مجلة الفنون المسرحية
د. جبار خماط حسن
ذهبت الى مسرح الرشيد لمشاهدة مسرحية ( الجدار) لمؤلفها (( حيدر جمعة )) ومخرجها (( سنان العزاوي )) وتمثيل مجموعة من النسوة المبدعات ، وحضور الفنان (( يحيى ابراهيم )) ممثلا ، سينوغرافيا علي السوداني ، وكيروغراف (( علي دعيم)) الساعة السابعة يوم الاثنين الموافق ١٠/١١/٢٠٢٤ وكان عرض المسرحية الثاني ، دخلت أليه ، وجدته مدخلاً طقسياً ، يسوده الصمت والترقب ، في فضاء مفتوح ومغلق في آن معاً ، هل نحن في سجن ؟ ام قاعة احتجاز ؟ ادخلنا فيها (( العزاوي )) اجواء تشابه المراقبة والملاحقة البصرية - السمعية لمجموعة من النساء يتوسطهم رجل مستخنث . نراهم ببدلات حمراء يظهرون بها في الجزء الاخير من العرض الذي تجاوز الساعتين ونصف الساعة ! تلك مغامرة الاتصال واكراهات الزمن ، خوفاً من جبروت الملل الذي يطيح باكثر العروض مرونة وتماسكاً ، هل واجه العزاوي تحدي الملل بفنه ودرايته الاخراجية ؟ هذا ما سوف يبينه المنشور النقدي .
شاهدت العرض في يومه الخامس الموافق ١٣/١١/٢٠٢٤ ، لاتلمس تفاعل الجمهور من عدمه ، وجدتهم في صمت الترقب وانتباه التفاعل ، اظهر الممثلون توافقاً ادائياً ، حقق ميزاناً ايقاعياً كلياً ، تفاوت أثره الفاعل في مشهدين ، مشهد الفتاة القط ، ومشهد صاحبة القدر الكبير ، اجدهما في مناخ اخراجي لا يمت بصلة للبنية الاخراجية الجامعة للعرض . .
تذكرت وانا اتابع متن الاحداث في عرض مسرحية الجدار ، تعاضدا لمتنين ادبيين مجاورين ، هما رواية الجحيم للروائي الفرنسي (( هنري باربوس)) والقصة القصيرة ( الجدار ) للفيلسوف الوجودي والروائي الفرنسي (( جان بول سارتر )) اذ اتخذ العرض من الجمهور فعل الفضول او الاستراق على شخصيات يتناوبون الحضور ، يقدمون قصصهم التي ظهرت متشابهة لان الوسيط المشترك لها هو الجنس والنهايات المتشابهة التي هي القتل ، فالنساء يظهرن قاتلات بعد تجارب حب فاشلة وتجارب جنسية معلنة وغير معلنة ، اعتمدت الجرأة اللفظية في تبيان ما كان من سلوكيات اجدها قد طهرت على نحو استفزازي ، وكأن الاستثناء في حياتنا اظهره العرض وكأنه قاعدة، حتى وصل به الحال الى زنى المحارم ! نشاهد ونسمع ما كان من تجارب نسائية يتوسطهن رجل مستخنث دلالة وجوده غير كاملة ، فلا هو سجين ولا هو سجان ، يظهر على نحو معادل موضوعي لخيبات النساء ، لنجده في نهاية العرض وقد هزه حنين اشبه بالنوبة الذهانية ، يريد العودة الى الطفولة لعله ينجح في تغيير مصيره الذي وجدناه في العرض يعاني متلازمة اغتصابه وهو ابن اربعة سنين !
امام هكذا اجواء جنسية عنيفة ، ينتابنا شعور مركب من الرفض والقبول ، رفضه لان حياتنا الاجتماعية تخلو من هذه النماذج ، وان ظهرت فهي شواذ ! ونقبلها- فنياً- شرط دخولها الى فرضية الفن في تعامله مع المستحيل الممكن الذي تناوله العرض المسرحي .
الجمهور كان يراقب تلك الحيوات ، مثل سلوك بطل رواية (( الجحيم)) الذي كان يرى من خلال تثقب جدار الغرفة ما يكون امامه من حالات شخصية ومجتمعية متنوعة ! في المقابل نجن المتن الدرامي للنص المسرحي ( جدار) يقترب كثيرا من قصة سارتر (( الجدار )) التي تناولت ثلاثة رجال محكومون بالاعدام ، يحكون ما مرت به حياتهم من ويلات وصعوبات اودت بهم الى القتل وانتهت بانتظارهم حكم الاعدام !
ان فكرة التناص واردة ، اي اشتراك نصين بفكرة متشابهة ، يختلفان بالمعالجة ، لكن ان يكون التشابه بالعنوان والشخصيات والاحداث ، فاجد وضع كلمة اعداد او اقتباس اقرب للصواب الادبي ، فالكاتب (( حيدر جمعة )) اجتهد حين اوجد متنه الدرامي المستقل الذي ينطلق من العنف الجنسي المحلي ، الذي زاد من المنولوج وقلل من الحوار ، وكأن الشخصيات في جلسة اعتراف قاسية ، مستعملاً الملفوظ الدارج ( اللهجة العامية ) كوسيط تداولي ما بين الشخصيات .
ما يميز تجارب وعروض المخرج (( سنان العزاوي )) امتلاكها ادارة نابهة للطاقة المسرحية ، فلا ترهل ولا تكرار من دون مسوغ فني او فكري ، ولا تشابه في الاجواء النفسية للشخصيات ، مع مغايرة في الصورة المشهدية التي تتسم تارة بالثبات السينوغرافي وتارة اخرى بالتحول والتغير، مستندا الى ثنائية الهدم والبناء ، وتعطيل مقولة وحدة الحدث ، واعتماده التناغم السببي ما بين الصورة المشهدية والاداء ، كل هذا ناتج عن نصوص كان (( العزاوي )) قد تعامل معها بنجاح محققاً عروضاً تركت بصمتها في ذاكرة الجمهور ومتون الرسائل والاطاريح .
لكنني وجدت توجها اخراجياً مغايراً في عرض مسرحية ( الجدار ) وقد وضعت لهذا التوجه الملاحظات التي ينبغي الانتباه لها :
١- الثبات المشهدي لاكثر من ساعة وربع الساعة ، مع حركة الجدار الخلفي لم تعط لنا تنويعاً وظيفياً ، بل جاء تعزيزاً لفكرة الابواب المغلقة او المفتوحة في جدار كان ثابتاً طوال العرض ، ووجدناه متحركاً لزمن قصير ثم عاد ثابتاً .
٢- التشابه في المعالجة اللفظية والحالات النفسية للشخصيات ، اوقعت العرض في تعرف مصائر الشخصيات ، فانحسرت مساحة التشويق ، فالمحرك لها واحد / الجنس والنهاية واحدة / قتل الرجل .
٣- التداخل ما بين تقنيات ما بعد الحداثة والمسرح الشرقي / النو والكابوكي ، اوجد تشويشاً اسلوبياً، على الرغم من اناقة الاشكال والهيئات في صناعة الاقنعة .
٤- الزمن الطويل للعرض مع عدم وجود مساحات ترويحية للتلقي ، وهيمنة التكرار في السرد اللفظي والادائي وتعدد النهايات جعل البعض يتساءل لماذا هذا الزمن الطويل للعرض المسرحي !
في المقابل تحقق الوهج الفاعل للاخراج والسينوغرافيا والاداء في متن اجرائي بصري وسمعي وحركي ، اوجد تفاعلا مع الجمهور في مشهديات متعددة ومتنوعة ، يمكن اجمالها بالآتي :
١- معالجة القبح الفكري والعنف اللفظي ، باناقة الصورة وعذوبة الموسيقى ، اعطت للعرض راهنية وكاننا نعيش الاحداث في الهنا والان .
٢- الادارة الاخراجية الذكية لمستويات الصورة البصرية والمستويات السمعية في بنية مشهدية فاعلة التأثيرتناوب وجودها ما بين الساكن والمتحرك .
٣- في التمرين يتوجب على الممثل ان يهدم طريقته الاعتيادية في الحركة والوقوف والكلام ، ليستبدلها بالتدريج بتقنية اخرى ، تمثل اعادة بناء مصممة خصيصاً للعرض . وهو ما يتقنه (( العزاوي )) ولهذا اظهرت النساء المعنفات مستويات من الاداء فارق المألوف ودخلن في الاستعمالات الادائية الجديدة في استثمار الجسد والصوت وايقاعهما . وهو ما يعطي لنا تصوراً اننا امام طاقات ادائية نسوية انتقلن من المألوف الى المغاير الذي يحقق مسافة جمالية تتراوح بين الانطباق والافتراق ، تبعاً للحالات النفسية التي تعيشها الشخصيات النسوية وايضا شخصية الرجل المستخنث الذي قدمها باتقان الممثل يحيى ابراهيم .
٤- للسينوغرافيا ومستوياتها البصرية الفلمية ، وظيفتها في تدعيم البنية الادائية للشخصيات ، فقط ظهرت على نحو لقطات تبث لنا رسائل بصرية متحركة ، تزامنت من لحظة الاداء في الهنا والان ، لكن اللقطات قدمت الماضي متزامناً مع زمن البوح في اعلى المسرح ، اما لقطات الذاكرة فقد كانت في الجدار الخلفي ، الذي اتقن حضوره الجاذب مصمم السينوغرفيا د. علي السوداني .
٥- الكيروكراف له مساحته الجماعية المولدة للايقاع البصري والسمعي ، لو زادت مساحتها ، لتحقق الاثر الحسي المطلوب في ضبط وتنامي الايقاع ، والفنان (( علي دعيم)) من الدراية الفنية والخبرة في خلق الجو وتفعيل الجمال التواصلي مع الجمهور ، لكن حضوره في الجزء الاخير من العرض لم يغن عن جوع المشاهدة لتلك المساحات الحركية التي يتفاعل معها الجمهور .
٦- بروز الجوكر الادائي المحرك او المراة ذات الصوت والنغم الاوبرالي (( نعمت عبد الحسين)) التي هي تطبيق لمفهوم جماليات القبيح ، فهي قاتلة ومبرمجة للقتل ، لكن حضورها وادائها كان جميلاً ومؤثراً.
٧- التوافق الحركي/ الرقص مع الالقاء ، حقق جاذبية تواصلية لدى الجمهور ، فاعلية مؤثرة أوجدتها الممثلة ( آلاء نجم) ، فالذكاء الادائي كان حاصراً مع استرخاء ومراقبة لوحدات الاداء في البيئة السينوغرافية .
٨- مشهد الطيران كان متقناً في صناعته الجمالية ومهارته الادائية لدى ( لبوة صلاح )) فقد كانت تعمل بخطوط افقية وعمودية ودائرية ، وهو ما يتطلب تركيزاً واستقراراً ذهنياً ، افلحت (( لبوة صلاح )) في الوصول اليهما باداء ترك تفاعلاً ملحوظاً لدى الجمهور .
٩- البيئة السينوغرافية ، امتزج فيها فضاء التشكيل البصري مع البعد السينمائي ، محققا بنية سينوغرافية انيقة التكوين ، فالضوء كان شريكا مع الزي في انتاج لوحات بصرية متفنة الصنع ، ساهمت في تعزيز الفرضية الاخراجية التي تعمل بفرضية
الاذى النفسي يقابله الارتياح الجمالي .
١٠- العزف الحي ومهارة عازفة البيانو ، مع اشارات الالقاء الواضح من حيث التقطيع والوقف واستعمال طبقات الهمس والدفع المتوسط للصوت ، يرافقه استرخاء الاداء اعطى تصوراً محموداً لحضورها .
اشتمل العرض على مشهدين سيمكثان طويلا في ذاكرة الجمهور ، بسبب المعالجة الابداعية وتوازنها مع بين الضوء والبيئة والممثل .
١- مشهد غرق البنات ولوعة الام . ذكاء ادائي ، ومراقبة ذاتية لتصاعد الاداء ، مع قدرة عالية ، على التفاعل الصوتي والبصري مع البيئة ، حققت (( اسراء العاني )) التحدي الادائي ونجحت في صناعته على نحو مبهر .
٢- مشهد صراع البنت مع فكرة الانجاب وحملها من ابيها ، فرط القسوة فيه جعل الجمهور ، ينبهر من احساس الممثلة بالألم والانكسار . ابدعت ((ريهام البياتي )) ، في تجسيد ذلك الصراع الداخلي ، اذ تميزت بالانضباط الحركي الذي تزامن وتناغم بانتباه وتركيز عالي مع الموسيقى .
اذا كان العرض المسرحي ( الجدار ) ، قد انطلق من الحياة الجنسية المسكوت عنها واستبداد الرجال ، لابد من اثارة هذا السؤال الذي ينتظر الاجابة : ماذا لو تنوعت المشكلات التي تواجهها المرأة في حياتها اليومية الاجتماعية والفكرية ، سيعطي مسوغات التنويع في معالجة حيوات الشخصيات النسائية درامياً ومسرحياً ؟ شكراً للمبدع ((سنان العزاوي )) شكراً للكاتب (( حيدر جمعة )) شكرا لفريق ( الجدار ) الادائي والتقني - الفني ،كنتم في مبارة جمالية محتدمة لا خسارة فيها ، فالاكثر تداولاً هو التعادل الايجابي الجمالي ما بين العرض المسرحي والجمهور .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق