تصنيفات مسرحية

الثلاثاء، 12 أبريل 2016

مفهوم المسرح الحركي " Physical Theatre "، اسلوب التعبير في الرقص الدرامي المعاصر "الرقص الحر "/ د.احمد محمد عبد الامير

مجلة الفنون المسرحية

     تعد التطورات الحاصلة في مجال التجسيد الحركي لفكرة العرض المسرحي الراقص كنشاط معاصر ( ما بعد حداثوي  ) ثورة في حد ذاتها على مجمل الانجازات الحداثوية في مجال التعبير الصامت ، كما ويعد المسرح الحركي أو الجسدي ( Physical Theatre ) من أواخر الانجازات الأدائية المعاصرة ، ليعيش هذا المصطلح الآن في أجواء ومناهج التعبير الجسدي الراقص في أوربا ( الرقص الحر ) رغم انه لازال حديث العهد في الدراسات المحلية ، وذلك لاعتماده على كسر المألوف من قوالب الأداء واختراق القوانين الفنية المتداولة في الإطار المسرحي ، بغية التجديد والإصلاح في الاصطلاح والتطبيق مستخدما كل الوسائل التعبيرية المتاحة و بشكل حر ، للتعبير عن أعمق بواطن الهموم والعقد الإنسانية بأساليب أدائية حرة متعددة التجنيس تركن إلى الذات الواعية والوجدان الخالص ، إلى جانب خصائص التعبير الطبيعي للجسد الصامت وفيزيائيته . مما ترتب عنه الوقوع في أحضان أساليب ما بعد الحداثة التي تبحث في التمرد على الحداثة ، والتنقيب المتواصل عن وسائل التعبير وإعادة قراءة المنجز التاريخي ، واستثمار طريقه التداعي الحر للجسد ( الارتجال الحركي ، والارتجال الراقص ) ، ومنطق التكرار والإيقاع المنوع والصدفة وغياب المركزية في العمل الفني والحركة البحتة ذات التجريد العالي ... الخ . وذلك بعد أن استشعر الفنان عجز أساليب الحداثة عن إتيان حلول موضوعية له وعدم قدرته على التواصل مع هموم الناس وقضاياه بشكل واضح ومباشر ، والتي جعلت من الفن نشاطا نخبويا ذاتيا خاصا بطبقة ما ونوعا من الرفاهية الفنية ، كتجارب الفن للفن وأعمال النخبة ( اتيان ديكرو ، وكروتوفسكي ، وباربا ...) ، ومن ثم عصيان فني مستمر لما أنجزته الحداثة من استقبال ومزج بين آليات وأساليب كلاسيكية وجديدة على حد سواء ، على اعتبارها طريقة مبتكرة جامعة لكل وسائل النجاح ومنها اتخاذه الطريقة الروحية المباشرة والطقسية الشاعرية ، التي افتقر لها المسرح الحديث . 

     فتميز الاتجاه المعاصر في ( المسرح الحركي ) بالخلط المنهجي المقصود بين كل الأجناس من: غناء ، ورقص ( حديث ، وشعبي سلالي ، وشعبي حديث : ٍstreet Danceٍ ، Hip Hop ) ، وتمثيل صامت بأنماطه المتعددة ( مايم موضوعي ، مايم جسدي ، بانتومايم ) ، وحوارات لفظية ، ومايم صوتي ، وأفلام سينمائية ، وتمثيل ( تقديمي ، وتمثيلي ) ، وغناء ، وعزف حي لفرق موسيقية ، وبهلوانيات ... الخ ، في سعي حثيث لتجديد وتغيير آليات الطرح وخلق تقارب توافقي مع الأجناس المتباينة ، إلا أن المركز الأساس فيه هو للجسد الحر الباحث عن وسائل متعددة ليكون وسيطا في التعبير عن ما يجول في ذهن الفنان من قضايا مهمة تستدعي كل الوسائل المتاحة لديه في عصر انتشرت فيه الوسائل والتقنيات الحديثة وازدادت فيه خبرة المتلقي الذهنية والبصرية والتعبيرية .    

     من الضروري الإشارة إلى الدور الريادي الذي خلفه النشاط الأدائي الحركي الصامت الذي يركن إلى الإمكانيات الفيزيائية الممنوحة للجسد الحر في التعبير عن موضوعاته داخل الأنماط المسرحية المختلفة الحديثة والمعاصرة على حد سواء ، والتي تعتمد الحركة الجسدية ودلالتها المعرفية والجمالية محورا هاما في التواصل الفني والمعرفي على خشبة المسرح ، إذ منحته البحوث الحديثة المهتمة بدراسة الأداء التعبيري الحر كالدراسة الشهيرة لـ ( تشارلس داروين ) حول ( التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان ) ، إذ تناول فيها آلية الأداء الحركي للإيماءة وطرق قراءتها وفق السياق الحياتي العام لكل كائن ، كما بحث في مشابهات أو مجاورات التعبير الإيمائي للإنسان عند الحيوان على اعتبار أسبقية الأصل له ، كما أخضع تلك الحركة إلى النظام الوراثي المكتسب في اللاشعور الجمعي ، وبالتالي تصبح الحركة جزءا من السلوك الغريزي الخاضع لشروطه الجغرافية والإقليمية والعرقية والقارية المتباينة ، ومن ثم أهمية هذه الدراسة في طريقة إنشاء الإيماءة ودلالتها من الناحية الشعورية واللاشعورية الجمعية والفردية على حد سواء . بينما أخضعت دراسة ( سيجموند فرويد ) الحركة الفنية إلى النشاط النفسي ، إذ يرى إن في الحركة الفنية سلوكا ظاهراتيا ينبثق من النشاط الداخلي للإنسان كما تخضع عملية القراءة والإنشاء أو التصميم الحركي فيه إلى الخبرة الذاتية ، لذا أصبحت الحركة الفنية نشاطا وتشكيلا نفسيا أدائيا يشتق من صميم الخبرة الذاتية لمبدعها ، كما يرجع الحد الفاصل بين الأداء الحركي التقليدي والأداء الإيمائي الحديث إلى الدراسة الفرنسية التي كتبها ( فرانسوا ديلسارت 1811 - 1871 ) ، إذ عدت دراسته أكثر علمية وتكنيكاً ، لاعتماده تقسيم جسم الإنسان إلى ثلاثة أقسام ، كما صُنّفت حركة الجسم لديه كلا حسب موقعها من التقسيم . ومن هذا التنظيم انبثقت مدرسة جديدة في التعبير الحركي ، كان لها أثر في تطوير فنون الحركة والإيماءة والرقص الدرامي الأمريكي الحديث ، وهي طروحات ورؤى ( لابان ) الفنية ، والتي اعتمد فيها على ما أسفر عنه التقسيم السابق الذي كان له الأثر التقني والجمالي للأداء الحركي الراقص في مؤسسته ( مركز لابان للرقص الدرامي ) .

      في مرحلة اتسمت بنشوء ثورة صناعية واقتصادية ، وموجة من الاكتشافات ، ونمو التفكير العلمي ، وظهور نظريات علم النفس الحديث ، وتطور الطباعة ، وإنشاء المعاهد والمدارس المتخصصة ، في القرنين الأخيرين ، بدأت الرغبة في إدخال الروح العلمية والبحث العلمي في دراسة وتطوير الفن المسرحي ، والنظر إلى الممثل من خلال البحث العلمي الحديث ، ومنها الانطلاق لدراسة الحركة الميكانيكية التعبيرية لدى الإنسان ، كما برز الاهتمام بالرياضة البدنية وهوس الأداء الأكروباتي كما عند المخرج الروسي ( سيرج ايزنشتين ) . كما ظهر الاصطلاح الحديث ( الكريولوجيا ) كعلم عني بدراسة الحركة ( الإيماءة ) وفيزيائيتها ، وآلية إنشائها وقراءتها ( علم الحركة / الإيماءة ) ، كما ظهر مصطلح التصميم الحركي ( الكوريوكراف choreography ) الذي يبحث في المعنى التصميمي الحركي المرتبط بالجوانب النفسية والوجدانية للشخصية ، كما شاع استخدام مصطلح : البايوميكانيك ، والماريونيت ، والجست ... المرتبطة بطريقة الأداء الجسدي الممنهج . كل ذلك  فتح المجال واسعا لتطور فن التعبير الحركي المرتكز أساسا على قدرة الجسد في خلق المعنى من غير معين شكلي أو لفظي ليكون الجسد العلامة الفريدة والوحيدة في العرض الصامت ، والذي تطور بدوره عن فنون الباليه الكلاسيكي والحديث ، وأنماط التمثيل الصامت ، والرقص الحديث بأنواعه ، ليعيش في مجال الرقص الدرامي الحر المتمرد في عروض وفرق خاصة تتبنى المجاز الحركي والفكري ذا التجريد العالي والأداء البحت ( التشكيل المجرد – الميتاحركة ) والذي يتطلب قراءة خاصة ودراية متقدمة في فهم دلالتها ومعناها ألتشكلي الخاص ، إذ يشكل في أوربا وأمريكا اسلوبا خاصا وفريدا من فنون المسرح يجمع مابين : ( فنون الأداء الإيمائي الصامت ، وفنون الرقص ) ، وما بين الأنماط الفنية الأخرى ، لذا يعد نوعا من أنواع فنون ما بعد الحداثة المتمردة على أنماط الحداثة ، والذي يترتب عنه خصائص عدة ، ففي الناحية المفاهيمية : تبنى قاعدة القطع وعدم الترتيب والتشتيت عن كل أصل أو مرجع فني أو فكري سابق ومن ثم عدم امتلاك العمل لأي هوية فنية واضحة ، وذلك لأجل الإشارة إلى تبني منهج التمرد ، مما ترتب عن ذلك من الناحية الفنية عدم تحقق المعنى نهائيا كهدف معرفي ، وذلك عبر استخدام أسلوب أدائي غير مستقر تتقطع أوصاله بشكل متواصل ممانع لأعراف إنشاء العلامة الدالة بل التشويه الدائم لمعنى الحركة وإيقاعها وتناغمها عبر الخلط غير المنهجي لجنس الحركة سعيا وراء أسلوب جديد في التعبير الحر مما يتيح المجال واسعا لغور أماكن لم يسبق الدخول إليها ، كذلك عبر الاستخدام لتقنية ( الميناميلية )التي تعتمد الحد الأدنى من الفن ووضوح دلالة الحركة من الناحية الشكلية والمعنوية – أي الاعتماد على الإيحاء بالمعنى عبر التجريد الحاد والقاسي للتعبير الجسدي للوصول إلى دلالة الدلالة ( الميتا دلالة ) ، وبذلك تتحقق الفرادة والخصوصية لهذا الأسلوب الجديد ، كما في العروض ألما بعد حداثوية للأمريكي ( روبرت ويلسون ) والسويدية ( مارغريتا اوسباري ) وفرقة ( جادسون للمسرح الراقص) ، وفرقة ( كامب الصامتة ) الدنمركية التي اعتمدت الأسلوب الطبيعي . أما من الناحية التقنية للكوريوكراف فقد اعتمد على الارتجال والصدفة في التصميم عبر الاعتماد على التجاوب بين التكوين الموسيقي والتشكيل الحركي الراقص للعرض .

     بوادر التمرد علي الشكل المألوف في التعبير الحركي يمكن حصره بالثورة الفردية التي قامت بها راقصي الباليه ( ايزادورا دنكان  1927- 1878 ) و ( روث دنيس ، تيد شون ، مارتا كريهام ، دوريس همفري ، ويدمان ، لابان ... ) كما إن إصرار الباليه على الاستمرار بتقديم نشاطه الفني رغم انحصاره المعرفي ضمن الخطاب البرجوازي المتعالي عن التطور الفني والفكري بعيدا عن نظر الأغلبية وانحصاره تحت الاشتراطات الأكاديمية الصارمة ، التي قيدته كفن يستعصي عن التغيير والتجديد وضد قوانين الطبيعة ،هو ما دفع مصممي الرقص ، أمثال ( دنكان ) ، أن يحملوا حقائبهم باحثين عن آلية جديدة للتعبير الحر بعيدا عن الاشتراطات المعهودة في التقديم والتصوير الحركي ، فـ ( دنكان ) ترى في الرقص فنا حرا ، والباليه فنا غير حر ، وهو ما نتج عنه مصطلح الرقص الدرامي الحديث   (Drama Dance) . لتستمر عملية التغيير الذي وجد له بابا في العروض التمثيلية الإيمائية الصامتة ، من أمثال المايم الجسدي ، كما في عروض الفنان العراقي ( انس عبد الصمد ) ، وعروض ( ورشة دمى للتمثيل الصامت ) لمؤسسها كاتب المقال ، في أكاديمية الفنون الجميلة جامعة بابل ، وغيرها  .

      تتميز عروض هذا الأسلوب المعاصر ، باشتغالها على مفهوم الإيحاء بالمعنى دون التصريح المباشر به ، أي الابتعاد عن التصوير الايقوني للمعنى ، كما إن تحميل الحركة درجة من التجريد الشكلي في أدائها المسرح ، أضفى عليها حرية واسعة من التعبير والقراءة في آن واحد . مما ترتب عن ذلك ، شكلا فنيا غرائبيا مثيرا للقراءة الحدسية والوجدانية والذهنية الحرة ، يستفز خيالات المتلقي وخبرته الفنية والبصرية والمعرفية معا ، إذ تعطي تلك التجريدات الإيمائية بعدا جماليا للعرض ، ينقل فيه الواقع بصورة لا واقعية ويكشف عن أبعاده المضطربة ، ويحوّل الانفعال إلى صورة جمالية تدرك حدسياً ، وتعبر بشكل ما عن قهر الإرادة على المستوى المعرفي / الفكري ، والجمالي / التقني على حد سواء ، وإحدى سبل التعبير عن الحرية ، كما يعد طريقة دؤبة في البحث عن آليات التعبير الشعري للجسدي عبر تحليل ردوده الفيزيائية ضمن مجاله الجمالي _ مع ضرورة الإشارة إلى إن الدراسات الحديثة تشير إلى ارتباط الفعل الجمالي للجسد وإيماءاته بالنشاط الهرموني للإنسان كما في هرمون ( الأدرينالين ) المتحكم والمنشط للفعل الإيمائي ... _ كما أنها ترد للمسرح حضوره واعتباره أمام القفزة التقنية التي امتلكها وتطور بها باقي الفنون الأخرى على حساب عروض الخشبة التي بقيت محاطة بذاتية ووجدانية الفنان ، ولذا نجد احتواء بعض المشاهد على شكل أدائي خالص يبغي المتعة البصرية التي تخلوا من المعنى ، إلى جانب التوافق والانسجام الحركي والإيقاعي ، والتكرارات المرنة والجامدة معا والقطوعات الإيقاعية والبصرية المقصودة ، إذ تظهر في علائقية تشكليه تتابعيه وتراكبية حينا واستبدالية حينا أخر ، وأحيانا ما توظف توظيفا نفعيا ( توظيف الشكل والمضمون ) للتأكيد والتوضيح معا ، وتارة أخرى للترميز والإحالة إلى موضوعات ما معينة ، كما تأتي تلك الأشكال الحركية محرفة أو متغيرة دلاليا ، لتسمح بتحريف مكان أو زمان العرض نسبيا ونقله إلى عوالم خيالية مفترضة ، الحلم مثلا . لذا عادة ما يوحد الشكل الحركي في العرض مع فكرة ما خيالية أو وجودية : كالزمن ، الإيقاع ، الحب ، الوجدان ، الصراع . فالإيقاع تارة متزايد أو متناقص أو حر أو رتيب . أما ما يميز العمل ككل فهو تسيد وهيمنة الشكل وإيقاعه على الموضوع هيمنة كاملة ، إذ تأتي الاهتمام بالجسد وقدرته الفيزيائية محورا هاما في البحث المتواصل ، وأحيانا ما تكون تلك الموضوعات والأفكار عناصر ثانوية غير مهمة ، وذلك لغياب الرؤية الواضحة لدى الفنان تجاه قضايا عصره الكبيرة وعدم اكتراثه بها ، هذا من جانب ، ومن جانب أخر عدم اكتراث فنون الحركة الإيمائية الصامتة بالموضوع ، لألا تتسيد وتتفرد على التصوير البصري ، كما إنها نزوع هروبي من قول أو الإخبار عن أي شيء بشكل مباشر . مما يجعل من تلك الأعمال الغرائبية الفريدة نمطا مثيرا للجدل حول أهميته وضرورته الفنية والأكاديمية للممثل  / الراقص /  المؤدي والتي لا تشاهد إلى في الورش والفرق والمهرجانات الدولية ، ومصداق انتشاره وقبوله من قبل المتلقي في المنطقة العربية في هذه الآونة ، على مستوى المهرجانات المسرحية ، هو حصول فرقة ( كامب الصامتة ) الدنمركية ( Mute Comp ) في عرض   ( الأرضية بخلف رأسي  the floor with the back of my head ) على جائزة أفضل عرض مسرحي متكامل في مهرجان القاهرة التجريبي 2008 ، إذ استخدم في هذا العرض آلات النقر الموسيقية التي دخلت بشكل مستمر كشريك مع الموسيقيين والراقصين ، والمغنية التي غنت مقاطع رافقت الأداء مشابه لدور الراوي ، وكان لآلات النقر بطاقمها الموسيقي ( الكورس ) وجود شكلي جمالي دال مشارك في بناء العمل ، أعطا حيوية وانسجام فريد بين العناصر المتباينة البنائية للعمل ، كما ساهم في الإيحاء بالقدرة الارتجالية والمهارة العالية لكادر العرض من راقصين وعازفين ومغنية . واتسم الأداء بالجمع مابين فنون الأداء الحركي الصامت وفنون الرقص ومنها الشعبي الحديث (: ٍstreet Danceٍ ، Hip Hop ) وفنون البهلوان ( acrobatics ) ، إذ أذاب العرض حدود التجنيس الفنية بصورة غرائبية نقلت لنا الواقع بشكل لا واقعي ( غرائبي ) ، في محاولة للتجريب في الصور الذهنية والمجازية في ما لم يمكن الوصول إليه عبر فيزيائية الجسد الراقص ، ولتقريب التجربة من الشكل القديم للمسرح الكلاسيكي الجامع لكل الأنشطة الفنية المتعددة .

------------------------------------------
المصدر :      جامعة بابل – كلية الفنون الجميلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق