مجلة الفنون المسرحية
هل تشكل علاقـــة المخرج بالمؤلف ، وضعاً مقلقــــاً ؟
ربما للمرة الأولى أجدني مؤلفاً لمسرحية " علي الوردي وغريمـه " مقدماً من قبل مخرج سواي ، اذ أخرجت نصوصي التي أُلفها منذ أكثر من ثلاثة عقود . كان الأمر مشوقاً للجمهور ولي أنا شخصياً ، سبب ذلك هو الشغف برؤية د. قاسم مؤنس مخرجاً ، لنص وعرض مغايران .
المنتدى يشرع أجنحته للتحليق مجدداً ، برعاية المؤسسة الرسمية للسينما والمسرح ، وبإدارة الفنان المبدع ( المخرج ) إبراهيم حنون .
تحلقنا هناك ومعنا من الأساتذة المسرحيين الكبار أمثال الفنان الرائد يوسف العاني ، والدكتور عبد المرسل الزيدي ، والدكتورة عواطف نعيم ( المخرجة والمؤلفة ) ، والدكتور يوسف رشيد والدكتور حسين علي هارف والدكتور رياض موسى والدكتور هيثم عبد الرزاق ، والدكتورة إقبال نعيم والفنان عباس لطيف ....و.....
تكلم في البدء الدكتور شفيق المهدي – المدير العام وهو فنان ومخرج مرموق – أيضا – مرحباً بضيوفه في المنتدى ، الذي يفتتح للمرة الأولى . وازدادت حّدة توقنا لمشاهدة العرض ، لاسيما إن الممثل خالد احمد مصطفى ، الذي رافقني منذ عروضي الإخراجية الأولى ، واعتبرهُ الذاكرة العملية والتفصيلية لتجاربي مع العرض المسرحي في العراق.
حتى بتّ مرتبطاً معه ، كارتباط مخرجينا بيوسف العاني ، ممثلاً ، في فرقة المسرح الفني الحديث ، أو كارتباط المؤلف المصيري الفريد فرج بالممثل عبد المنعم إبراهيم ، وهكذا قل عن أشباه هذه العلاقة الرابطة بين المؤلف والمخرج بممثل مبدع ما.
لاشك ان تجربتي مع رموز الثقافــة والإبداع مّرت بانعطافات ومتغيرات ، وصولاً الى " علي الوردي وغريمه " ، وأجدني قدمت ما استطعت تقديمه للمسرح العراقي على وفق قناعة إبداعية ، ومسؤولية وطنية تأنف من الصغائر ، أو الإحساس بالضعة عند أولئك الخائبين الذين يجيدون فن الطعن ، والضغينة ، ويحاولون تنمية مشاعرهم العدوانية ، ضد المبدعين الحقيقيين.
ولست أغالي إن قلت إن بعض الفنانيين أنفسهم يعتز بقناعته الشخصية ، ولايتطور مع ذوق العصر ، ولا يتابع الاكتشافات النظرية والتطبيقية في حقل الدراما والمسرح والنقد ، فنراه يتذبذب بين فهمه القاصر للتجريد الذي لايمكن للعقل الإبداعي التخلي عنه ، وبين الطابع الفردي والملموس للظاهرة الفنية نفسها، فيدعو الى نوع من " الشعبوية " العامية ، التي لايفتخر بها أي كائن ذو عقل وضمير .
ولكم عانى " علي الوردي " من أمثال هؤلاء ، مما دفعه فعلاً وقولاً الى التصدي لرموز القهر السلطوي ، والى فضح العادات الاجتماعية المتخلفة ، التي تقترح على الإنسان التخفي تحت وطأتها ، بمكابدة وصراع ، لأنه خلق لزمان ومكان آخرين .
حاول المخرج د. قاسم مؤنس ، أن يوسّع من إطار شخصية ( الغريـم ) ، فشطره الى كينونات متكاثرة ، ولكنها مرتبطة بوحدة هذا " الشـــر " الذي يمشي على قدمين .
وحين يحيلنــا " الحـــوار " الدرامي ، لاحوار المنطق الصوري الذي تعالجه الفلسفة – مثلاً – أو الأفكار الاجتماعية التي تصدر عن كبار علماء الاجتماع ، بل من طريق الدراما ، المرتبطة بمناخ خاص ، وحبكة معينة ، وصراعات مصنوعة ، وأفكار متشظية ، يستقطرها وعي المتلقي الخاص ، وهو يتفاعل بايجابية مع العرض ، وسحره الجمالي ، وبإيقاع يتفاوت في تساميه ، أو هبوطه، تبعاً لزمنية المشاهدة ، وما تضخه من علامات مكانية ، هي الرحم الحقيقي للذة المسرحية ، أو بإمكاننا القول إنها " وطـن " المشاهدة ، و" بيتها " المرســوم .كائنان بملابس متشابهة ، لان القتلة يفقدون سحناتهم البشرية في مشهد الغدر والجريمة . يظهر أحدهم بجدلية ، وآخر حليق ، وامرأة تستدعي في لحظة جذل الوردي ، وسعادتـه .
اعتمد المخرج خطة إخراجية مشرقة مترعة بالفرح ، والرقص ، والضوء الملون ، ودسّ في تضاعيف المعرض ، أغان " تشكل الوجدان الشعبي العام ، لمطربات ومطربين عراقيين ، رافقتنا أغانيهم ونحن نكبر ونشب عن طوق صبانا ، وشبابنا ، ونصل الى دروب شيخوختنــا ، وكهولتنــا ،،.
كان التلقي للفنـــان يوسف العانــي ، عاطفيـاً ، وفكريــاً ، معاً ، وهو يربط ملامح ( علي الوردي ) وشواظ نيران أفكاره بالوقائع الاجتماعية التي تمرس بمعالجتها ، وكشف أسرارها وألغازها ، وتمنى إلا يسرع هذا الممثل بحواره وإلا يصرخ ذاك الممثل في موضعه او موقفه ذاك ، فتفوت فرصة سماع حواره ، ولكنه ، أي الأستاذ العاني ، أسّرني ، بأنه يفتخر بهؤلاء المسرحيين الشباب ، ومخرجهم الدكتور قاسم مؤنس ، لما يمثلونه من جدية وحرص في الحفاظ على أرقى تقاليد مسرحنا العراقي الجاد.
تحول " علي الوردي " الذي يمثله " خالد احمد مصطفى " الى كائن جديد ، اذ سبق للممثل نفسه ، أن أدى دور الغريم في عرض د. عقيل مهدي يوسف .
والآن في أدائه لدور ( علي الوردي ) كان منسجماً مع " السيرة الافتراضية " التي حاولت التأكيد عليها في أعمالي المختلفـــة.
وهو درس سبق لكبار الكتاب المسرحيين العالميين / أن بذروا بذوره في تاريخ المسرح القديم والحديث .
من منـــا يستطيع الحديث عن( يوليوس قيصر ) التاريخ – لدى إبداع الكاتب العبقري ( شكسبير ) ؟ ألا يجد هناك قيما شكسبيرية تميزه من السيرة التأريخية أو هل بمقدور أحدنا ، أن يجد " كليوباترا " أو " نابليون " التاريخيين ، لدى " برانردشو " أو " تولستوي " ، من غير أن يقول إنهما من مخيلة هذا المبدع أو ذاك ؟
من المنطقي أن أحاول بوصفي كاتباً للنص ، أن أحذو حذو المبدعين الكبار هؤلاء ، لأقدم ( علي الوردي ) كما أراه ، على وفق منهجية ( بول فاليري ) في نصّه المسرحي ( فاوست كما أراه ). أعتز بحفاظ المخرج قاسم مؤنس على حوارات النص ، من غير تغيير أو حذف ، ومن دواعي غبطتي أن أشاهد روح علي الوردي وفكره ، الذي يتدفق مثل تيار كهربائي غير مرئي ، في طبقات العرض ، الذي تحاور بدراية ، ووضوح ، مع إشارات النص ، وبوحه تحت السطور .
كان الوردي معجباً بأغاني " عزيز علي " ومنولوجاته الساخرة من العادات الاجتماعية المتخلفة ، وكان محباً " لعفيفة اسكندر " فخوراً بهما ، جعلته يقول : " كان رجلاً ، وكانت امرأة " بخلاف ( الجلاوزة ) و( الحثالة ) الذين يعيثون خرابا ، ويزهقون الأرواح ، لأنهم ينحدرون من منبت إجتماعي خبيث ، كان يفضحهم بضراوة ، ولم يداري الذوق البرجوازي الذي يزيّن الحياة ، للتفاهين والمستغلين وسارقي قوت الناس .
أُثبت- هنا- اعتزازي بإخراج زميلي د. قاسم مؤنس للنص ، بروح الشباب وما أجمل حركة يد الممثل وهي تقذف بسيل عرمرم من أغاني (C . D) وكأنها رشقات روح مرئية ، لتربط أمسنــا بغدنـــا السعيــــــــد.........
الممثلون والفنيون جميعاً ، تآزروا مع المخرج ، ليقدموا عملاً إبداعياً سينضّم الى مجموعة عروض المبدعين العراقيين في ملف الدراسات الجادة ، والبحوث الرصينة ، التي تعتمـد أمثــــال هذه العروض المتألقــة ، لكي يرث الأبنـــاء ( الحب ) لا ( البغض ) و( الإنجــاز ) لا ( الكلام الفــارغ ) .
وأشكــر بهذا الخصوص ، كل الأقلام الشريفــة والنزيهـة في النقـد المسرحي العراقي الراهن ، وأعتـّز برؤاهم النقدية المبنية على وعي معاصر ودرايـة حرفيــــة ، وتعاطف إنسانــي مع المبدعيــن.
وكذلك حُبيّ للجمهور العراقي النبيل ، الذي يبارك المنجز الفني والجمالي في المسرح العراقي، بعفويــــة مقترنة بالوعي ، والذوق الرفيــع.
--------------------------------
المصدر : كلية الفنون الجميلة بغداد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق