مجلة الفنون المسرحية
----------------------------------------
المصدر : مجلة مسرحنا العدد 381
في الوقت الذي تطورت فيه الدراسات الشكلية ، المؤسسة علي تنظير أرسطو للدراما المسرحية وعناصرها الكمية والكيفية ، والمتبلورة في اتجاه الشكلية الروسية وتوجه النقد الجديد الأنجلوأمريكي ، مارة بعلم العلامات (السيميولوجية) ، وواصلة للمدرسة البنيوية المنغمسة في البحث عن أنماط البنية الداخلية للنص الأدبي ، الرواية خاصة ، دونما تحقيق بارز في حقل الدراما المسرحية ، راحت الدراسات السوسيولوجية تطور نفسها بدورها مبتعدة عن التحليل الاجتماعي الخارجي للعمل الإبداعي المهتم بالكشف عن المضامين الاجتماعية وصلتها بمجتمعاتها في لحظة معينة ، وسبل توجهه لجمهوره وقدرته علي التأثير فيه لإيقاظ أو تغييب وعيه بالواقع الذي يعيشه ، ومقتربة من منجزات الدراسات السيميولوجية تجادلها وتستفيد منها ، محققة ما نسميه بالدراسات السوسيوسيميولوجية أو علم اجتماع العلامات .
اهتمت هذه الدراسات الجديدة بالبحث في العلاقة الجدلية بين المبدع والإبداع والمجتمع ، فالمبدع ليس فردا ينتمي اجتماعيا فقط لطبقة محددة يعبر بعمله عن رؤيتها ، كما أشار "لوسيان جولدمان" في بنيويته التوليدية ، الموفقة بين البنيوية الشكلية ، التي أشرنا إليها سابقا ، والفكر الماركسي المرتكز علي التفكير المادي للفكر والفن ، إلي أن المبدع يعبر عن رؤية طبقته للعالم عبر بنية عمله الإبداعي ، متغافلا عن دور الانتماء الفكري للمبدع للطبقة أو الشريحة الاجتماعية التي اختار فكريا ان ينتمي لها، ومن ثم التعبير عنها وصياغة رؤيتها للعالم في بنية عمله الإبداعي ، فالريفي الذي يترك قريته وطبقته الفقيرة وينتقل بالعلم والوظيفة للعاصمة مرتقيا في سلمها الاجتماعي ، تتحول عنده القرية الريفية وكذلك طبقته الفقيرة من واقع مجتمعي يتغير بعيدا عنه يوميا ، إلي أيقونة ثابتة الملامح ، راسخة العادات والتقاليد ، متحجرة البنية الاجتماعية ، متكررة الحضور كقرية وكطبقة في أعماله المتغيرة زمنيا ، مما قد لا يحقق انسجاما بين الطبقة التي (كان) ينتمي إليها المبدع ، ومازال (يتصور) أنه ينتمي إليها ، وبنية مسرحيته التي كتبها في سياق مجتمعي مختلف وداخل طبقة مغايرة انتمي بفكره لها ، مما يشوش هذه البنية الجمالية ، ويمزق عناصرها الداخلية بين رؤية طبقة ولد وعاش الكاتب أو المخرج فيها ردحا من الزمن ، وطبقة يعيش فيها ويتوجه إليها هذا المبدع في لحظة مغايرة.
التغيير في البنية تغيير في الرؤية
إن دراسة علامات العمل المسرحي ، كتابة ونصا ، تتطلب وعيا اجتماعيا بمدلولات هذه العلامات الداخلية وتفاعل أنساقها ، وحضور مرجعيتها في ثقافة الجمهور المتلقي ، فعندما يلتقط مخرج نصا أجنبيا كتب في سياق مجتمعي / زمني مختلف عن سياق المجتمع المصري او العربي ، وعبر به كاتبه عن طبقته ولغته وديانته وهويته المتعصب لها ، ويدين به حربا غربية (عالمية) غاية أحد أطرافها إبادة أهله ، وأجبر هو علي الاشتراك فيها كجندي ، مثلما أجبر بطل نصه الدرامي المتماهي فيه علي التجنيد ، وتم إلقاؤه علي الجبهة تحت إمرة قائد عسكري ملتاث ، يخرج ذات يوم في إجازة يعرض عليه الجندي المتعين هذا أن يتوجه لقريته وأسرته ليرتاح زمن اجازته معها ، فيقلب حياتها رأسا علي عقب ، وتتفجر عبثية الموقف الدرامي ومرارته ، في معرفة الجمهور بموت الجندي علي الجبهة ، في الوقت الذي تتفاني فيه أسرته في خدمة هذا الجنرال الملتاث . عندما يلتقط مخرجنا المصري هذا النص المعبر عن رؤية كاتب لجماعته الدينية ، وليس لطبقته الاجتماعية فقط ، ورعبها من هذه الإبادة الجماعية رغم خضوعها لخدمة الراغب في تدميرها ، ويقوم بتحويل لغتها للعامية المصرية المعبرة عن مجتمع التلقي ، ووضع أسماء مصرية محل الأسماء الغربية ، وتحوير بعض مواقفها ، دون تغيير جذري في بنيتها الدرامية وعناصرها الداخلية المتضمنة لمحتواها الفكري ، ثم يحول القائد العسكري الذي يدينه النص كشخص وكمؤسسة إلي مستشار أمريكي ، يختل البناء بأكمله ، فالجمهور في تلقيه لهذا العرض ، سيتساءل بالحتم عن هذه الكتيبة العسكرية (المصرية) التي تحارب علي الجبهة وقائدها مستشار أمريكي ، وسيفتش عن (رؤية العالم) التي يحملها العرض ، لا النص الأصلي وكاتبه ، وعن أية طبقة تعبر ، وعن هذا التعارض الرهيب بين عبثية نص يخضع فيه البشر طواعية لحاكم جائر ، حفاظا علي حياة طيبة لابن مات بالفعل ، وأغان ثورية مدسوسة علي العرض ومحتلة مساحة ضخمة منه .
لا تقف إذن الدراسات السوسيوسيميولوجية ، ونظيرتها السوسيوثقافية المتعاملة مع الإبداع باعتباره نتاج أوضاع ثقافية ومتطلبات اجتماعية ، وغيرها في الحقول الأخري مثل دراسات السوسيولساني ، والسوسيو ديموجرافي ، والسوسيونفسي ، لا تقف عند الكشف عن انتماء الكاتب لطبقته المجتمعية ، ومدي تعبيره عن رؤيتها للعالم في عمله المسرحي ، بل تفتش أيضا ، أو يجب عليها أن تفتش ، عن مدي التزام الكاتب آيديولوجيا برؤية طبقته الاجتماعية ، ومدي قدرته علي التعبير عن جيله المنتمي إليه ويخالف الأجيال الأخري بحكم الانتماء العمري ، فللعرق دور بنية العمل المبدع ، إذا ما تمسك به المبدع ، مثل العديد من الروايات والمسرحيات التي تدور في فلك العرق النوبي وتطالب بحق العودة لأراض من وطن هجروها طواعية وهجروا منها لاحتياج الوطن ككل لها ، بل وتسميتهم للمنجزات الوطنية بمسميات عرقية ، فتتحول (بحيرة ناصر) أو (بحيرة السد العالي) إلي (بحيرة النوبة) ، وكذلك لرؤية الجيل دور في صياغة الإبداع بنائيا وفكريا ، وللمرحلة العمرية دور آخر في رؤية المبدع للعالم ، فأبناء وآباء نفس الطبقة لا ينتمون بالضرورة لنفس الرؤية ، والإحباط والهزيمة واليأس المتسلل اليوم لكتابات وعروض الشباب المنتمي في غالبيته للشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة والصاعد منها ، يخالف كتابات الآباء المنتمين لنفس الطبقة والمتمسكين بالأمل في التغيير .
أبنية عليا وسفلي
يتجاوز هذا الفهم السوسيولوجي المعاصر التصور الماركسي القديم المؤكد علي أن الحياة هي صراع بين الطبقات ، إلي إدراك أن الصراع قد يكون داخل الطبقة ذاتها ، بل وداخل حقل واحد مثل حقل المسرح ، الذي يسعي فيه كل مبدع إلي احتلال أهم مقعد في إدارته ، أو أكبر مساحة من الدعاية له ، أو التفاخر بحصوله علي جوائز أفضل من زميله ، أو أن مسرحه ظهر تاريخيا قبل مسرح زميله ، فالعلاقات الاجتماعية في المجتمعات الحديثة تنقسم اليوم إلي فضاءات اجتماعية أساسها نشاط معين ، تتنافس فيها الشخصيات الفاعلة لتحتل مواقع السيطرة ، مقصية في البداية غير المنتمين إليها فكريا فعمريا ، ثم المتنافسين معها علي ذات الأرض ، وهو ما يحول منافستهم من البحث عن الأفضل إلي اغتيال هذا الأفضل بنقده ورفضه والتعالي عليه .
وسيرا علي الرؤية الماركسية التي تقسم المجتمع إلي أبنية تحتية أو سفلية تضم كل ما هو مادي من إنتاج افتصادي وصناعي وغيرهما ، وأبنية فوقية تحتوي علي كل ما هو معنوي من ثقافة وقانون ولغة وغيرها ، تعبر الأبنية الفوقية عما يحدث من تفاعلات في الأبنية التحتية وتؤثر فيها عندما تتوجه إليها في علاقة جدلية شديدة التميز ، تري البنيوية التوليدية الإبداع الأدبي أو الفني أيضا بنية علوية ، ولكنها بنية مستقلة بذاتها ،عن البنية السفلي (المجتمع) ، وذلك بتأثير واضح من البنيوية الأولي ، لكنها تراجع نفسها لتؤكد علي وجود (تماثل) أو (تناظر) بين البنيتين ، مما يتطلب دراسة أولية للعمل المبدع (النص الدرامي) أو (العرض المسرحي بما فيه النص) كبنية داخلية مغلقة ذات وشائج داخلية ، وتفاعل لأنساق علاماتها ، دون أي تأويل خارجي لدالاتها وبنياتها الداخلية الصغيرة من حوار وشخصيات ومواقف وجمل لغوية ، بهدف الكشف عن البنية الدالة الثابتة ، وهي المقولة الفلسفية المتكررة داخل المسرحية ، ثم قراءة للنص وتفسيره من خارجه ، وفق سياقه المجتمعي بكل أطيافه السياسية والتاريخية والثقافية ، لتحدد الرؤية الكلية للعالم سواء أكانت رؤية عبثية أو وجودية أو أناركية ، ونمط الوعي الذي يمتلكه الكاتب عبر عمله ، زائفا يفسر العالم تفسيرا خرافيا ، أو واقعيا يستكين لما هو قائم ، أو ممكنا يستشرف المستقبل وينير جمهوره لتغيير مجتمعه ، والكشف عن حجم التماثل أو التناظر بين بنية المجتمع وبنية المسرحية المتولدة عنها ، والمستقلة بعد ذلك ، فتناول عرض مسرحي تتواتر فيه كلمة الموت ، وتتحقق عبر شعائر صوفية متكررة يكشف عن رؤية العرض وصاحبه / اصحابه الإيديولوجية للعالم ، وقراءة عمل يتحول فيه "أوزيريس" إلي شخصية شريرة ومستبدة و"ست" إلي شخصية خيرة وديمقراطية ، علي النقيض من دلالات الأسطورة المصرية المعروفة ، يتطلب التوقف عند الخلل الذي يصيب بنية الدراما من هذا التغيير المفروض علي الشخصيات ودلالاتها في ذهن المتلقي المصري ، كما يكشف عما أراد الكاتب توصيله لمجتمعه في لحظة زمنية معينة ، اتساقا مع ما حدث في المجتمع من تغيرات في سبعينيات القرن الماضي ، وعما إذا كان هذا التغيير الجذري في بنية المسرحية هو نتاج رؤية الكاتب وطبقته للعالم ، أم موقف سياسي اتخذه لمجاراة أو محاباة هذا النظام الجديد .
المصدر : مجلة مسرحنا العدد 381
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق