تصنيفات مسرحية

الجمعة، 25 يوليو 2014

جماعة مسرح الحكواتي

مدونة مجلة الفنون المسرحية
روجية عسفاف مؤسس جماعة الحكواتي 
مما يطرحه"روجيه عّساف", المنظّر لهذه الجماعة ومخرجها , نرى أنه يعبر, عما يتعلق بالتراث المـلازم للحيـاة الجماعيـة, ومـا يعنيه التراث, من تعبير الأفراد عن وجـودهم فـي الجماعـات, ومـن تعبير الجماعة, والمضامين الأسطورية ومروياتها . ومـا يعنيه كـواقع فكري, يوفر الغذاء الروحي للعلاقات الجماعية, هذا الغذاء الذي يعد من الأمور الحياتية, الاجتماعية المتعلقة بتثبيت الهوية, وإتمام التلاحـم الشعبي, فلكل تجمع بشري لغة, هي الشـكل الـذي تتظـاهر فيـه المجموعـة نفسها .
إن معاينة الصور العابرة في الحياة الواقعيـة, التـي سـوف تصبـح تاريخاً فيما بعد . بتفاعلها مـع هـذه الصـور, وضمـن ذلـك الواقع يجعل الجماعة تتخذ موقفها من هذه الصـور, وتعيش معهـا فـي حلقة تنشأ بنـاء عـلى الشـعور بـالأخذ والـرد, حـتى تتبلـور الصيغـة الرامزة للعادات, أو الطبائع السلوكية,بفعالية معينة مقبولة اجتماعياً عـلى أنهـا فـروض أو تقـاليد لا يمكـن تجاوزهـا, ومنهـا الفعاليــات الاحتفالية, والمسرحية, والحكواتية. فلكل مجتمع صياغتـه التـي يتـوصل إليها من قناعات الجماعة . فالمجتمع الإسلامي العربي مثلاً قد جهل مهنة التمثيل المتداولة ومعروفة حاليــًا فـي الغـرب, لأن مهنـة التمثيـل في المجتمع الإسلامي, كانت مختصـة بفعـل التشـخيص, والروايـة بمخـتلف أنواعها, أما مهنة التمثيل السائدة, فهي مرتبطة بضروريات المجتمع تتغير مع تغيّر البُنى التقليدية . والأساسية التـي تجتاحهـا, فـي إطـار تسويغ استلاب الإنسان, من خلال تحويل مقاومة ميوله الفطرية المكبوتة، واستنفادها في صور فنية خيالية, يدعى للتفرّج عليها, ولا يشارك فيها، هي رغباته العميقة التي يطاردها في عالم وهمي على المسـرح, لأنـه قـد حرم منها في الـواقع, بينمـا لا يحتاجهـا الفـرد فـي المجـتمع العـربي الإسـلامي, لأنـه وبفعـل الـوضع الاجتمـاعي, وطبيعـة إعـادة الحكايـة وتشخيصها بالنمط المشرقي, تجعله كفـرد اجتمـاعي عنصـراً فعـالاً فيها, ليس كمشاهد, وإنما أيضا كمشارك ومصحح, بل وناقد مشاكس .
فقد عرف المجتمع العربي الإسلامي أشكالاً أخرى من التمثيل، يمتزج فيها الدور بالمشاركة من جهة, وبالموقع الاجتمـاعي الحـقيقي مـن جهـة أخرى, فالقصاص مثلاً, والشاعر القبلي, والمهرج الشعبي, كـانوا يعبرون عما تبطنــه المجموعـة ومـا تضمـره فـي سـرها, فينطلقـون مـن رموزهـا المتداولة ليشاركوا جمهورهم حياته وطموحاته, فـي حـفل جمـاعي "حلقـات الأنس, جلسات الأسرة, لقاءات الأفراح, أعياد الموالد, ذكـرى عاشـوراء، وغيرها", يعبّر أحدهم مع الأخـر, عـن وحـدة الشـعور المجموعـة عن طريق الاتصال, من خلال معتقدات سائدة, تساهم فـي تكـوين اللحمـة الأساسـية آنياً, من خلال عمل كل من الحكواتي, والمقريء, والمعلم الصوفي .
والتمثيل في هذا المسرح المحتمل, ينبثق بأصولـه مـن فـن المحّـدث الذي يروي ويحكي, فيحيي مشاهد الحكايـة وشـخصياتها عندمـا يقدمهـا، لكنه يبقي محافظًا على حرفته, ومميزات شـخصيته, مـن وراء الـدور, فلا تنمحي شخصيته, ولا يختفي وجهه وراء القناع الذي يلبسه الممثل, سواء من خلال المكياج, أو من خلال حلوله في الشخصية . وإنما هو يحـاكي,ويقلـّد، ويشخص, مستحضرًا الأحداث, والأحاديث, وفي الوقت نفسه يعبر عن شـعوره، ويحتفل مع الناس, لان منهجية الحـكواتي كممثـل, تخـتلف جوهريـًا عـن منهجية الممثل القناع, والممثل لشخصية الدور .
وتقوم فرقة مسـرح الحـكواتي اللبنـانيـة فـي الممارسـة الحياتيـة الاحتفالية كمرجع لبناء المسرحية نصـًا وأداءً, إذ إن قوام النـص لا ينحو أكثر من ذلك التجميع والتراكم من المـوروث الشـفوي عـلى ألسـنة العامة من الناس, الذين يلتقي أعضاء الفرقة بهم, فيقص بعضهم الحكايـات والأحداث التي شاهدوها, أو مروا بها . أو تلـك الشـخصيات المؤثـرة فـي حياتهم من أقربائهم, أو من مجتمعهم, أو تلك التي تعتبر رمزاً لهذا المجتمع الصغـير الـذي يكـتنفهم, ,من خلال ذلك يسجل أعضاء الجماعة الملاحظات, من خلال اللقاءات . ويقومون بتدوينها من خلال المراقبة الذكية, للأحاديث، ثم يقـوم أعضاء الجماعة بعدها بالفرز بين المـوروث الإيمـائي, وصفـات الأفـراد وطبائعهم, بغية الحصول على نوعية متميزة من مجموعة اجتماعية في ماضيها، وحاضرها . ويبدو من هـذه العملية أن الصفة الجماعة فـي هـذا التوجـه لهـا خصوصيتها, من حيث قابليتها للوصول إلـى النـاس, والالتحـام بهـم, بـل وسحبهم إلى العمـل,واسـتدراج ذكريـاتهم, بتلـك التلقائيـة فـي السـرد والعفوية في التعبير والإيماء .
وتقوم الفرقة بإعادة صياغة المادة الخام, التي تجـمعت لديهـا عـن حادثة ما, أو سرد لصفات شـخصية معينة, وذلك عنـد إدخالهـا فـي معمـل الكتابة, فينمو النـص مـن خـلال تجـميع حـوادث وشـخصيات وتركيبهـا، استرشاداً بالحرفية اللازمة لفـن كتابـة النـص المسـرحي . وهنا أهمية لمبـدأ التكرار في الحدث, والحديث حول واقعة ما, أو شخصية معينة, بغية إعادة البناء, وتجميعه, بإضافات ابتكارية, تعتمد على التخـيّل والاسـتذكار، لأن التذكر الحقيقي غير وارد في عملية الصياغة النهائية فالماضي هـو حلم لن يعود, والحكاية لدى مسرح الحكواتي هي بانوراما جمعتها الفرقة من خزين الناس بإمتدادات متقاطعة, أفقياً مع الأحداث, وعامودياً مـع الشـخصيات .
وكثيرًا ما يتعجب الجمهور, عند مشاهدته أحداث المسرحية, وشخوصها التي اشترك مع مسرح الحكواتي فـي خلقهـا, ولمـدة تتعـدى سـتة الأشـهر فـي الإعداد للمسـرحية, كما حصل في مسرحية "عام 1936", وكذلك فـي مسـرحية "أيام الخيام", فقد استغرب أصحـاب القصـص الأصليـة, مـن قـدرة فنـاني الفرقة على الاقتراب من الأحـداث والشخصيات, فقد وصـف أقـارب إحدى الشخصيات المشخصة, بأنها تتطابق كثيرًا مع الصفات العامة للشخصية التي دارت أحاديثهم للفرقة عنها, رغم أن ما حكوه لفـريق الجماعة ليس إلا وصفاً عاماً, غذى المحدث الفرقة بـه, مـن خـلال معلومات استحضرها
لفريق الفرقة, لأن هذا المحدث, وهو يستحضر ذكرياتـه الخاصـة لـم يضـف إليها إلا انطباعه الشخصي, ووده, ومدى حميميتـه لهـذه الشـخصية التـي ينتمي إليها سواء بالدم, أو بالنسب, أو بالجيرة, وهـو بفعلـه هـذا لا يتطابق كثيراً مع عمل راوي السير الشعبية, الذي يقترب أكـثر مـن عمل هذه الفرقة الجماعي, عندما يشخص شخصية مهمة في سِيرة ما يعرفها الجميع, أو سمع عنها الكثيرون . بل إنها شخصيات, وأحداث ترسخت منذ زمن طويل في الضمير الجمعي, فإذا ما تجاوز حـدوده المعهـودة, مبالغـة أو إهمالاً، نَبهَه لجمهور إلى فعلته, وكذا عمل فرقة مسرح الحـكواتي هنـا، هو عمل دقيق, لا يستهان به, خصوصًا إذا ما عـرض عملـه فـي نفس الأماكن التي استقى منها المعلومات "الشخصيات, والأحداث" . فالكل هنا وعلى المستويين, يحاول المطابقة, وهو يستقبل النموذج, بـل ويقـوم بالممازجة بين ما عنده, من صفات حاضرة فاعلة أمامه, وبين مـا يتذكّره ويتخيله, عن هذا النموذج, هذه الحالة تبرز أكثر, عنـد مشـاهدي حكايات السِير التاريخيـة, مثـل سِيرتيّ "الظاهر بيـبرس, وأبـي زيـد الهلالي", اللتين ما تزالا حيتـين إلى الآن .
ومسرحية "أيام الخيام" هي حكاية الجماعة المروية في النص المحكي جماعياً منذ الكتابة الأولية وحتى نقل الحالة للناس من جديد, تلـك تجربة متجسدة في حكاية عن قرية "الخيام" الحدودية في "جـنوب لبنـان"، المأخوذة من أفواه الرواة, المشخصين للسرد والتجسيد, نقلاً عن الناس الذين حكوها, وعن أحداث شاهدوها أو تذكروها . وقد أيقظت هذه المسرحية فينا تلك القدرة على التذكر, والمواجهة من خلال التنويعـات الحياتية، التي تفسح المجال للفرح, والفاجعة معا, بتداخل تحكمه اللحظة, لتعطـي المصداقية الواقعية, لكل من الشخصية, والحدث الدراميين.
وقد أثار عرض مسرحية "أيام الخيام" نقاشـات كثـيرة, وبمسـتويات متفاوتة, لأنه خاطب الناس في صميم معاناتهم, بالقص والحكي, والتشخيص، وذلك من خلال روح الجماعة, التي تتحدث إلى جماعة جاءت تسمعها وتراها، وقد استنبطت الجماعة الأولى هذه الأحـداث من أحاديث النـاس أنفسـهم، وقد جاؤوا الآن ليروا ما حلّ بأحاديثهم, وإلى ماذا تطورت . وبالمقـابل توجد جماعة من المشاهدين لم يحتكّوا بكلا الجماعتين لكـنهم وجدوهـا تمثل وجدانهم هم أيضا, ما دامت هذه المادة قد أصبحت مـادة لعمـل فنـي اقتبسته جماعة, وقامت بتطويره ليس كمضمون فقط, وإنمـا كشـكل, وحكايـة يتزامن فيها الإعداد والسماع, وإعادة الفرز معا, بل إن الفرقـة كـانت تعرض بعض التمارين أمام رواة المادة الخام أثناء تدريباتها, مـن أجـل استنتاج ردود الأفعال المسبقة, بغية اجتياز مراحل التركيز, والتـوضيب والصقل النهائية .
وفي النقاش الذي دار بعد عرض مسرحية "أيام الخيام", قال "روجيـه عسّـاف" مخرج المسرحية, ردًا على كثير من التساؤلات, بأنـه يبحـث عـن انتمائه من خلال العلاقة بالجمهور, والتي تحولت مع الوقت إلـى علاقـة بالناس خارج المسرح, فالهاجس ليس البحث عن شكل مسرحي, بل هو البحث عـن نهج عملي, لإيجاد وسيلة للتعبير, فكل عمل فني إنساني, هـو عمـل فـردي بالضرورة, سمته الفردية لا تنحصر في الكتابة, بل تمتد إلـى كـل شــيء "التمثيل, والإخراج, والديكور, والإضاءة", لأن كل الأعمـال الجماعيـة مكوّنة من أعمال فردية بـالضرورة, والحـكواتي الـذي نقدمـه ليس الشـكل
المنقرض الذي تحترفه المقاهي, ولكنه الجوهر الحـي فـي أذهـان النـاس، والعمل الجماعي, هو وحدة الشروط التي منها توظيف الخـبرات والطاقـات بتفاعلها, وتفاوتها, إضافة لتغير نوعيـة العلاقـة لكـل مـن الإنتـاج والجمهور المسرحي, من خـلال بنـاء مراحـل الإنتـاج التـي تبـدأ بصهـر الكتابة, في التمثيل, من خلال أداء ارتجالي جمالي للمكتوب, يتم بعدها إيجاد تركيب مسرحي صحيح للمشاهد, وتحديد أسلوب الأداء جماعيّاً, بغية بلورة لطبيعة علاقات الشخصيات, واختيار الجسور الفنيـة بيـن المشـهد وبين الجمهور,وأخيراً توليف وتركيب جميع عناصر العمـل المسـرحي, بعد الأداء الإرتجالي, على النص, وعلى شكل الإخراج .
لكن هذه التجربة لم تمتد, لأن غياب المخرج, والمدير الفعلي للجماعة عنها، وانشغاله . ونُسيت الطريقة, ولم تقدم حصيلتها للآخرين، على غـير مـا يتم عمله من خـلال مركـز للإبـداع, تسـتجمع فيـه المـردودات كمحـصلات مكتوبة ومرئية للدارسين .وذلك يعود ربما للحرب اللبنانية كما تذكر الدكتورة وطفاء حمادي هاشم في استفتاء عن دور الصحافة في النقد المسرحي العربي (1)
ويبدو أن للتأثير الغربي في التجريب أيضًا جانب مهم, خصوصًا على الجماعات المسرحية كفرقة "مسرح الحـكواتي اللبنانيـة", ومنهـا تـأثير فرقـة "مسـرح الشـمس" الفرنسـي بقيـادة المخرجـة "أريـان مينوشـكين" التي تعمل بمنهـج جمـاعي, وخـلق ربرتـوار يـزاوج بيـن التجربة اليومية للمتفرج, بقصد ربط العمـل المسـرحي, بمحـيط اجتمـاعي معين, وذلك من خلال استقاء معلوماتها مـن النـاس,فـي أمـاكن عيشـهم، وعملهم حيث يشارك جميع أعضـاء الفرقـة, فـي البحـث والإبـداع اللـذين يقودان إلى ارتجالات فنية, عمادها المواضيع المرجعية في البحـث, وقـد عقب الناقد المسرحي "بول شاوؤل", في مقارنة موضعية على عمل الفـرقتين وتقارب أسالوبيهما معًا .
(1) في ورقة عمل  للدورة الثالثة عشرة لمؤتمر الهيئة العالمية لنقّاد المسرح في هلسنكي – فنلندا بين 5 – 8/10/ 1996 .
(2) كتاب آفاق تطويع التراث العربي للمسرح للدكتور فاروق أوهان إصدار وزارة الإعلام والثقافة بدولة الإمارات العربية المتحدة لعام 1999.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق