مدونة مجلة الفنون المسرحية
لم يخطر ببالي وأنا أشاهد العرض المسرحي “حرب النعل” ـ الذي افتتح العروض الرسمية لمهرجان الكويت المسرحي الخامس عشر ـ أنني سأخرج بكل هذا الانبهار وفي نفس الوقت بكل هذه الحيرة, انبهار بالفرجة المسرحية التي عشتها على مدى ساعة, أما الحيرة فتتمثل في انتقاء كلمات أصف بها روعة كل عامل من عوامل نجاح هذا العمل على حدة.
الصمت الرهيب في صالة مسرح الدسمة منذ بداية العرض لم يعطنا مساحة لتشوش أفكارنا أو نسرح مع أشياء جانبية, فقط ركزنا مع قصة العمل التي تابعناها مرة واحدة دون ملل ولا كلل, إيقاع سريع ومتواتر وأحداث متلاحقة لا تعطيك الفرصة لتترك الأحداث وخيوطها تخرج من يدك, أداء أكثر من رائع من ممثلين محترفين بالفعل ـ فجميع أبطال العمل الرئيسيين ممثلون ذوي شهرة كبيرة في الدراما والمسرح ـ وسينوغرافيا أكثر من رائعة وظفت جيدا لخدمة النص فأدت مهمتها وأكملت الصورة, ومخرج متمكن أدار هذه المكونات باقتدار.
“حرب النعل” هذا العمل الذي كتبه الإماراتي إسماعيل عبد الله الأمين العام للهيئة العربية للمسرح وقدم من قبل, هو نص عميق ومليء بالإسقاطات السياسية والاجتماعية, ولكي يقدم مرة أخرى كان يحتاج لرؤية مغايرة حققها المخرج الشاب عبد الله البدر, فالعمل ورغم أنه يدور في البيئة البحرية التي استخدمت في أكثر من عمل من قبل, إلا أنه يحمل فكرة وحبكة مختلفتين, ورغم أنه يكرر الفكرة الأزلية المتمثلة في الصراع بين الخير والشر إلا أن تسلسل الأحداث وتداخل العلاقات بين الشخصيات والنهاية غير المتوقعة جعلت العمل بالفعل مختلفا, ولأننا لم نشاهد العمل الأول فلا نستطيع أن نقرر أيهما أفضل, إلا أننا نستطيع بالطبع الحكم على ما شاهدناه, فالبدر وفريقه قدموا عرضا مختلفا, وهو ما أكد عليه المخرج الذي قال إن بعض التعديلات أُدخلت عليه بعلم وموافقة الكاتب اسماعيل عبد الله.
يدور العمل بإيجاز حول فتاة قُتل أبوها على يد أحد النواخذة الأشرار, الذي سيطر على البحر وطرد منه الصيادين وجوع الناس, هذه الفتاة تريد أن تنتقم لمقتل أبيها, إلا أن جدها الضرير يقف بوجهها في محاولة لإثنائها عن تحدي هذا الظالم, محذرا إياها من أن تلقى مصير أبيها, لاسيما أن حبيبها صار ـ كما تعتقد ـ خانعا للظالم المستبد وراح يعاقر الخمر وينشد الشعر, وبقية الناس يعيشون بخوف ولا يستطيعون مواجهة الظالم, وبمرور الأحداث نكتشف أن الشاب السكير لم يجد شيئا يحارب من أجله ضد المستبد بعد أن تخلى عنه أقرب الناس إليه حين سجن ظلما وفقد أمه التي حزنت عليه وماتت كمدا, لكنه في النهاية يكشف عن كراهية كبيرة بداخله لهذا القاتل ويقرر أن يتصدى له.
الطريف أن هذا “الحوت” يأكل أموال الفقراء ويجوعهم ويتهمهم و”القطاوة” بأكل سمكه, وربما تكون هذه حيلة منه لكي يجد سببا ليواصل تجويعهم, إلا أن السكير يطارد تلك القطط المزعومة, وتكون المفاجأة أنه لا يستطيع القضاء عليها, وحين تدق طبول الحرب ونصل إلى ذروة الصراع نجد القطط تطارد الفقراء في حين يفر الحوت ويقف بعيدا ولا تقترب القطط منه.
الصادم في نهاية القصة هو انتصار الشر, وميلاد أمل مشوه متمثل في طفل “مسخ” يولد بجسم إنسان ورأس قط, ليتضاءل الحلم وتموت بقعة الضوء, خصوصا حين تنقض القطط المفترسة على البسطاء وتترك الحوت الذي يحض الناس على قتال تلك القطط بالنعال, “فلا هم يقتلونها ويتخلصون منها ولا هم يحفظون نعالهم”, حتى صاروا حفاة وجياع وجبناء يلزمون بيوتهم ويخافون رمي القطط بالنعال.
الشيء السلبي في هذا النص الرائع هو نبرة التشاؤم, التي كسر حدتها إلى حد ما كوميديا هزلية قدمها كل من حمد العماني وإبراهيم الشيخلي, تشاؤم تجسد في أن الأعمى هو من يقود, الأخرس “الشيخلي” هو من يصف العدو المخيف, السكران هو الأكثر ثقافة وحفظا للشعر والأرهف حسا وإحساسا, العدو قطط والسلاح “نعل”, والامل في النهاية ولد مسخا مشوها والجاني خرج من الصراع والتهمت الوحوش البسطاء.
أداء الممثلين كان أكثر من رائع بداية من الجد الضرير الذي جسده الفنان سليمان الياسين, ومرورا بالفتاة “حور” أحلام حسن, التي هجرت الحبيب بحثا عن الانتقام والثأر, والشاب العاشق “أحمد” حمد العماني الذي أصبح “صنغل” بعد سكره الدائم, وهو من دافع عن محبوبته فكان مصيره الجلد والعذاب وفقدان أمه, فعاقر الخمر املا في النسيان, “الحوت” نواف القريشي الذي اجاد دور الشر المتغطرس, وصولا الى مساعده حسين المهنا الذي كان ذراعه اليمنى, وإبراهيم الشيخلي الأخرس خفيف الظل الذي لفت الأنظار رغم أنه كان ضيف شرف العمل.
السينوغرافيا كانت أكثر من رائعة, ووظفها المخرج البدر توظيفا متعددا, فالأحجار البيضاء التي انتشرت على المسرح, شهدت تحولات عدة, فهي في البداية شهود القبور في مشهد دفن والد الفتاة “حور”, ثم كانت سبيل الضعفاء لبناء السور الذي يزعمون انه سيحميهم من القطط الضالة, وفي النهاية بدت كأسنان الحيتان الكبيرة التي لا طائل من ورائها, الستائر السوداء الشفافة لعبت دورا في إصباغ الخشبة بالحزن تماشيا مع الدفان وحالة الحزن, ثم بدت كشبكة صياد تعلقت بها أشواك الأسماك التي يأكلها الظالم وأعوانه ويلقونها على الشاطئ فتعلق بشباك الفقراء, أما هياكل الأسماك فهي رمز للفقر والجوع, وكذلك استخدمت الستائر الشفافة لتكون في خلفيتها الحرب المزيفة التي تشنها عصابات الحوت على تلك القطط, ثم لهروب الحوت حين يشتد الصراع لتعزله والقطط عن الأحداث في فترات متباعدة من العرض, كذلك الإضاءة كانت متناغمة مع حركة الممثلين واستعراض المجاميع, وأضفت الموسيقى الحية التي صاحبت العرض نوعا من المصداقية وأعطت روحا مختلفة للعمل, كما كانت الأزياء مميزة وعبرت عن البيئة البحرية, أما الحوار فكان أجمل ما في “حرب النعل” حيث كان موزعا على الممثلين حتى المجاميع التي تداخلت في الحوار والأحداث بشكل جيد, وكلة تقال في حق المخرج عبدالله البدر الذي كان على قدر النص العميق, وقدم عرضا جيداً سيكون من أفضل عروض المهرجان بدليل التصفيق الحار وتفاعل الحضور الكثيف في مسرح الدسمة, وكان للفواصل الكوميدية دور مهم فهي كانت بمثابة فسحة للجمهور, كما استطاع المخرج ان يستفيد من المجاميع, وكان إيقاع الأحداث سريعا ما قضى على أي سبيل لتسلل الملل إلى المتفرجين.
أما عن السلبيات فتمثلت في التحولات الدرامية المفاجئة, منها تحول مشاعر البطلة في البداية من الحزن إلى الكراهية بعدوقت قصير على دفن أبيها, ودق الطبول والموسيقى الجنائزية, وكذلك اقتناع الجد الضرير فجأة برأي حفيدته في ضرورة التصدي لـ”الحوت” وهو في المشهد نفسه كان من أشد الرافضين لأفكارها, وكذلك الحال بالنسبة للطفل “المسخ” الذي ظهر في نهاية العمل فجأة دون أن نعرف لمن هذا الطفل?
لقطات
حرص الأمين العام للمجلس الوطني على حضور العرض المسرحي, ثم تلقى التهاني بعد انتهاء العرض, تهاني التجديد وتهاني العرض المبهر الذي كان على مستوى المهرجان الكبير.
الفنان طارق العلي والفنان عبد العزيز الجاسم حرصا على تهنئة الممثلين على خشبة المسرح بعد انتهاء العرض.
احتج طارق العلي على اندهاش و”صدمة” الأكاديمي المصري د. عمر فرج على مستوى العروض والخريجين الكويتيين وطالبه بقراءة تاريخ المسرح الكويتي ليعرف أن تاريخ الكويت زاخر بالأسماء, حدث ذلك خلال الندوة النقاشية التي أعقبت العرض.
هوشة غريبة شهدتها الندوة التطبيقية بين الفنان العماني أحمد البلوشي ورئيس المركز الإعلامي للمهرجان بسبب إبداء البلوشي لرأيه كناقد للنص وهو منوط به تقديم الندوة فقط.
العرض المسرحي تأخر بضع دقائق بسبب خطأ في “سيستم الصوت”.
المخرج عبد الله البدر نوه إلى أن الفنانة أحلام حسن أشرفت على النص المسرحي في مرحلة الإعداد. وهو تنويه سقط سهوا عن بروشور العمل الذي وزع قبل العرض.
احمد عبد المقصود
لكويت - االسياسة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق