تصنيفات مسرحية

الجمعة، 26 فبراير 2010

آثار دينامية الواقع على مسار التجريب المسرحي في أوروبا

مجلة الفنون المسرحية


آثار دينامية الواقع على مسار التجريب المسرحي في أوروبا

*حميد تشيش

يقول الدكتور عبد الرحمان بن زيدان: "إن المسرح في العالم أجمع ما كان له أن يتطور ويزدهر ويقدم دهشته المدهشة وغرابته الجميلة في العرض المسرحي لولا التجريب الذي يمارس فعل

 الحرية ويرفض قيود السلطة الظاهرة منها والخفية"(1)

فتطور المسرح وتقدمه كما يبدو من خلال هذه الفقرة مستند إلى التجريب ومرتكز عليه باعتبار أن هذا الأخير يروم تجاوز الثبات والجمود ويعانق الجديد والتجديد إن على مستوى القيم الفكرية والأخلاقية أو على مستوى القواعد التقنية والفنية والرؤى الجمالية أملا في تكريس قيم جديدة تتطلع إليها فئات عريضة من المجتمع وخلخلة كل ما هو جامد وثابت وإحداث رجات في كل نزعة محافظة تتغيا تحصين المكتسبات والمصالح الفئوية .

ولم يكن للبدائل التي اقترحها رواد التجريب ودافعوا عنها باستماتة بما تتضمنه من قواعد فنية وتقنية مؤطرة بأرضية فكرية وإيديولوجية، أن تكتسب مصداقيتها وتحقق الانتشار وتحظى بالتقدير من طرف الجمهور والدارسين لولا الرغبة الجامحة في معانقة الحرية والحداثة وكل القيم التي تسعى إلى تمجيد الإنسان وإعادة الاعتبار إليه .

فرغم اختلال موازين القوى في المجتمع ورجحانها لصالح القوى المحافظة المدعمة والمؤازرة من طرف السلطات السائدة التي كانت تعتقد أنها تمتلك من الوسائل ما يحقق لقيمها المناعة ويضمن لها الاستمرارية والصمود،تمكن رواد التجريب من تقويض بنية القيم السائدة وخلخلتها وإسماع صوتهم من خلال كتاباتهم النظرية وعروضهم المسرحية التي كانت تعتبر المسارح حيث الالتقاء بالجمهور بمثابة مختبرات لتصريف نزوعاتهم التجريبية واختبار مدى مصداقيتها وتقبلها من قبل الجمهور وبالتالي تحقيق الغايات المرجوة منها مستفيدين من شروط المرحلة التاريخية بكل تناقضاتها التي وسمت منتصف القرن التاسع عشر الأوروبي وما بعده،" حيث كان الجمهور يزداد اتساع،ا تتنوع مشاربه الثقافية وانتماءاته الفكرية ويوجه متطلباته المسرحية وعي تاريخي يؤطر الإبداع المسرحي، وما عروض " أنطوان " التي كتب جلها " إميل زولا " أواخر القرن التاسع عشر وما كانت تثيره من نقاشات ومظاهرات إلا دليلا على ذلك "(2)، نفس الشيء بالنسبة لعروض " بيرتولد بريشت " الذي كان يؤمن بقدرة ودور المسرح على تأطير وتوعية وتثقيف وتهذيب الذوق الفني للجمهور خاصة وأننا نعلم أن " بريشت " كان يراهن دوما على دور المسرح في التغيير من خلال قولته المشهورة :" إن المهم ليس تفسير العالم بل تغييره ".

وما كان لرؤى وتصورات هؤلاء أن تلقى الاحتضان ويحصل التجاوب لولا صمودهم وغيرهم في وجه الكوابح والمثبطات والضغوطات الممنهجة والمتابعات التي استهدفتهم من طرف الأنظمة السائدة سواء في صيغتها الرأسمالية الاحتكارية التي ستفضي إلى التوسع العسكري بقوة الحديد والنار خارج أوروبا وما رافق هذا التوسع من تضارب لمصالح القوى الاستعمارية مما عجل بالمواجهة العسكرية فيما بينها من خلال حربين عالميتين تفصلهما أزمة اقتصادية عالمية، أو في شكلها الديكتاتوري الذي أفرز جوا من الإرهاب الفاشستي وتسييج المجتمع بجدارات أمنية ومخابراتية أصبحت تطال المفكرين والفنانين المنتمين لقوى التقدم والحداثة .

وعليه، يمكن اعتبار الصراع الاجتماعي أو الطبقي خلال هذه المرحلة الموسومة بالسمات سالفة الذكر والتقدم التكنولوجي من العوامل الرئيسية التي أثرت في التجريب المسرحي وحرضت عليه .

فالصراع الطبقي الناتج عن تضارب مصالح الطبقة البورجوازية - التي تسعى إلى الحفاظ على امتيازاتها ووضعها الاعتباري بكل ما أوتيت من وسائل وإمكانيات بتأبيد الاستغلال وتكريسه كواقع لا بديل عنه وخنق للحريات الفردية والجماعية وكبت لها،- والطبقة المحرومة المتسعة القاعدة التي تسعى إلى التعبير عن مطالبها وآمالها إما بواسطة الاحتجاجات و الإضرابات والمظاهرات التي غالبا ما كانت تواجه بوحشية ودموية من طرف الأجهزة الأمنية خاصة إبان تنامي الوعي الطبقي والفعل الثوري لدى الفئات المحرومة المؤطرة من قبل المثقفين الذين اختاروا الاصطفاف في صفوف هؤلاء على إثر التمايز الذي حصل في صفوف المثقفين العاملين في مجال الفنون كما هو حال " فولف " و " بيشر " و "بريشت " أو أولائك الذين اختاروا الارتماء في أحضان البورجوازية والدفاع عن مصالحها وتبرير وجودها كما فعل " برونين " و " بوست "في ألمانيا " (3)،الذين اتجهوا بمعية البورجوازية إلى تطويق وتحجيم الدور الريادي للحركة الثورية التي مثلها الأوائل على المستوى الثقافي والفني" بإحكام السيطرة على المؤسسات الثقافية والفنية وإغلاق المسارح في وجه المسرحيين الثوريين وحرمانهم من أي اتصال بالجماهير بواسطة الضغط المادي واستخدام القوانين لصالحها مما ولد حالة كبيرة من الذعر والهلع زاد من حدتها كثرة الأحكام القاسية في حق المثقفين والمسرحيين التي بلغت ما بين 1927 و1931 ستة آلاف حكم في ألمانيا وحدها "(4)،إلا أن عزيمة هؤلاء لم تزدهم إلا صمودا وإصرارا على تحقيق مشروعهم الفكري والفني وتجدير مواقفهم النقدية في صفوف الجماهير بإعطاء المسرح وظيفة ومضمونا اجتماعيين وشكلا فنيا وجماليا متقدما في مواجهة المسرح البورجوازي الذي أصبح يعيش أزمة حادة لتميزه بالتسطيح الشكلي وخلو المضمون من القيم الفكرية والإنسانية رغم محاولات " ماكس راينهارت "الإخراجية المتميزة .

أما دور التقدم العلمي والتكنولوجي وأثرهما على التجريب المسرحي فيتجلى في الاستفادة من مختلف الاختراعات والابتكارات التي ظهرت منذ النهضة الأوروبية وعززتها الثورة الصناعية سواء على مستوى المناهج العلمية والاتجاهات الأدبية والفنية أو على مستوى الاختراعات التكنولوجية التي نقلها رواد التجريب للمسرح بعد أن مدوها بالوظيفة الدرامية الملائمة، كالإنارة والسينما وبعض الآليات التي استعملت لتغيير الديكور بين المشاهد والبساط المتحرك الذي استعمله " بيسكاتور "أول مرة سنة 1928" (5)، وغيرها من التقنيات .

كانت هذه إذن بعض الشروط الموضوعية الناظمة لعملية التجريب التي تحكمت في مساره وسيرورته يضا ف إليها شرط ذاتي لا يقل أهمية عن الشروط الأولى هو الجرأة التي تحلى بها رواد التجريب والتحرر من الرقابة الذاتية وتحدي الجدارات الأمنية التي تروم تحجيم الفكر والإبداع والحد من قدرات الابتكار لدى المبدعين وقدرة هؤلاء على مقاومة الاحتواء والمساومات والإغراءات ومن تم الانتصار للأخلاق والقيم الإنسانية الراقية المستمدة من المرجعيات الفلسفية والفكرية والفنية المتمثلة للواقع بكل تعقيداته وإعادة صياغته وفق تصور جمالي وفني حداثي يروم الصدمة والاستفزاز لدى المتلقي" ((6)، على أن يتوفر شرط الإقناع على مستوى مصداقية الخطاب الفكري والتصور الجمالي والفني باعتبار الجمهور هو المستهدف الأول والأخير من عملية التجريب، فكل المحاولات الرائدة في التجريب المسرحي جعلت من الجمهور محورا لها وابتكرت قواعد فنية وتقنية استهدفت النفاذ إلى عقله ووجدانه بهدف تحقيق المتعة الفكرية والفنية لديه، وحتى عندما أدرك رواد التجريب أن قاعات العروض الإيطالية بمواصفاتها التقليدية تحول في أحيان كثيرة دون بلوغ خطاباتهم للمتلقي،" بادروا إلى تغيير قوانين الخشبة الإيطالية كما فعل "بيسكاتور "، "بريشت " "كوبو "وآخرين أو إلى تفجيرها وتجاوزها إلى فضاءات أرحب كما هو الحال عند "ماكس راينهارت" الذي اختار السيرك فضاء لعروضه المسرحية الذي يتيح بناء ديكور ضخم مع توظيف الرقص والغناء..."(7).

ولقد تساوقت هذه الابتكارات التي همت الفضاء المسرحي مع التجديد الذي عرفته الكتابة المسرحية، الإخراج، السينوغرافيا، التشخيص إلخ .....حيث ابتدع كل اتجاه مسرحي قواعده وقوانينه الخاصة بفنون العرض والتلقي مما أكسب حركة التجريب غنى وثراء متميزين بالاستفادة من تراكمات مرحلة القرن الثامن عشر على المستوى المعرفي والعلمي فيما يسمى بعصر التنوير الذي شهد ظهور العقلانية والفكر التحليلي مع " ديكارت "في فرنسا والنزعة التجريبية مع " جون لوك "في إنجلترا وغيرهم فظهرت الطبيعية أواخر القرن التاسع عشر التي اتخذت من بيئة الإنسان ونشأته الاجتماعية موضوعا لها والتأثر بشكل كبير بمناهج العلوم الطبيعية على المستوى الفني، ومع توالي السنين بدأت الحركة الطبيعية تفقد مصداقيتها وقدرتها على الإقناع بمغالاتها في محاكاة الطبيعة فظهرت التعبيرية كإفراز طبيعي لشروط مرحلتها المتسمة باستفحال أزمة البورجوازية وفشل المشروع الثوري الذي قاده الاشتراكيون فيما يسمى بثورات ربيع الشعوب خاصة في ألمانيا سنة 1848 فسادت موجة من الشك في العلم والتقنية وخيم جو من الإحباط لم يسلم منه الفنانون الذين جاءت إنتاجاتهم تعبيرا حيا عن هذه الأزمة وهذا ما عكسته مسرحية " بريشت " "بعل "حيث جسد بطلها كل سمات الرفض والتمرد والهدم التي ميزت العالم الغربي في هذه الفترة.

وبعد التعبيرية ظهر" مسرح الإصلاح الاجتماعي" وهو اتجاه يجمع بين المدرسة الطبيعية والتعبيرية نشأ في روسيا وتطور مع مسرح "بريشت "الملحمي إذ ينظر إلى المجتمع نظرة الطبيعيين ويعبر عنه ويسعى إلى تغييره بوسائل أقرب إلى المدرسة التعبيرية "(8)، ويعتبر "ستانليسلافسكي"، "مايرهولد " "وبريشت "أهم رواد هذا الاتجاه .

كما كان لوقع الحربين العالميتين الأولى والثانية أثرا كبيرا على الحركة الفنية والفكرية في أوروبا حيث ظهر مسرح العبث في الخمسينات من هذا القرن الذي مهدت له حركات أخرى سابقة عنه" كالدادية "و"السريالية" اللتان تعتبران الكون أساسا غير معقول وتسعيان إلى التعبير عن الواقع بوسائل فنية باعتماد الكتابة أو الكلام وإعطاء الأهمية للفكر الباطن والتحرر من العقل الواعي مع عدم الاهتمام بالقيم الأخلاقية السائدة، أما" مسرح العبث" فيعتمد منهجا دراميا يختلف عما سبقه من اتجاهات يختفي فيه المكان والزمان أما الشخصيات فهي غالبا بدون أسماء أو حتى مواصفات فردية،،" وقد اشترك كتاب هذا الاتجاه وعلى رأسهم " يونيسكو "، " بيكيت "و "أداموف"في تصويرهم لعبث الوجود سواء كان هذا العبث يتمثل في جدوى الجهد البشري أو استحالة الاتصال بين الناس أو أن الإنسان قدر له أن يعيش في عزلة عن غيره من الناس" (9) معبرين بذلك عن اهتزاز القيم الإنسانية وعدم قدرة الإنسان على التحكم العقلاني في التيكنولوجيا والتقدم العلمي وتسخير هما لخدمة الإنسان ورفاهيته إذ انتشرت أسلحة الدمار واستعملت على نطاق واسع في الإبادة الجماعية خلال الحرب العالمية الثانية بالخصوص فجاءت مسرحيات العبثيين مليئة بالصور المعبرة عن مدى التمزق والجراح النفسية التي سيطرت على النفس البشرية كنتيجة منطقية لمخلفات الحرب التي أفضت إلى اتساع قاعدة المتشككين في جدوى الحضارة الغربية وقيمها ومن ثم إعلان إفلاسها مما شجع الكثير من المفكرين والفنانين على تغيير أوطانهم هربا من بطش أنظمة الحكم الاستبدادية في اتجاه فضاءات أرحب إما بفرنسا أو بعض الدول الاسكندنافية أو باتجاه آسيا أو بعض دول أمريكا اللاتينية كما فعل " بريشت "الذي بلور نظرية المسرح الملحمي بالاستفادة من المسرح الصيني أو " آرطو "الذي استقى مبادئ مسرح القسوة من المكسيك وغيرهم، فتدفق التجريب

المسرحي بفعل ذلك في حركية انسيابية تناسلت منها تجارب فردية وجماعية ما زال بعضها آخذا في الظهور والتبلور لحد الآن عبر خطابات فكرية وفنية تدعو لإنسانية يسودها العدل والسلام ونبذ الظلم والحرب والعنف والاضطهاد.

 *مخرج مسرحي من المغرب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش :

- 1) عبد الرحمان بن زيدان: التجريب في النقد والدراما منشورات الزمن ص:22

- 2) سعيد الناجي: التجريب في المسرح، دار النشر المغربية ص:10-11

- 3) قيس الزبيدي : مسرح التغيير، مقالات في منهج بريشت الفني ص:18 - 4) المرج السابق ص:17

- 5) سعيد الناجي: المرجع السابق ص:31

- 6) عبد الرحمان بن زيدان : المرجع السابق ص:21

- 7) سعيد الناجي: المرجع السابق ص: 41

- 8) رشاد رشدي: نظرية الدراما من أرسطو إلى الآن ص:144 –145

- 9) رشاد رشدي: نفسه ص:176

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق