتِ الإشعَاعَاتِ الذَّريَّةْ
قَد أكَّدَ لِي كُلُّ أطبَّاءِ المَشْفَى
أنَّكِ يَا أُمِّي كَالصَفْصَافَةِ صَامِدَةٌ وقويَّةْ
(2) الغضب : تتأجَّج في أعماق البطوسى مشاعر ثورة عارمة معتبرًا أنه ليس من العدل أن يمر بتجربة قاسية مؤلمة كهذه رغم وعيه الكامل بها بكل تفاصيلها حيث يفيق من مرحلة الإنكار، وتتحول حالته الشعورية إلى حالة الغضب فيلقي اللوم على الطبيب ـ هنا ـ غاضبا، فيقول :
كَيْفَ اْستأصَلَ هَذا الجَرَّاحُ القَاسِي رَمزَ أنُوثتِهَا ..
رَمزَ أمُومتِهَا ..
رَمزَ خصُوبتِهَا ..
(3) المساومة : وهي محاولة غير معقولة لفعل أي شيء من أجل عودة الفقيدة، وعادة ما تتم المفاوضة مع قوى عليا (الإله مثلاً) وفيها الكاتب يوهم نفسه بوجود أمل في تأجيل الموت، أو عودة الموتى المستحيلة بالتأكيد، فيناديها بقوله :
عُودِي يَا أمِّي عُودِي
مَازِلتُ أحبُّكِ جدًا ..
أفتقِدُكِ جدًا ...
وَحْدَكِ مَن أحتَاجُ إليهَا ..
مَا شَكلُ العُمرِ بدُونكِ يا سِرَّ وجُودِي
عُودِي .. عُودِي ..
(4) الاكتئاب : في هذه المرحلة وعندما يصل المرء إلى فهم واستيعاب حقيقة الموت وحتميته كنهاية لكل حي، يصبح المرء أكثر صمتاً، ويرفض مقابلة الزوار، ويتملكه الشعور بلا جدوى أي شيء، وأنه لا فائدة من أي فعل يفعله، وأنه لا فائدة من الإستمرار في الحياة بدون الفقيدة، حد قطيعة الأحباب والعزلة، ويمضي الكثير من الوقت في بكاءٍ مرير يتوقف بصعوبة وقد لا يتوقف فترة طويلة فيطرح التساؤلات الأكثر مرارة من البكاء، فيقول :
لَكِنْ كَيفَ تعُودُ؟ أجيبُونِي : كَيفَ تعُودْ؟
نَحنُ دَومًا نزهَدُ في المَوجُودِ
وَنطمَحُ للمَفقُودْ
قد فَاتَ أوَانُ النَدمِ الآنَ
فلَن يَنفَعْ
أوْ يَشفَعْ ..
أمِّي لنْ ترْجِعَ ..
(5) التقبُّل : تمد المرحلة الأخيرة الفرد بشعور من السلام والتفهُّم للفقد الذي حدث، ويبدأ في الإستمرار مؤكدًا أنه عليه أن يكمل الطريق ويقاوم الحزن ويتغلب عليه والرضا بالأمر الواقع ويفضل الفرد في هذه المرحلة أن يُترك وحيداً، وتعد هذه المرحلة نهاية الصراع مع الفقد فيقول الكاتب :
لا شَيءَ سَيُجدِي
مَا أصعَبَ أن أبقىَ وَحدِي
أنْ أفقِدَ أمِّي وَوليَّة أمرِي
ويستسلم الكاتب أخيرًا لواقع الصدمة فيقول :
أمِّي رَحَلتْ .. دُونِي .. رَحَلتْ
وإلى بُسْتانِ الرَبِّ انْتَقلَتْ
فلَقَدْ سِرْتُ وَرَاءَ النَعْشِ الطَاهِرِ وَأنَا أصرُخُ : أمِّي ..
وهكذا ينتهي الأمر بالبطوسى إلى التسليم الكامل لإرادته جلت قدرته وتشييعها إلى مثواها الأخير كحقيقة جرت إنسانيا وتم تسجيلها إبداعيا عبر نصٍّ مُشرع ـ واقع الأمر ـ لقراءاتٍ عديدة تتناوله من أكثر من منحى إنساني وإبداعي وإن كنا قد إجتهدت في تناوله من زاوية مراحل الحزن بداية من الإنكار إلى التقبل فهو نصٌّ ثريٌّ شجيٌّ، مُشرع للعديد من القراءات، نصٌّ ثريٌّ شجيٌّ نقل فيه الشاعر المسرحي عادل البطوسى مشاعره لنا وأوجعنا وأبكانا وتألمنا معه لفقدها، بل وقاد مشاعرنا لحب زَيْزَفْ الملاك الذي انتقل إلى بستان الرب، وصرنا نبتهل إلى الله أن يرحمها رحمة واسعة، فلم تعد زَيْزَفه بل زَيْزَفنا جميعًا ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق