تصنيفات مسرحية

الاثنين، 21 يوليو 2014

كارلو جولدوني رائد الكوميديا الإيطالية المرتجلة

مدونة مجلة الفنون المسرحية
 كارلو جولدوني (1707 - 1793

يعتبرالكاتب المسرحي الإيطالي كارلو جولدوني (1707 - 1793) رائد الكوميديا الإيطالية المرتجلة، الذي ترك إرثاً غنياً متنوعاً ومتجدداً ألقى بظلاله على التيارات المسرحية التي جاءت بعده.
ظلت تجربة جولدوني مثيرة للجدل على مدى أكثر من قرنين، ومع أن أعماله المسرحية تنتمي إلى الكوميديا المرتجلة فإنها كانت مختلفة وغنية بمفاهيم وأفكار وجدت طريقها إلى المسرح الحديث، ولم تكتمل إعادة اكتشاف هذا المبدع، الذي عاش في القرن الثامن عشر، إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، مع أن صديقه الفيلسوف الفرنسي فولتير أطلق عليه لقب «موليير الإيطالي»، بينما أطلق عليه نقاد آخرون لقب «شكسبير إيطاليا».

كان أبوه يعمل في مجال الفيزياء، لكن جولدوني ورث اهتمامه بالمسرح عن جده، وكان من الممكن أن تنحرف حياته في اتجاه آخر، بعيداً عن المسرح فقد دفعته رغبته بالعمل الدبلوماسي إلى وظيفة قنصل لجمهورية جنوا في فينيسيا، ولكنه انسحب في الوقت المناسب، حينما وجد نفسه مضطراً إلى استئجار سفاح مغامر لتنفيذ جريمة سياسية.
كتب جولدوني أول مسرحياته وهو في الثامنة عشرة من عمره، وبعدها صار المسرح يشكل له كل أحلام الحياة، فكان مولعاً بالممثلات اللواتي يحملن معهن عبق المسرح، فهرب من مدرسة الدومينيكان في ريميني ليرافق مجموعة من الممثلين والممثلات إلى مدينة كيوجيا التي كتب عنها مسرحية فيما بعد، وهذه الحادثة تذكرنا بحادثة أخرى جرت بعد قرنين من الزمن، في مدينة ريميني نفسها، حيث هرب فدريكو فيليني من المنزل في طفولته، ليرافق فرقة السيرك التي كانت تمر في المدينة.


يقول جولدوني: يا له من إطار جميل وغريب وجديد، بالنسبة إلي من الشخصيات الأصلية والحقيقية التي أدرسها بعناية، وأحاول أن أجعل منها مادة من مواد عملي العادي.

ويقول في مسرحية «ذكريات»: «لقد طورت هواية مراقبة الرجال في الأحياء القريبة مني، وأنا مقتنع بأنني أحترم جمهوري من خلال تقديم الحقيقة العارية خالية من الزخرفة»، ويضيف إلى مزاياه الخاصة استمتاعه بالشغل في كل شيء وعدم إصدار أية أحكام مسبقة.
تشكل التجديدات التي وضعها جولدوني نقطة انطلاق للمسرح العالمي الحديث، ومنها حبه الفضولي للمراقبة، وترسيم الحالات النفسية لشخوصه واستقراء الدوافع الكامنة وراء سلوكهم، في واقعهم الاجتماعي والثقافي، والمستويات والاتجاهات الفكرية التي يعيشونها، وهذا يحتاج إلى المزاوجة بين المسرح والحياة، أو ما يمكن أن نسميه «فن الحياة مسرحياً»، أو الحياة في المسرح بمعنى «مسرحة الحياة».
تعرض جولدوني لحملات عنيفة متواصلة من منافسه كارلو غوتسي الذي استعدى عليه الأكاديمية الأدبية، حيث اتهمه بخيانة تقاليد الكوميديا المرتجلة في إيطاليا. والابتعاد عن الشعر والخيال، فاضطر جولدوني إلى الهجرة إلى باريس ليعيش فيها ثلاثين عاماً، لكنه عانى في سنواته الأخيرة ضعف البصر والفقر، بعد أن قطعت الثورة الفرنسية عنه مورده.
كانت فينيسيا هي المدينة الرمز لدى جولدوني، بكل ما فيها من أوهام وأقنعة وتعويذات سحرية، فهي مدينة خاصة جداً، بشوارعها المائية التي تعطيها صفة المدينة البحرية المختلفة، فهي تتواصل مع نفسها ومع العالم عن طريق البحر، وهذا ما انعكس على الحياة الاجتماعية واللهجة والتقاليد اليومية والاحتفالية فيها. فاللهجة الفينيسية مشحونة بطاقة تعبيرية عالية، وهذا ما ساهم في انتعاش مسرح «خيال الظل» الذي يرفد جذور الواقعية في المسرح العالمي، ويلتقي مع واقعية جولدوني الذي يعتبره دعاة الحركات التنويرية في القرن الثامن عشر رائداً لمسرح الطبيعة، كما يشير فولتير في إطرائه لمسرح جولدوني: «إن الطبيعة عالمية وهي أرضية صلبة لأولئك الذين يرصدونها، ومن هنا فإن هذا الفن الشعري المسرحي العظيم متمسك بالطبيعة ولا يمكن أن يرخي قبضته عنها..». ومع العواطف الحقيقية، وفي لغة يفهمها كل الناس ويدركونها، لم يكن جولدوني يبتعد عن الحقيقة، ولم يتخل عن الطبيعة أبداً، فالصيادون والنساء الشعبيات هم جزء حي من هذه الطبيعة التي تحمل معها العادات والتقاليد والحس النقدي الاجتماعي.

وإذا كانت الكوميديا المرتجلة توصف بأنها مسرح التسلية فإن أعمال جولدوني تتميز بتحليل الشخصيات وتحليل الأحداث معاًَ، والقدرة على إمتاع القارئ والمتفرج معاً.

يقول مارك توين عن جولدوني: إنه الإنسان الذي يتمنى كل شخص أن يكون قارئاً لأعماله، ولكن القلائل هم الذين قرأوه فعلاً.



وقد نتساءل: كيف استطاع جولدوني كتابة نحو مئتين وخمسين من الأعمال المسرحية المختلفة، من الكوميديا والتراجيديا والأوبرا إلى الأعمال الغنائية والمذكرات..؟! وكيف كان يعمل محامياً في النهار ويكتب فناً في الليل، أو يتسرب من الأبواب الخلفية للمسرح ويسهر في قاع المدينة حتى الفجر، ثم يكتب نصوصه ومواعظه الحكيمة إلى جمهوره وقرائه في مطالع مسرحياته كأنه ناسك ورع وحكيم؟


إن تجديداته الذكية تشبه الإضافات الشعبية إلى السيرة الذاتية للأبطال، حينما تتجاوز المألوف، وتضع الناس أمام إرباك في بحثهم عن الحقيقة.

إذا كانت أهم أعمال جولدوني وأكثرها شيوعاً هي المسرحيات الكوميدية، فإنه لم يبتعد عن كتابة المسرحيات التراجيدية والميلودرامية والشعر والأغاني والنصوص الأوبرالية والمذكرات، وجاءت هذه الأعمال باللغة التوسكانية، وهي أصل اللغة الإيطالية، بينما جاء بعضها الآخر بلهجة فينيسيا المتميزة. وفي السنوات الثلاثين التي قضاها في فرنسا كتب بعض أعماله باللغة الفرنسية، ويبدو أن عدداً من أعمال جولدوني ومشروعاته غير المكتملة ضاعت لكن أهم أعماله المعروفة هي: الرجل المكتمل، المسرف، الإفلاس، ابن أرلوكان المفقود والمستعاد، خادم سيدين، النساء المرحات، ضجة في كيوجيا، الأرملة الماكرة، الجمال الوحشي، المضيفة الجميلة، ضيف من حجر، أرلوكان ساحراً، صاحبة الفندق، الغلظاء، رجل العالم، ترويض الأرملة، الشاعر الخيالي، مدرسة الرقص، فيلسوف البلدة، الكونتيسة الصغيرة، مدير مسرح في أزمير، الفتاة الفاضلة، المروحة، الإقطاعي، الجندي العاشق، الفيلسوف الإنجليزي، ثلاثية المصيف (حمى الاصطياف - مغامرة الاصطياف - العودة من الاصطياف)، مذكرات المقهى، الزوجة الصالحة.. وكان التنوع في موضوعات هذه الأعمال يوازي التنوع في موضوعات الحياة اليومية خارج المسرح.

فكتب عام 1743 «المرأة اللطيفة» La donna di garbo، ثم «خادم سيدين» Il servitore di due padroni عام (1746)، و«الأرملة الماكرة» La vedova scaltra عام (1748)، و«الفتاة الشريفة» La putta onorata عام (1749) و«الزوجة الصالحة» La buona moglie عام (1749)، و«أسرة جامع الأنتيكات» La famiglia dell’ antiquario عام (1750). عمل غولدوني بين عامي 1745-1748 محامياً في بيزا Pisa هرباً من دائني أخيه الأصغر، ثم عاد إلى ڤينيسيا وبقي فيها حتى عام 1762. ظهر الجزء الأول من نصوصه الكوميدية عام 1748، فشكل محطة جديدة على طريق العودة إلى النص المسرحي المدون عوضاً عن السيناريو الموجز المعتَمَد في العروض المرتجلة. ونتيجة لوعد قطعه على نفسه تجاه الفرقة والجمهور أنجز غولدوني في موسم 1750-1751 ست عشرة مسرحية عرضت في مسرح سان أنجلو San Angelo، وحقق بعضها نجاحاً واستمراراً ملحوظين، مثل «المسرح الكوميدي» Il teatro comicoو«باميلا» Pamela و«المقهى» La bottega del caffè.


اعتاد غولدوني أن يرسم شخصياته وفق ملامح ممثلي وممثلات الفرقة ومواصفاتهما، وعندما مرضت ممثلته الرئيسية تيودورا مِدِباك Teodora Medebac وحلت محلها الشابة مَدَّلينا مَرلياني Maddalena Marliani كتب عدة نصوص جديدة قدم فيها صورة للمرأة مختلفة عما سبق، من حيث الحيوية والعواطف الجياشة والذكاء اللماح، كما في «المرأة العجيبة» La donna bizzarra و«النساء الفضوليات» Le donne curiose و«النساء الغيورات» Le donne gelose و«صاحبة الفندق» La Locandiera وغيرها. إلا أن اضطراره إلى غزارة الإنتاج في الموسم الواحد أثَّر في مستواه الفني والأدبي، فلم يستطع متابعة برنامجه الإصلاحي إلا في قلة من نصوصه، إذ صار يستلهم موضوعات تاريخية أجنبية ليبتكر بحرفيته العالية نصوصاً تراجيكوميدية تلبي تطلعات الجمهور وأصحاب المسرح. كما كتب نصوصاً موسيقية Libretti للأوبرا الرائجة آنئذ فأثَّر في تطورها. وفي عام 1759 قدم غولدوني نص «العشاق» Innamorati، الذي تهافتت على أدواره الرئيسية أشهر ممثلات القرنين التاسع عشر والعشرين من مثل إليانورِه دوزِه E.Duse وأدِلايد ريستوري A.Ristori.
كانت مسرحية«صخب في كيوتجا» Le baruffe chiozzotte عام (1761) إحدى ذرا الكتابة الدرامية الكوميدية لدى غولدوني، لما فيها من حذق وطرافة وإنسانية في رسم الشخصيات وعلاقاتها على الصعيد النفسي والاجتماعي والاقتصادي، فصارت من أفضل المسرحيات العالمية التي تقدم في مواسم المسرح العالمية

تعتبر مسرحية  "صاحبة اللوكاندة" هامة من حيث الحبكة الفنية،فموضوعها في مجمله بسيط ولكنه يتطور من خلال لعبة من الحركات المسرحية الدقيقة يظهر إتقانها في ضبط إيقاع تواليها بحس مرهف ،كما أن تداخل الأزمنة فيها محسوب بدقة عالية،ومعدلات الدخول و الخروج من المشهد مرتبة بدقة قائد الأوركسترا ونظام التغيير في العلاقات المشتركة بين الشخصيات يسبغ على المسرحية كلها خفة الباليه. وتضم المسرحية عددا من الشخصيات من مختلف الطبقات الاجتماعية،فالماركيز و الكونت من الطبقة الاستقراطية و الفارس من الطبقة البرجوازية الصغيرة و الخادم من الطبقة الشعبية. و تكمن اهمية هذه الشخصيات في انها نماذخ تاريخية تمثل عصر جولدونى الذي شهد تغيرات فكرية و اجتماعية كبيرة خاصة تدهور احوال الطبقة الارستقراطية و ظهور طبقة التجار و الحرفين او الأغنياء الجدد الذين سعى بعضهم لشراء الإقطاعيات كالماركيزية او الكونتية للحصول على ألقبهاو التمتع بمزايها و مظاهرها. زمن الطبيعى ان يكون هناك اختلاف في المصالح و القيم بين هذه الطبقات بعضها البعض ،وأن يظهر أثر هذه التغيرات في مجال التعامل بينها. ويتضح هذا بجلاء من خلال التنافس و المشاحنات العديدة بين الماركيز و الكونت . فالماركيز و الكونت شخصيتان تعكسان ما لحق من تطورات اجتماعية و اقتصادية بطبقة النبلاء و التدهور الذي حاق بها . وقد صور جولدونى شخصية الماركيز في صورة هزلية تصل أحيانا إلى حد الكاركاتير ليعبر عن إدانته لهذه الطبقة و السخرية منها و التي سيطرت على فنيسيا حقبة طويلة من الزمن وهو و إن كان قد جعل مدينة فلورنسا مكانا لوقوع الأحداث فلم يكن ذلك إلا لرغبته في تحاشى الصدام مع هذه الطبقة في مدينته . ام شخصية الكزنت التي تحفها مظاهر الثراء الحديث و ابذخ و الإسراف فإنها تبلور القيم الأخلاقية المستحدثةالتى تعتمد على سطوة المال و الجاه في الوصول إلى أهدافها . وشخصية الفارس أيضا نموذج من نماذج العصر تجسد شخصية الرجل الذي يعلن بغضه للمرأه وعداءه لها وإن كان في الواقع عداء غير قائم على تجارب عمليه أو فهم دقيق لحقيقة المرأ ة وقدرتها على الوقوف أمام الرجل وتحديه والتغلب عليه بأ ساليبها الخاصه . والشخصيه المحوريه التيي تدور حولها الأحداث وهي شخصية ميراندولينا صاحبة اللوكانده هي بدورها أيضا نموذج للمرأة المتطلعه المفتونة بنفسها والتي تجيد استخدام فنون المرأة في السيطره على الرجل في عقلانية ودهاء وقدره فائقه على التصنيع . ورغم أن هذه الشخصيات كلها نماذج تاريخية الإ أنها تحمل في طياتها سمات المعاصره والدوام فهي تعكس طبائع النفس البشريه ودوافعها الكامنه . فالعلاقه بين الرجل والمرأة والأنانيه والخداع وحب التملك والادعاء والتطلع وخيبة الرجاء وأيضا تقلب الاحوال وتغير الأوضاع الاجتماعيه كلها عناصر متجددة ومتكررة عبر العصور ولذا فإن هذه الشخصيات وإن بدت في ظاهرها متسنة بخصائص عصرها ، إلا أنها في جوهرها شخصيات تنبض بالحياة في عالمنا بكل مقوماتها النفسيه والأخلاقيه .  ويجمع الناقدان سيلفو داميكو وموميليانو على أنه في مسرحية صاحبة اللوكاندة يتحقق في الواقع التوافق التام بين الشخصية وبيئتها ويواكب هذا التوافق على الدوام نغمات متوازنة تتراوح بين الهازئة والدراميه والمازحة والعاطفيه مما يسبغ على المسرحية تناغماً تاماً يحافظ حتى على وحدة المكان رغم أن جولدوني يشعل كثيرا من المشاعر ثم يطفائها في شخصية الفارس بشكل منطقي محكم. ويفتتح الماركيزوالكونت أحداث المسرحية بالتشاحن والتنافس فيما بينهما للاستثئثار بحب ميراندولينا . ويعكس حوارهما أن كلا منهما مقتنع أو يحاول إقناع نفسه بأنها تميل إليه وتفضله على غريمه ، ويتفاخر كل منهما بما يقدمه لها من هدايا مادية أو معنوية . فالماركيز يقدم لها الحماية التي كانت ذات قيمة في الماضي من حيث أنها توفر لمن تسبغ عليه نوعا من الحصانة إلا أنها أصبحت عديمة القيمة في يد الماركيز خاصة أنه لايدعمها جاه السلطه ونفوذ المال . وفي نفس الوقت فإن ميراندولينا نفسها ليست في حاجة اليها . أما الكونت فيغدق عليها الهدايا النفيسة ويقدم لها الخدمات ويحيطها ويحيط اللوكاندة التي تمتلكها بالرعاية والأهتمام . ويخلق هذا التناقض بين الماركيز المفلس والكونت الثري مواقف باسمة وضاحكة تبين الرواسب الطبقية في المجتمع كما تكشف عن جوانب شخصية البطلة. وعندما تظهر ميراندولينا على خشبة المسرح نلاحظ أنها أمرأة فاتنة تجيد أداء عملها وتحسن معاملة النزلاء ، كما نلاحظ أنها بارعة في استمالة الرجال وشدهم إليها . ويبدو هذا جليا من تنافس المحيطين بها للفوز بحبها ومن أسلوبها في ربطهم بها واستغلالهم من خلال إظهار مشاعر زائفة للجميع تتباين مع مشاعرها الحقيقية ومع ما تضمره في نفسها . فهي في الواقع تتطلع لأن تكون دائما مطمح الرجال والمتربعة على عروش قلوبهم وأحلامهم . وهي تمتلك في تطلعها هذا كل الصفات والملكات الملائمة ، فهي خبيرة بنفوس الرجال وبالتعامل مع كل منهم بما يتفق مع شخصيته ، كما أنها تتمتع بقدر كبير من الخبث والدهاء يمكنها دائما من تحقيق مراميها المرسومة. وحين تعاكسها الظروف وينزل الفارس ريبافرتا في اللوكاندة ، وهو الرجل الذي يناصب النساء العداء ويبدي نحوها لا مبالاة وازدراء وتعاليا ، تشعر بالمهانة وبتعرض خططها للخطر فتقرر الانتقام والإيقاع به في شباكها . والواقع أنها تكشف عن هذا الهدف في مونولوج داخلى يفتتح مجموعة من المونولوجات المثيلة كرسها المؤلف لاستظهار الوجه الخفي لها . ومن المعروف أن هذه التقنية تؤثر على سلامة البناء الفني للمسرحية بشكل عام ، لكن جولدوني وظفها بنحو جيد متسق مع الحوار وتتابع الأحداث وفي هذا المونولوج تتوقف ميراندولينا عند عرض الزواج الذي يقدمه لها الماركيز لتفصح عن أبعاد تكوينها النفسي وترجمته إلى سلوك وأهداف . 

"ميراندولينا ( وحدها ) : وعدى ! ماذا قال ؟ ... صاحب السعادة الماركيز " شحيح " يريد الزواج منى ؟ ! ولكن لو أراد هذا حقا فهناك عقبة بسيطة وهي أنني لا أريد أن أتزوجه ! إنني أ حب " الشواء " ولا أعرف ماذا أفعل " بالدخان " . ولو كنت قد تزوجت كل من يرغبون الزواج منى لكان عندي أزواج لا عدد لهم ، فكل من ينزلون لوكاندتي يقعدون في حبي ويترامون على، وكثيرون كثيرون منهم يعرضون على الزواج ثم يجئ هذا الفارس الجلف مثل الدب فيعاملني هذه المعامله ؟ إنه أول غريب يصادفني في لوكاندتي ينفر من التعامل معى . لا أقول أن الجميع يجب أن يعشقوني من النظره الاولى ، ولكن أن يحتقرني بهذا الشكل ؟! أنه يغيظني ويفقع مرارتي . عدو النساء ؟ لايطيق رؤيتهم ؟ يا للمجنون المسكين . بما لم يجد بعد المرأة التي تعرف كيف تعامله ؟ ولكنه سيجدها .. سيجدها .. ومن يعرف ، لعله وجدها بالفعل ، هو بالذات سأضعه في رأسي وأتعمد محاصرته ، فالذين يجرون ورائي يصيبونني بالملل سريعا ، والأرستقراطية لا تروقني والثراء أحبه ولا أحبه . فكل مايطيب لي هو أن أحاط بمن يلبون طلباتي ويهيمون بي ويعبدونني . هذه هي نقطة ضعفي ونقطة ضعف كل النساء تقريبا . أما الزواج فلا يعينني مجرد التفكير فيه . فأنا لاأحتاج لأحد .. أعيش بشرفي و أتمتع بحريتي . أتعامل مع الجميع ولكنني لا أقع في حب أحد ، وأسخر كثيرا من العشاق الغارقين في الحب بصورهم المضحكة . أريد أن استخدم كل الحيل لأكسب وأكسر و أحطم كل فنون المرأة للاستحواذ على قلب الرجل ، فمن تلبية طلباته وخدمته بنفسها إلى مجاراته وتصنع مشاركته أفكاره ، ومن صنع الطعام له بيدها وأقتسامه معه في حجرته إلى إظهار الخضوع له والتقليل من شأنها والمبالغة في رفع شأنه وإيهامه بأختصاصه دون باقي الرجال بكل اهتمامها ورعايتها . وميراندولينا تقوم بكل هذا في مهاره وأنوثة محسوبة وساحرة وقدرة على التصنيع والتمثيل جعلت الممثلين المحترفين يحسدونها عليه . وحين ترى أن الوقت قد حان ليدخل الفارس المصيدة دون أمل في الخروج منها تتظاهر بالوقوع أسيرة حبه وتأتى من التصرفات والحركات ما يوحي بشقائها بهذا الحب ثم توجه إليه الضربة القاضيه بتظاهرها بالأغماء . وأثناء هذا تغلف كل مبادراتها بالغموض وثنائية التفسير أو تعدده .

فما هو موقف الفارس عدو المرأة من هذه الفنون الأنثوية ؟ في البداية يبدي شيئا من البرود ثم شيئا من الفضول ويتدرج من الغلطة والجفاء إلى الإعجاب واللين في معاملتها . ثم تبدأ في التسلل إلى مشاعره وإمتلاك قلبه وحين يلمس هذا يشعر بالخطر ويحاول الفرار من اللوكانده ، من المدينة كلها ولكنه يعجز عن إتمام المحاولة للاحقتها له بدقه ومهاره حتى يغرق في حبها فيقدم على ما كان يفعله الآخرون ويسخر منه ، فيتودد إليها ويقدم لها هدية نفسية ، بل ويعترف بحبه لها وعندما تحقق ميراندولينا بغيتها تكشف عن نواياها الحقيقية فترفض هديته في ازدراء وتتنصل من تصرفاتها وتفسرها بغير ما أوحت له بها وتصده بمنطقة في معاداة المرأة ثم تتجنبه وتبتعد عنه . فيفقد الفارس صوابه ويضرب عرض الحائط بمكانته الاجتماعية واتهام النزلاء له بالنفاق والأنانية والكذب بل ويجن جنونه فيتهجم على فابريتزيو لغيرته المحمومة منه ويدخل في مبارزة مع الكونت ويفعل كل ما في استطاعته ليقتنص ميراندولينا ويسوى حسابه معها . وفي النهاية تعى ميراندولينا فداحة عواقب لعبتها ومدى المخاطر التي تهددها فتعمل في ذكاء للخروج من المأزق ، فتحفظ للفارس ماء وجهه أمام الجميع وتعلن عزمها على الزواج . ولايجد الفارس بدا من التسليم بخسارته حينما يدرك تلاعبها بعواطفه ويكتشف حقيقة مشاعرها نحوه.

كان جولدوني صديقاً لعدد كبير من الموسيقيين مثل فيفالدي وغالوبي وعدد آخر من الكتاب والفلاسفة أمثال فولتير وجان جاك روسو، وشهد عصر العظمة والمهانة لقصر فرساي في عهد لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر، وتعرض لأذى كبير بعد أن كسب رهاناً وتحدياً بكتابة ست عشرة مسرحية في عام واحد، وكانت تنتابه نوبات من الكآبة التي لا يعلم بها أحد، أو تمر به فترات من الكسل واللامبالاة وعندما تقدم به العمر عاش مكرّماً ومدمراً في الوقت نفسه، فقد عاش مائة وجه لحياته التي امتزجت بالمسرح، ويمكننا أن نقتبس عبارة جاءت على لسان أحد شخوصه «جوليمو» في مسرحية «المغامر الذي استحق التكريم»، يقول فيها: «أريد أن أمتع نفسي، لا أريد أن أعاني المتاعب، أريد أن أكون قادراً على الضحك من كل شيء، وأتذكر فوق هذا حكمة معروفة تقول: إن الإنسان الروحاني يجب أن يرتفع فوق كل ضربات القدر».

نشر الشاعر الإيطالي روفيلي كتاباً موثقاً مثيرا بعنوان: «حياة وحب وغرائب كارلو جولدوني» يؤكد فيه أن جولدوني كان يتعلم بسرعة البرق، وبالإضافة إلى شغفه بالمسرح كان مشدوداً إلى علاقات غرامية بسيطة وبريئة، لكنه ظل طيلة حياته مخلصاً لزوجته نيكوليتا التي شاركته المتاعب: «لم يكن جولدوني أنيقاً، وهذا ما تذكره جميع النساء اللواتي عرفنه بكثير من الرقة والامتنان، ومنهن كونتيسات وخادمات وفتيات يافعات».
آخر الكتب التي صدرت عن جولدوني كان للكاتب ادواردو بيرتاني وهو يلخص حياته، وأعماله بشكل دقيق: «إنه رجل محب ومبدئي، ولكنه ببساطة ليس ابن عصره، إنه متلهف للجاذبية الأنثوية والأطعمة الجيدة، ويتوخى الدقة في عمله، إنه مغامر نبيل، عاش بسرعة، وكتب بسرعة، وكان مضطراً أن يحترم عقوداً غير محترمة، بسبب حاجته إلى الكتابة والمال، إنه رحالة يحب السفر منذ الخامسة عشرة من عمره، عندما اتجه إلى روما مع والده جيوليو الذي كان طبيباً دون شهادة رسمية».



بدأت الخطوات الأولى لإعادة اكتشاف جولدوني في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين، مع صعود الواقعية الجديدة، في السينما والمسرح في إيطاليا، ولكنها أخذت شكلاً أكثر عمقاً واتساعاً في الاحتفالات بالمئوية الثانية لوفاة جولدوني، والتي تركزت في فينيسيا وروما في شتاء عام 1993، وانتشرت في أكثر الدول الأوربية والعواصم العالمية، وضمت مؤتمراً لوزراء الثقافة الأوربيين ونشاطات مسرحية وسينمائية وموسيقية، وقرارات بإعادة ترجمة وطباعة أعمال جولدوني والدراسات المستجدة عنها، مع إصدار مطبوعة شهرية على مدى عشر سنوات، خاصة بأعمال جولدوني، وتشكلت لجنة في فرنسا لترجمة أربعين مسرحية مختارة من مسرحياته. وقال الكاتب المسرحي والناقد الإيطالي أوغور أنفاني السكرتير الفني العام للاحتفال: في هذا اليوم بالذات تم الكشف عن «جولدوني المتخفي» ومعرفة أعماله بحيوية بالغة وتذوق جديد.


.المصادر العربية 
1- مسرحية "صاحبة اللوكاندة "  تأليف : كارلو جولدوني ، ترجمة :سلامة محمد سليمان ،العدد 144 ،المركز القومي للترجمة ، المجلس الأعلي للثقافة ،2000 ،القاهرة .
المصادر الأجنبية 
1-ارمين جيبهاردت -  كارلو جولدوني الكاتب المسرحي الأكثر أهمية في إيطاليا

Carlo Goldoni

Italiens bedeutendster Lustspieldichter
Im Italien des 18. Jahrhunderts hat Carlo Goldoni das textgebundene Lustspiel, so wie wir es verstehen, durchgesetzt. Bis dahin beherrschte die sogenannte Commedia dell Arte die Theaterspielpläne. Glücklicherweise kommt Goldoni in der damals... mehr
2008, 110 Seiten, Masse: 21 cm, Kartoniert (TB), Deutsch


محسن النصار


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق