تصنيفات مسرحية

الأربعاء، 18 مايو 2016

مسرحية المفتش العام.. تخضع للمناقشة من جديد في ظل الظرف الراهن

مجلة الفنون المسرحية

ضمن  نشاطات المدى الثقافية , إقامة حلقات أسبوعية في  نيسان, يتم تناول  كتاب  أو مشاهدة فيلم , إلا أن الحلقة الثقافية  ارتأت  الأسبوع المنصرم مسرحية  نيقولاي غوغول , التي  نوقشت مع مجموعة من  الشباب المتحمس للثقافة , بعد  أستشراء خدر القراءة , وطيا الورقة النقدية المقدمة.

لقد مضى على مسرحية المفتش العام  قرابة القرنين,إذ  نشرت عام 1836 غير أن    النص  الدرامي لم  يزل غنيا  بما  يحمل من مضامين,على الرغم من  البيئة الروسية المحضة  التي  غلفت  جو  الأبطال والأبطال الثانويين , فالنكهة  روسية والشخصيات  تحمل  عبق  البيئة, ولا  نبالغ  ان  قلنا  أن  النص  يقدح  بعبق خاص  بالشخصية  الروسية  لصيق  بالبنية الخاصة, فالجو العام للشخصيات والأفكار التي  يحملونها  والأمنيات والإرهاصات  هي  وليدة   لحظة تاريخية , قد تعدتها  الحياة  بعقدين.
المتن الحكائي:
 كتب النص بخمسة فصول, و 52 مشهدا وبعدد  صفحات من القطع المتوسط البالغة 131  وبشخصيات متنوعة  بلغت 26 شخصية.
يتلخص  المتن بتسرب معلومات إلى مدير الناحية عن  نية الإدارة بإرسال مفتش عام للناحية ليتم  تقصي  الأوضاع, وبما  انه
 استغل منصبه الوظيفي استغلالا بشعا ,فاجتمع  برؤساء  الهيئات الأساسية لديه:من  تعليمية ,قضائية ,مؤسسات خيرية  , مأمور البريد, وغيرهم للتباحث  بالخطر القادم إليهم ومحاولة ردم الفجوات  التي غاصت بها  الناحية, إلا أن  خبرا آخر يأتي  بأن  المفتش موجود  في  فندق  ليوهم  الأهالي  بمقدمه , فيتهافت عليه القوم ,وابدوا رغبتهم بمساعدته,وليظهروا له حسن النية للغرباءواستضافتهم  للقادمين والترحيب بهم. وأدرك الرجل  بأنهم  قد ظنوا به شخصا آخر, فاشتد عليهم وقسا وابتز مالهم على الرغم من كونه  ضيف مدير الناحية في بيته , بل  غازل  زوجته وابنته, وبعدها رحل, غير انه كتب رسالة الى صديق  يذكر تفاصيل  رحلته الغريبة وكيف  انه  استغفل  الجميع وأخذ مالهم. يكتشف الكل  بأنهم  خدعوا به  , وهنا يأتي أحدالجندرمة    ويعلن عن مقدم المفتش الساكن في الفندق ويطلب حضور مدير البلدية  بالحال.
المبنى المكاني:
إن  تلمس  البطل,مدير الناحية  انتوان انتونوفيتش سكفوزنيك ومن  بمعيته,إنما  يعبرون عن خاصية الشخصية, التي تكون  أسيرة فكرة مهيمنة على سلوكها العام, فإما  أن تكون قوية وترضخ الآخرين لإرادتها ونزواتها ورغباتها  الجامحة , وبالتالي  تسطو على مقدرات  الغير من  الشخصيات التي  تحاول  الدفاع  عن  نفسها  إلا أن شعورا  بالانكسار والضعف والخوف, يحجم  حركتها وحركة حلمها في الخلاص. وان  وجدت فرصة بالخلاص فإنها  تثور وتزأر وتطالب محتجة بقوة كبيرة , غير  أنها  سرعان ما تنكفئ على نفسها  بمجرد  تغير الظرف  المواتي, وهذا يعني  أنها  تعود  أدراجها  إلى  عالمها  الذي  اعتادت فيه  الذل والخوف والهوان , وهذا  الأمر  يزيد  من  تسيد  الشخصيات  التي تأخذ على عاتقها  السطوة والهيمنة على مقدرات الشخصيات الهشة والخائرة.
إن  الصراع في المفتش  العام  يجري  بخطين متوازيين هما:
الأول: خط الشخصيات التي  تعمل على تمويه الحقيقية للمفتش الوهم,ايفان الكسندروفيتش خليستاكوف- الموظف البسيط في بطرسبورج دون  أن  يدركوا  أن المفتش ذاته  يريد إيهامهم بالحقيقة هو الآخر.
الثاني: ويتمثل بالشخصيات التي  يقع عليها الضيم فتتعلق  بوجود المفتش  الوهم  ويتقدمون  بالعرائض المتضمنة شكواهم وقرفهم من  ابتزاز مدير الناحية وأعوانه, فقد سلبهم مالهم  وأرزاقهم ,وصار يبطش بكل من  لا يرضخ أو لا ينصاع  لإرادته.إن  حالتي  القوة والضعف التي تنتاب الشخصيات الدرامية ,وصراعهم  الدائر إنما يشير  إلى حالة أخرى تتمثل  بحاجة الكل إلى البطل المنقذ,بطل  يخرجهم  من  المأزق الذي يحيونه, ويأملون بالخروج منه, بأقل الخسائر الممكنة.
الجدير  بالتنويه,إن  الأبطال على ما هم عليه  يعانون من الخواء الداخلي , إنهم  شخصيات جوفاء,لا تعرف  شيئا غير ذاتها, وذاتها مهمشة من  الأعماق, أي أن حالة الانكسار قائمة وان لم  يعلن عنها , بل  هي  تمثل خطا قائما متجذرا في تكوينها  النفسي والاجتماعي , إن  لم  نقل  الإيديولوجي.
إن حركة الشخصيات ومحاولات  الالتفاف والسيطرة على المفتش  الوهم , إنما  هي  عملية تعرية الشخصيات وهي  تكشف عن  خوفها وقلقها وأزمتها الداخلية وسعيها المستمر إلىالإيهام , و منافذ لكسب المفتش ,الذي  حددوه  مفتشا , بكلمة أخرى , أرادوا له أن  يكون الذي  جاء  ليكشف ما خفي من أفعالهم , وما تمت سرقته وإخفاءه عن  أعين الإدارة.وبالتالي  بناء نسق  من  العلاقة  لحماية نفسها من الأخطاء التي وقعت بها الشخصيات , وعلى رأسها  مدير البلدية.
إن سلوك المفتش الوهم  خليستاكوف, لا يختلف عن سلوك موظفي الناحية , بل هو الابن البار لهذه البيئة الاجتماعية المبنية على الابتزاز والسرقة وكسر هيبة الشخصية المقابلة ,بمعنى أن قيمة الشخصية تتأسس  على مدى تحطيم الشخصية المقابلة وإفراغها من قيمتها الإنسانية , وهو ما فعله المفتش الوهم: فقد  ابتز كل الشخصيات التي تزلفت إليه , واقترض المال منها لسرقته, واستضافة مدير الناحية في  منزله, والأدهى انه  بدأ  يغازل  زوجة مدير الناحية وابنتها في  الوقت ذاته, وهذا الأمر إشارة  لدرجة التفسخ  العام , وما يثر الانتباه أن كليهما  الأم وابنتها  يتمتعان بتلك العلاقة السريعة مع المفتش  الوهم , بل  أن  الأم تمني نفسها بحياة رغدة وبمنصب كبير  يناله زوجها  المختلس بعد  أن طلب  المفتش  الزواج من  ابنتها  التي اكتشفت انه  يركع مغازلا أمها. 
إن خطة المفتش  هي  ضم  كل ما يقع  تحت  يده, فان  لاحت  بالأفق  الأم التي  وجدها فاتنة, دأب على مغازلتها , وما أن تكتشف الفتاة ما بينهما حتى يطلب يدها مدعيا  انه  ركع للأم من  أجل أن  ينال رضاها وقبولها زوجا لابنتها , إما  الأب – مدير الناحية, فانه ما  أن وجد المفتش  يقبل ابنته  حتى صار يتقافز مثل  طفل صغير,فقد  ضمن عدم العقاب من جهة ,والمنصب القادم من جهة أخرى.
مما  لاشك فيه, إن  عوالم الشخصيات, المفرغة من المعنى الحقيقي , إلا معنى امتصاص الآخرين , والاستحواذ على المكاسب,ونصب  الفخاخ وبالتالي التظاهر بما  لا يملك , والتفاخر أمام الملأ.
إن الخاصية الدرامية التي  تألق  من خلالها غوغول, تكمن  بكتابة النص  كوميديا , أي  تأكيد السخرية من  الشخصيات من خلال  المواقف  التي  يزجون بها زجا, أو ضمن الالتباس  الحاصل كما في  مسرحية المفتش,  إلا  أن  عبقرية المؤلف  لم  تذهب  إلى المصالحة كما  يذهب مولير وقبله ارستوفانيس وغيره من كتاب الكوميديا, بل  أن الضربة الأخيرة في  المشهد الأخير الذي  أعلن فيه عن مقدم  المفتش العام المكلف من القيصر, وكأننا  نعود ثانية الى خط البداية, وكل  الأحداث التي مرت, ذهبت مع الريح , فالحدث  سيعود  مرة ثانية بذات القوة والنشاط, فلن تكون هناك مصالحة, لان الحدث – الخوف المرعب – الذي شكلَ  بداية لانقلاب أوضاع الشخصيات , من هنا كان اختلاف  دراما  غوغول الكوميدية  عن  الكوميديات  الأخرى  لكتاب العالم ,لهذا  فان  العودة إليها كونها  تمتص  واقع  الحال المتغير وان كانت  بفارق  قرنين.

--------------------------------
المصدر : د. منصور نعمان - ملاحق المدى 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق