مجلة الفنون المسرحية
يصعب إدراك المغزى الفكري والجمالي لمسرحية «اللصوص» بمعزل عن معرفة التحولات الثقافية في أوروبا في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، فقد كتب شيللر هذه المسرحية في مرحلة بلغت فيها الثقافة الأوروبية منعطفاً مهماً وخطيراً تجسَّد في تراجع عصر التنوير حيث هيمنة العقل، لإخلاء المكان لقدوم الثورة الرومانتيكية الجديدة التي كان يمثلها آنذاك روسو في فرنسا وغوته في ألمانيا. وقد انبثقت في ذات الوقت حركة أدبية في ألمانيا تدعى «العاصفة والانطلاق»، كحركة مضادة للقيم التي طرحها عصر التنوير، مشددة على دور الطبيعة والحس والمخيلة الابداعية والموهبة وحرية الفرد، كمصادر أساسية لجميع القيم الانسانية.
وقد رفضت تلك الحركة وباسم مؤسسها غوته أن يكون العقل هو مقياس لكل الأشياء. هكذا، في مناخ كهذا، ظهرت مسرحية «اللصوص» لتعكس تلك الازدواجية والتأرجح بين التنوير المحكوم بالعقل، وبين فوضى الحرية المطلقة. إن البحث عن الحرية هو القوة الدافعة وراء مجمل الآثار الشعرية والدرامية والفلسفية المذهلة للشاعر الألماني فريدريك شيللر. فقد كانت نصوصه المسرحية، على وجه الخصوص، تبحث موضوع «التفاعل المرّكب بين السياسة والأخلاق وصعوبة الخيارات الأخلاقية» حسب تعبير جون غوثري. فهي تقودنا إلى متاهات أخلاقية، على الرغم من أنها تتضمن خطاباً موّجهاً إلى الانعتاق من الظروف الجائرة أياً كان نوعها.
يُثير شيللر في مسرحية «اللصوص» العديد من الأمور المقلقة. فهو يتشكك ويُثير أسئلة حول الخطوط الفاصلة بين الحرية الشخصية والقانون، فضلاً عن بحثه العميق لموضوع سيكولوجية السلطة، فهو ينتقد بشّدة رياء الطبقة الحاكمة والمؤسسة الدينية وعدم المساواة الاقتصادية على حد سواء في المجتمع الألماني .
أنجز شيللر نصه المسرحي الأول هذا وهو ما يزال في عقده الثاني وشهد أول عرض له عام ١٧٨١. وقد وُصِفت المسرحية حينها أنها أول عمل ميلودرامي أوروبي كُتب قبل أوانه، بيد إنه يمثل اليوم نمطاً من المسرحيات التي يصعب تفسيرها أو إيصالها إلى جمهورنا الحالي،
إلا إن الترجمة الجديدة التي أنجزها كل من الكاتب والممثل المسرحي دانيال ميللر ومخرج المسرحية مارك ليباتشر جعلت النص أكثر حداثة فضلاً عن مقاربته مع ما يواجه عالمنا اليوم من أعمال إرهاب وتطرف وعنف باتت تشكل تهديداً خطيراً للأمن والاستقرار في العالم. تجري أحداث المسرحية في ألمانيا في الربع الأخير من القرن الثامن عشر ويستغرق زمن أحداثها سنتين. الشخصية الرئيسية كارل مور (الممثل توم رادفورد) طالب جامعي مثالي يغادر قاعة الدرس في لايبزغ لينضم، تبعاً لنموذج روبن هود روسو، إلى عصابة من
اللصوص وقطاع الطرق تتخذ من غابات بوهيميا مقراً لها. وكارل يمثل رؤى وأفكار حركة «العاصفة والانطلاق» آنذاك، فهو يعتقد أن العدالة لا يمكن أن تتحقق وتترسخ إلاّ عبر التمرد على السلطة وخرق قانونها السياسي والأخلاقي.
كارل: يريدون إرغامي على ضغط بدني في قماط وإرادتي في قوانين. لقد أفسد القانون كل شيء بأن فرضَ خطوة الحلزون على من كان يستطيع أن يطير كالنسر. إن القانون لم يصنع بعد رجلاً عظيماً، في حين تصنع الحرية عمالقة وكائنات خارقة للعادة.
يتضمن النص ثلاثة نزاعات: الأول، يدور في إطار عائلة الكونت فون مور، بين كارل وشقيقه الأصغر فرانتس الذي يلعب دوره الممثل (أندريو شوفاليه). كلاهما متمرد، غير أن نوايا كل منهما مختلفة. ففيما يسعى كارل من خلال تمرده إلى تشييد نظام أخلاقي مثالي على أنقاض سلطات جائرة، يسعى فرانتس، وباسم العقل إلى تثبيت سلطته هو عن طريق استخدامه القوة والخديعة والارهاب ضد كل الروابط العائلية المقدسة. ازدراؤه للطبيعة ومخلوقاتها ناتج عن تشويهه الخِلقي الذي من شأنه أن يخلق منه شخصاً عدمياً وشكوكياً. إنه القوة المحركة لدفع شقيقه كارل في الانضمام إلى عصابة من اللصوص، على الرغم من استعداد الأخير أصلاً لخوض فعل التمرد. فرانتس ومنذ الاستهلال نراه يحوك دسائسه حول شقيقه الغائب عن المنزل. فتلفيقه للرسالة التي يتلوها على مسمع والده الطيب والتي تتضمن انصرافه عن الدراسة في لايبتزغ وغرقه في الشهوات والديون غرضها تشويه سمعته لأجل حرمانه من الإرث فضلاً عن احتمال إعراض خطيبته آماليا عنه.فرانتس: (يتحدث مع والده العجوز) هل بكيتَ ابنك بما فيه الكفاية؟ يبدو لي أنه ليس لديك سوى أبن واحد.العجوز مور: كان ليعقوب اثنا عشر ولداً، لكنه بكى بدموع دامية على ابنه يوسف.فرانتس: (يهمس) آه... إن مزاجي يلدغ كالعقرب. (يلتفت نحو والده)حتى لو كنت تحبه، ينبغي عليك الآن، كما يقول الكتاب المقدس، إذا أوقعتك العين في الخطيئة فأقتلعها. الأفضل للمرء أن يصعد إلى السماء بعين واحدة من أن ينزل إلى الجحيم بعينين اثنتين.
نحن هنا إذن أمام شخصية هي مزيج شكسبيري مركبّ من وحشية ريتشارد الثالث وخيانة أدموند في (الملك لير) للروابط العائلية. لابد من القول إن هذا التقارب بين الشخصيات الشكسبيرية والشيللرية في النص يمتلك تسويغه المنطقي، فالمّطلع على أدب تلك الفترة يدرك جيداً أن «حركة العاصفة والانطلاق» وغوته وشيللر بالتحديد، كانا تبنيا الثيمات والبُنى الشكسبيرية لعمقهما أولاً، والأمر الآخر أن ممثلي حركة التنوير يومها كان لديهم موقفاً مضاداً من نصوص شكسبير وبُناه، بسبب تعارضهما مع منهج الكلاسيكية الجديدة آنذاك.
أما النزاع الثاني، فهو يدور بين كارل مور من جانب وبعض أعضاء عصابة اللصوص التي ينتمي إليها، من جانب آخر، بسبب نزعاتهم في قتل النساء والأطفال والشيوخ وحرق المدن والتي تتعارض ومشروعه الأخلاقي.
ولوج كارل في دائرة العنف، التي أراد تجنبها، تشعره بخيبة أمله في تحقيق مشروعه الأخلاقي، إلا إن مقتل رولر، أحد أفراد العصابة، والتضحية الذاتية لشوبنزر بعدم البوح باسمه كقائد لهم، يدفعانه لتجديد العهد مع اللصوص في مقاومة السلطة التي كانت وراء مقتلهما. حين يكتشف في الآخِر مكائد شقيقه بشأن الرسالة المزورة وكذلك محاولته الدنيئة في استمالة قلب آماليا بالقوة، يقرر الثأر منه، إلا إن رجاله يعثرون عليه منتحراً.
هكذا تكتمل دائرة الإحباط ليبتدأ النزاع الثالث والرئيسي، وهو نزاع ذاتي يمور في أعماق كارل، حيث يدرك وبعد فوات الأوان إن تبشيره الرومانسي بالعدالة لم يكن سوى إشارة للخيبة التي أحالته إلى إنسان منبوذ وملعون من الجميع، وهذا ما يدعوه إلى الاستسلام طواعية إلى السلطات. كارل:« يا للقدر السيء، كم كنت أحمقاً حين ظننت أنني أستطيع إصلاح العالم بمساوئي وأن بمقدروي تشييد العدالة من خلال الفوضى، وكنت أسمي ذلك حقاً وانتقاماً.. وأخيراً كل ما حدث لم يكن سوى لعبة عابثة..». بسبب تطرفهما المثالي يدين شيللر كلا الشقيقين على حدٍ سواء، على الرغم من أن أحدهما نبيل في هدفه والآخر وغد، إلا إن السبيل الذي يسلكه الإثنان يجعلهما متساويين في كفة ميزان شيللر، فحين يتجه التمرد صوب تخومه المهلكة، تغادر صفة النبل حاملها لتحل بدلها صفة الوغد. وهكذا فنحن الآن أمام وغدين. ومع ذلك ثمة خيط رقيق يفصل ما بين هذين الوغدين، فكارل لا يعي إثمه إلا بعد فشل مشروعه الأخلاقي، وما استسلامه للسلطات إلا هو نوع من التكفير. في حين، يدرك فرانتس، ومنذ البدء، حجم خطاياه، فهو لم يكن وغداً فحسب، إنما كان يُعقلن ويفلسف فكرة أن يكون المرء وغداً. ففي الوقت الذي يشعر كارل بالأسى لمنظر القتلى من الأطفال والنساء والشيوخ، ينظر فرانتس إليهم كما لو أنهم ذباباً يتسلى بقتلهم الصبية العابثين. وهو حتى في لحظة موته حين تتوفر له فرصة التكفير عن خطاياه أمام القس يرفض ذلك بعنف محبذاً الانتحار حلاً لمعضلته الأخلاقية.فرانتس: (لوحده) الضمير!. هذه الفزاعة البارعة لطرد العصافير عن أشجار الكرز أو حوالة حسنة الكتابة يمكن للمفلس أن يتخلص عبرها من المأزق عند الحاجة. حين اندلعت الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩، أي بعد سبع سنوات من كتابة المسرحية، أثبت ثوارها عبر عهدهم الإرهابي الذي فاق السلطة المطلقة لآل بوربون، الفجوة الواسعة والهوَّة العميقة التي تفصل ما بين المثال والواقع، تلك التي رسمها شيللر من خلال شخصياته المتطرفة والمضللة، وأثبتت المسرحية إمكانية الكاتب أو الفنان في استشراف الأحداث قبل وقوعها!.إذا كان ثمة عنصر يُميز عمل فرقة مسرح فاكشن، غير اهتمامها وإنعاشها للنصوص الكلاسيكية من منظور جديد، فهو أسلوبها البصري والحيوي في استخدامها التعبيري لجسد الممثل. وهذا الأسلوب بالطبع لم يُفرض أو يُقحم على حساب النص مطلقاً. يقول المخرج ليباتشر:«أسلوبنا جسدي وعضلي متأنق، لكنه يتناغم دائماً من النص. إنه ليس نموذج للمسرح الجسدي المستوحى من النص، إنما هو نتاج نص وجمالية شاءت الصدفة أن يكون جسدياً».حاول ليباتشر ومعه دانيال ميللر أن يخففا في ترجمتهما من وطأة نص مضى على كتابته أكثر من قرنين بأن لجئا إلى تخفيف الحوارات الفلسفية واقصاء الكثير من المشاهد فضلاً عن ابتكارهما لقاءً افتراضياً بين الشقيقين كارل وفرانتس، لا وجود له في النص الشيللري مطلقاً، وذلك من خلال استخدام مناجاتهما الداخلية التي تدور في أمكنة وأزمنة مختلفة في النص وتحويلهما إلى حوارات ثنائية حية عن طريق توظيف عنصر الصوت باستخدام أسلوب (voice over). كذلك اللهجة، فهي الأخرى أسهمت في تقريب نكهة الأحداث من وقتنا الراهن، فاللصوص كانوا يتحدثون بلهجة كوكنية ساخرة بذيئة وعنيفة في ذات الوقت (الكوكنية هي اللهجة الإنكليزية المنطوقة تقليدياً من قبل الطبقة العاملة اللندنية). أما المعاطف الجلدية السوداء التي كانوا يرتدونها والأسلحة الحديثة فقد أوحت لنا فوراً بمظهر أعضاء المنظمات الإرهابية المعاصرة الذين يُطّلوا علينا كل يوم من خلال شاشات التلفزة.استثمر المخرج تلك التماهيات الشكسبيرية التي أشرنا إليها سابقاً ليسبغها علي شخصيات العرض. فشخصية فرانتس التي لعبها الممثل أندرو شوفالييه كان سلوكه مزيجاً مركباً من وحشية ريتشارد الثالث وخيانة أدموند (الملك لير) وخبث ياغو في (عطيل). كارل، الذي لعبه الممثل توم رادفورد، أوحى لنا سلوكه الرومانسي وتأملاته الفلسفية بشخصية هاملت ملك الدنمارك. أما آماليا، الممثلة كارول ستارك، فقد ظهرت بسمات دزدمونة وشيء من إخلاص كورديليا إبنة الملك لير، على الرغم من أن المخرج غرس في أعماق ممثلته روحاً فولاذية قياساً بآماليا الرومانسية التي رسمها شيللر.وأخيراً شخصية البارون مور «الأب» التي جسدها الممثل الكسندر غايني، فقد بدت لنا مزيجاً مركباً من شخصية غلوستر وشخصية الملك لير، بسذاجتهما وغفلتهما وعقوق أبنائهما.
--------------------------------
المصدر : لندن - علي كامل - المدى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق