تصنيفات مسرحية

الخميس، 14 نوفمبر 2024

الجدار بين ذاكرة الفزع وراهن التحدي

مجلة الفنون المسرحية 

الجدار بين ذاكرة الفزع وراهن التحدي

د. جبار خماط حسن 

 ذهبت الى مسرح الرشيد  لمشاهدة مسرحية ( الجدار) لمؤلفها (( حيدر جمعة )) ومخرجها (( سنان العزاوي )) وتمثيل مجموعة من النسوة المبدعات ، وحضور الفنان (( يحيى ابراهيم )) ممثلا ، سينوغرافيا علي السوداني ، وكيروغراف (( علي دعيم))  الساعة السابعة  يوم الاثنين الموافق ١٠/١١/٢٠٢٤   وكان عرض المسرحية  الثاني ، دخلت أليه  ، وجدته مدخلاً طقسياً ، يسوده الصمت والترقب ، في فضاء مفتوح ومغلق في آن معاً ، هل نحن في سجن ؟ ام قاعة احتجاز ؟  ادخلنا فيها (( العزاوي ))   اجواء تشابه المراقبة والملاحقة البصرية - السمعية   لمجموعة من النساء يتوسطهم رجل مستخنث . نراهم ببدلات حمراء يظهرون بها في الجزء الاخير من العرض الذي تجاوز  الساعتين ونصف الساعة ! تلك مغامرة الاتصال واكراهات الزمن ، خوفاً من جبروت الملل الذي يطيح باكثر العروض مرونة وتماسكاً ، هل واجه العزاوي تحدي الملل بفنه ودرايته الاخراجية ؟ هذا ما سوف يبينه المنشور النقدي . 
شاهدت العرض في يومه الخامس الموافق ١٣/١١/٢٠٢٤ ، لاتلمس تفاعل الجمهور من عدمه ، وجدتهم في صمت الترقب وانتباه التفاعل ، اظهر الممثلون توافقاً ادائياً ، حقق ميزاناً ايقاعياً كلياً  ، تفاوت أثره الفاعل  في مشهدين ، مشهد الفتاة القط  ، ومشهد صاحبة القدر الكبير ، اجدهما في مناخ اخراجي لا يمت بصلة للبنية الاخراجية  الجامعة للعرض .  . 
 تذكرت وانا اتابع متن الاحداث في عرض مسرحية الجدار ، تعاضدا لمتنين ادبيين مجاورين ،  هما رواية الجحيم للروائي الفرنسي (( هنري باربوس)) والقصة القصيرة ( الجدار ) للفيلسوف الوجودي والروائي الفرنسي (( جان بول سارتر ))  اذ اتخذ العرض من الجمهور فعل الفضول او الاستراق على شخصيات يتناوبون الحضور ، يقدمون قصصهم التي ظهرت متشابهة لان الوسيط المشترك لها هو الجنس والنهايات المتشابهة التي هي القتل ، فالنساء يظهرن قاتلات بعد تجارب حب فاشلة وتجارب جنسية معلنة وغير معلنة ، اعتمدت الجرأة اللفظية في تبيان ما كان من سلوكيات اجدها قد طهرت  على نحو استفزازي ، وكأن الاستثناء في حياتنا اظهره العرض وكأنه  قاعدة،   حتى وصل به  الحال الى زنى المحارم !  نشاهد ونسمع ما كان من تجارب نسائية يتوسطهن رجل مستخنث دلالة وجوده غير كاملة ، فلا هو سجين ولا هو سجان ، يظهر على نحو  معادل موضوعي لخيبات النساء ، لنجده في نهاية العرض وقد هزه حنين اشبه بالنوبة الذهانية ، يريد العودة الى الطفولة لعله ينجح في  تغيير مصيره الذي وجدناه في العرض يعاني متلازمة اغتصابه وهو ابن اربعة سنين ! 
امام هكذا اجواء جنسية عنيفة ،   ينتابنا شعور مركب من  الرفض  والقبول ، رفضه لان حياتنا الاجتماعية تخلو من هذه النماذج ، وان ظهرت  فهي شواذ ! ونقبلها- فنياً-  شرط  دخولها الى  فرضية الفن في تعامله مع المستحيل الممكن الذي تناوله العرض المسرحي . 
 الجمهور  كان يراقب تلك الحيوات ، مثل       سلوك  بطل رواية (( الجحيم))  الذي كان يرى من خلال تثقب جدار الغرفة ما يكون امامه من حالات شخصية ومجتمعية متنوعة  ! في المقابل نجن المتن الدرامي للنص المسرحي ( جدار) يقترب كثيرا من  قصة سارتر ((  الجدار )) التي  تناولت ثلاثة رجال محكومون بالاعدام ، يحكون ما مرت به حياتهم من ويلات وصعوبات اودت بهم الى القتل وانتهت بانتظارهم حكم الاعدام ! 
ان فكرة التناص واردة ، اي اشتراك نصين بفكرة متشابهة ، يختلفان بالمعالجة ، لكن ان يكون التشابه بالعنوان والشخصيات والاحداث ، فاجد وضع كلمة اعداد او اقتباس اقرب للصواب الادبي ، فالكاتب (( حيدر جمعة ))  اجتهد  حين اوجد متنه الدرامي المستقل الذي ينطلق من العنف الجنسي المحلي ،  الذي زاد من المنولوج وقلل من الحوار ، وكأن الشخصيات في جلسة اعتراف قاسية ،  مستعملاً الملفوظ الدارج ( اللهجة العامية ) كوسيط تداولي ما بين الشخصيات . 
ما يميز تجارب وعروض المخرج (( سنان العزاوي )) امتلاكها  ادارة نابهة للطاقة المسرحية ، فلا ترهل ولا تكرار من دون مسوغ فني او فكري ، ولا تشابه في الاجواء النفسية للشخصيات ، مع مغايرة في الصورة المشهدية التي تتسم تارة بالثبات السينوغرافي  وتارة اخرى بالتحول والتغير، مستندا الى ثنائية الهدم والبناء ، وتعطيل مقولة وحدة الحدث ، واعتماده التناغم السببي ما بين الصورة المشهدية والاداء ، كل هذا ناتج عن نصوص كان (( العزاوي )) قد تعامل  معها  بنجاح محققاً عروضاً تركت بصمتها في ذاكرة الجمهور ومتون الرسائل والاطاريح . 
لكنني وجدت توجها اخراجياً مغايراً في عرض مسرحية ( الجدار ) وقد وضعت لهذا التوجه الملاحظات التي ينبغي الانتباه لها :  
١- الثبات المشهدي لاكثر من ساعة وربع الساعة ، مع حركة الجدار الخلفي لم تعط لنا تنويعاً وظيفياً  ، بل جاء تعزيزاً لفكرة الابواب المغلقة او المفتوحة في جدار كان ثابتاً طوال العرض ، ووجدناه متحركاً لزمن قصير ثم عاد ثابتاً . 
٢- التشابه في المعالجة اللفظية والحالات النفسية للشخصيات ، اوقعت العرض في تعرف مصائر الشخصيات ، فانحسرت مساحة التشويق ، فالمحرك لها واحد / الجنس والنهاية واحدة / قتل الرجل .
٣- التداخل ما بين تقنيات ما بعد الحداثة والمسرح الشرقي / النو والكابوكي ، اوجد تشويشاً اسلوبياً، على الرغم من اناقة الاشكال والهيئات في صناعة الاقنعة  .
٤- الزمن الطويل للعرض مع عدم وجود مساحات ترويحية للتلقي ، وهيمنة التكرار في السرد اللفظي والادائي وتعدد النهايات جعل  البعض يتساءل لماذا هذا الزمن الطويل للعرض المسرحي !  

في المقابل تحقق الوهج الفاعل للاخراج والسينوغرافيا والاداء في متن اجرائي بصري وسمعي وحركي ، اوجد تفاعلا مع الجمهور في مشهديات متعددة ومتنوعة ، يمكن اجمالها بالآتي :
١- معالجة القبح الفكري والعنف اللفظي ، باناقة الصورة وعذوبة الموسيقى ،  اعطت للعرض راهنية وكاننا نعيش الاحداث في الهنا والان .
٢- الادارة الاخراجية الذكية لمستويات الصورة البصرية والمستويات السمعية في بنية  مشهدية فاعلة التأثيرتناوب وجودها ما بين الساكن والمتحرك .
٣-   في التمرين يتوجب على الممثل ان يهدم طريقته الاعتيادية في الحركة والوقوف والكلام ، ليستبدلها بالتدريج بتقنية اخرى ، تمثل اعادة بناء مصممة خصيصاً للعرض . وهو ما يتقنه (( العزاوي )) ولهذا اظهرت النساء المعنفات مستويات من الاداء فارق المألوف ودخلن في الاستعمالات الادائية الجديدة في استثمار الجسد والصوت وايقاعهما . وهو ما يعطي لنا تصوراً اننا امام طاقات ادائية نسوية انتقلن  من المألوف الى المغاير الذي يحقق مسافة جمالية تتراوح بين الانطباق والافتراق ، تبعاً للحالات النفسية التي تعيشها الشخصيات النسوية وايضا شخصية الرجل المستخنث الذي قدمها باتقان  الممثل يحيى ابراهيم .
٤-  للسينوغرافيا ومستوياتها البصرية الفلمية ، وظيفتها في تدعيم البنية الادائية للشخصيات ، فقط ظهرت  على نحو لقطات تبث لنا رسائل بصرية متحركة ، تزامنت من لحظة الاداء في الهنا والان ، لكن اللقطات قدمت الماضي متزامناً مع زمن البوح في اعلى المسرح ، اما لقطات الذاكرة فقد كانت في الجدار الخلفي ، الذي اتقن حضوره الجاذب مصمم السينوغرفيا د. علي السوداني . 
٥-  الكيروكراف له مساحته الجماعية المولدة للايقاع البصري والسمعي ، لو زادت مساحتها ، لتحقق الاثر الحسي المطلوب في ضبط وتنامي الايقاع ، والفنان (( علي دعيم)) من الدراية الفنية والخبرة في خلق الجو وتفعيل الجمال التواصلي مع الجمهور ، لكن حضوره في الجزء الاخير من العرض لم يغن عن جوع المشاهدة لتلك المساحات الحركية التي يتفاعل معها الجمهور .

٦- بروز الجوكر الادائي المحرك او المراة ذات الصوت والنغم الاوبرالي (( نعمت عبد الحسين)) التي هي تطبيق لمفهوم جماليات القبيح ، فهي قاتلة ومبرمجة للقتل ، لكن حضورها وادائها  كان جميلاً  ومؤثراً. 
٧- التوافق الحركي/ الرقص مع الالقاء ، حقق جاذبية تواصلية لدى الجمهور ، فاعلية مؤثرة أوجدتها الممثلة ( آلاء نجم) ، فالذكاء الادائي كان حاصراً مع استرخاء ومراقبة لوحدات الاداء في البيئة السينوغرافية . 
٨- مشهد الطيران كان متقناً في صناعته الجمالية ومهارته الادائية لدى ( لبوة صلاح  ))  فقد كانت  تعمل بخطوط افقية وعمودية ودائرية ، وهو ما يتطلب  تركيزاً واستقراراً ذهنياً ، افلحت (( لبوة صلاح )) في الوصول اليهما باداء ترك تفاعلاً ملحوظاً لدى الجمهور .
٩- البيئة السينوغرافية ، امتزج فيها فضاء التشكيل البصري مع البعد السينمائي ، محققا بنية  سينوغرافية انيقة التكوين ، فالضوء كان شريكا مع الزي في انتاج لوحات بصرية متفنة الصنع ، ساهمت في تعزيز الفرضية الاخراجية التي تعمل بفرضية 
الاذى النفسي يقابله الارتياح الجمالي . 
١٠-  العزف الحي ومهارة عازفة البيانو ،  مع اشارات الالقاء الواضح من حيث التقطيع والوقف واستعمال طبقات الهمس والدفع المتوسط للصوت ، يرافقه استرخاء الاداء اعطى تصوراً محموداً لحضورها . 

اشتمل العرض على مشهدين  سيمكثان طويلا في ذاكرة الجمهور ، بسبب المعالجة الابداعية وتوازنها مع بين الضوء والبيئة والممثل .
١- مشهد غرق البنات ولوعة الام . ذكاء ادائي ، ومراقبة ذاتية لتصاعد الاداء ، مع قدرة عالية ، على التفاعل الصوتي والبصري مع البيئة ، حققت (( اسراء العاني  )) التحدي الادائي ونجحت في صناعته على نحو مبهر . 
٢- مشهد  صراع البنت مع فكرة الانجاب وحملها من ابيها ، فرط القسوة فيه جعل  الجمهور ، ينبهر من احساس الممثلة بالألم والانكسار . ابدعت ((ريهام البياتي )) ، في تجسيد ذلك الصراع الداخلي ، اذ تميزت بالانضباط الحركي الذي تزامن وتناغم بانتباه وتركيز عالي مع الموسيقى .
اذا  كان العرض المسرحي ( الجدار )  ، قد  انطلق من الحياة الجنسية المسكوت عنها واستبداد الرجال ، لابد من اثارة هذا السؤال الذي ينتظر الاجابة : ماذا لو تنوعت المشكلات التي تواجهها المرأة في حياتها اليومية الاجتماعية والفكرية ،  سيعطي  مسوغات التنويع في معالجة حيوات الشخصيات النسائية درامياً ومسرحياً ؟ شكراً للمبدع  ((سنان العزاوي )) شكراً للكاتب (( حيدر جمعة ))  شكرا لفريق ( الجدار ) الادائي والتقني - الفني    ،كنتم في مبارة جمالية محتدمة لا خسارة فيها ، فالاكثر تداولاً هو التعادل الايجابي الجمالي ما بين العرض المسرحي والجمهور .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق