مجلة الفنون المسرحية
يرتكز المسرح دائما على النظرية والممارسة التطبيقية والتواصل مع التجارب المسرحية العالمية المتقدمة، بدون الانغلاق على الذات الفنية المحلية ، بل يجب التعامل معها باعتبارها تجارب تكاملية حتى يكون المسرح العربي قادرا على اكتشاف لغته الفنية الخاصة التي تخلق حتما تواصله مع الجمهور .
ضمن هذا الهدف تأثر كل من يوسف العاني وقاسم محمد وعادل كاظم ومحي الدين زنكنه ونوري الدين فارس وطه سالم في العراق بنظرية المسرح الملحمي البرشتي. ومن هنا فان افكار برشت تدخل في صميم عمل يوسف العاني ووجهة نظره للفن والحياة عموما. وقد برز هذا التاثير وا ضحا عندما كتب مسرحية المفتاح من اخراج سامي عبد الحميد التي تعتبر تطورا بارزا في التاليف على نطاق المسرح العراقي في محاولة تحقيق العرض الشعبي ، وكذلك بالنسبة الى اسلوب المؤلف ذاته ، حيث كان العاني قبل هذه المسرحية يكتب عن المشاكل الاجتماعية العراقية في فضاء المسرح المغلق المتأثر بأرسطو.
وضمن التلامس الحضاري وبتاثير ديناميكية الوعي الاسطوري والملحمي للحضارات العراقية القديمة توجه المؤلف المسرحي عادل كاظم الى الاساطير والملاحم التي تخلق التفاعل المعاصر من اجل منح المسرح ذلك القلق الذي لايؤثر على وعي المشاهد فحسب بل يخلق في داخله تلك الدهشة الضرورية لتحقيق الوعي الذي يفرضه مسرح برشت والمسرح المعاصر.
لذلك فان عادل كاظم ومن اجل ان يحقق مشاكسته الفكرية إزاء ظواهر وجودنا المعاصر ، اعني حرية الإنسان (كذات) وعلاقته بالنظام التسلطي والاستغلالي متمثلا بجبرية الدكتاتور المنفذ للأ ستغلال الطبقي، اومن اجل ان يخلق معادلة صيرورة (الذات) القلقة المتفانية في صراعها مع (الآخر) كتب مسرحيته الأولى الطوفان مستغلا الجو والخصائص الدرامية لملحمة جلجامش القديمة ( وتعتبر المسرحية تفسيرا معاصرا للملحمة والتي أخرجها إبراهيم جلال بعدة رؤى إخراجية مختلفة وبوعي ملحمي بريشتي)
وبالرغم من ان المسرحية لم تخرج عن اطار الكتابة التقليدي ة المتقنة الصنع في بنائها، إلا ان المؤلف بحساسيته الدرامية والفلسفية ولغته التي تهوم في فضاء آت الشعرية والجدل الفلسفي، إمتلك القدرة على صياغة الحدث والفعل الدرامي الذي يتأسس على التناقض الضدي في المفاهيم والافكار اوحتى في الجملة الواحدة . لذا فان لغته الدرامية في عموم مسرحياته تتجوهر وتتكثف بتعبيريتها ذات الطابع الفكري ، إضافة الى توهجها الشعري، فمن خلالها يعبر عن شيزوفرينية وتوهان الذات العراقية القلقة دائماو المستفزة بمشاكلها المعقدة التي هي جزء من مشاكل الانسان العربي المعاصر.
فتحتل موضوعة علاقة الذات بغموض وتعقيد الظاهرات الاجتماعية والكونية والمشاكل المعقدة اللأخرى، جوهر مؤلفات عادل كاظم ، فهو دائما ـ وبعناد لامثيل له يضع بطله في زاوية ضيقة كأنها ثقب الابرة ويدفعه نحو المجهول بغية تحقيق عنفوان الذات البطولي الخادع او علاقتها المحكومة بجحيمية الآخر، مستهديا بقصوره في فهم واستيعاب العالم الضبابي المحيط به عندما يتجاسر للولوج فيه ، بالرغم من رحابة وعقله ووعيه. من هذا المنطلق فان بطل عادل كاظم يبدو في الكثير من الأحيان قَلِقاً ، مضطرباً، ملتاثاً، نتيجة لمحاولته الوصول الى ح صانة فكرية وهدوء نفسي أزاء العالم الاكثر جنونا الذي يعيش فيه.
فالانسان بالنسبة للمؤلف مختنق بمشاكل مادية وميتافيزيقية في الان ذاته ، تشغله دائما حد القلق الوجودي ، بدون ان يجد مبررا او تفسيرا . لهذا فانه يتخبط وسط شبكة الواقع المادي المعقد بمجانيته ، او الميتافيزيقي الغامض نتيجة لأ لتباسا ته . وضمن هذا المفهوم فان أبطاله يلامسون جذر وحقيقة المشكلة ، لكنهم لايحيطون بها كليا او يمتلكونها .
ان مشكلة الحرية هي مشكلة دائمة في طروحات المؤلف ، وتعتبر موضوعته الاساسية فتشكل هوسه الابداعي . ولكن عندما يبدأ أبطاله التفكير العملي والتجريبي بحريتهم او الثورة على الواقع السلبي كونه وجودا ملتبسا ، اوعندما يعمدون لملامسة الظاهرات ذات الطابع الفلسفي ، فانهم ينكفئون على ذواتهم ، فتصبح مفاهيمهم حول الحرية والثورة والعلاقة بالآخر وغيرها ( والتي تشكل الوجود الذاتي للبطل ) مقولات وظاهرات معقدة وخالية من مضامينها وجوهرها وخاصة في مجتمع محكوم مسبقا بالحرمان منها ، وهذا يخلق التصادم بين البطل ومحي طه ، بين الذات كوجود في صيرورة الفعل وبين الوجود الآ خر ( الواقع او الذات الأخرى ) وقد يؤدي هذا الى السكونية والسلبية .
ان مثل هؤلاء الابطال وعلى نطاق محاولة الخروج من أنانيتهم الفردية وسلبيتهم الوجودية يلجؤون الى قوة خارجية ليست ذاتية في تحقيق فعلهم الوجودي ، ولهذا السبب فانهم دائما عاجزون عن فعل التحقق الذاتي فتضج ارواحهم بصراخ لايسمعه احد غيرهم : " العالم أعطى .. والعالم اخذ" كما فعل بطل مسرحيه "تموز يقرع الناقوس "
ان عجزهم في تحقيق ذواتهم بعيدا عن الآخر يدفعهم الى الانتماء للمجتمع من جديد ، لتحقيق فعلهم الحياتي للتكامل مع تلك النار المستعرة في دواخلهم أو ذلك الطموح لملامسة تلك الجوهرة الجحيمية المسماة الحرية والتي تظهر للبطل كشهاب ناري تغريه بشعاعها اللاهب فيتبعها باصرار لامثيل له ، ولكن بلا بصيرة أحيانا ، وبدون التأكد من قدراته الذاتية في مواجهة مصيره التراجيدي ، انه مشتت ولاهٍ بالرغم من انه ينحدر الى الأعماق السحيقة لجحيم الخراب ، وان بدا متشبثا في كل شئ ، لكنه يترآى في غشاوة الوجود هامسا بفحيح مأساوي بعد ان يعي حجم خرابه الذ اتي ، كما فعل البطل في المسرحية السابقة :
(هاأنذا أحمل حملا ثقيلا / متوجه نحو القمة / ويجب ألا أسقط )
وهنا يبدا تاثير برشت فكريا وملحميا وتغريبيا ، حيث ان البطل يتخلى عن ذاتيته لينتمي الى الآخر . وهذه هي الميزة التي اكتشفها إبراهيم جلال ـ المنتمي الى برشت في معالجة المشاكل الاجتماعية على المسرح ـ في ابطال عادل كاظم وحاول دائما تطويرها من اجل ان يخلق العرض الشعبي المبني على إفهومة برشت في المتعة والتعليم.
والجانب الاخر من روح وموقف بطل عادل كاظم الخارج من قدسية الاساطير والملاحم البابلية يلامس ذاتيته لكنه لايستطيع تحقيقها غلا بالتخلي عن هذه الذاتية ، عندها يصبح هشا وقناعا غير معبر ، لانه يجتاز منطقة الخطر وامتحان الذات اضطرارا ، فينحدر الى هوة الهامشية والتماهي ، ليتحول الى بطل بائس ، متكيف مع خراب روحه فيصبح جزءا من التاريخ الاستثنائي قياسا لدوره في تغير ذاته وواقعه . وعادل كاظم عندما يقوم باستغلال التراث البابلي ، يحاول انتقاء تلك المقولات والافكار التي لها علاقة بمشاكل عصرنا الراهنة ويبني عليها مفاهيمه المسرحية .
---------------------------------
المصدر : ملاحق المدى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق