مجلة الفنون المسرحية
كانت تجربة كتابة مسرحية "رجل في القلعة" نهاية رحلة شاقة في البحث عن الشكل المسرحي الذي يسعي إلي الجذب الجماهيري وحل الفجوة بين فنون القول وفنون العرض. بدأت هذه الرحلة مبكرا مع مسرحية "حكاية ليلة القدر" التي سميت فيما بعد باسم "حلم ليلة حرب" وذلك في بداية الستينيات من القرن الماضي. هذه المسرحية نشأت فكرتها من حكاية خرافية شعبية كانت متداولة بشكل عميق في أوساط الطبقات الشعبية الفقيرة ذات الفقر المدقع. وهي من ضمن الحكايات التي سمعتها من جدتي لأمي عن الجان والعفاريت وهو العالم الذي ينتمي إلي عالم ألف ليلة وليلة.
كانت جدتي تحكي لنا هذه الحكاية بالذات في ليلة القدر التي كنا نظن أنها ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك. ملخص هذه الحكاية أنه في هذه الليلة المباركة التي يستجيب الله فيها لدعاء الناس تظهر بغلة تهبط من السماء إلي الأرض تحمل علي ظهرها خرجين. الخرج الأيمن يوجد به رأس قتيل غارق في الدماء والخرج الأيسر كنز من الجواهر والأحجار الكريمة والنقود. هذه البغلة هي من نصيب الموعود بها وهو أحد الفقراء المعوذين الذي يدعو الله في هذه الليلة أن يمن عليه بالغني والثراء وأن
يخرجه من زمرة الفقراء إلي زمرة الأغنياء شرط ألا يخبر أحدا بذلك، وهذا السر هو ما يفسر ما يحدث من الغني المفاجئ لبعض الناس دون مقدمات، فيقولون هذا الشخص جاءته هذه البغلة التي كانت تسمي بغلة العشر نسبة إلي العشر الأواخر من رمضان. ومن ضمن نوادر هذه الليلة لدي الطبقات الشعبية أنه يقال فيما يقال إن امرأة كانت تدعو الله أن يهبها الغني والثراء وبدلا من أن تدعو الله وتقول اللهم هبني الغني بكسر الغين أخطأت وقالت اللهم هبني الغنا بضم الغين، فوهبها الله صوتا رخيما وأصبحت من أشهر المغنيات. هذه الحكاية جدلتها في داخل أحداث مسرحية ابتدعتها عن أسرة متواضعة تسكن فوق السطوح وأخذت تنتظر هذه الليلة وتحلم بها وتدعو الله أن يهبها الغني والثراء وتصادف أن هذه الليلة من ليالي الحرب العالمية الثانية التي اكتوت مصر بنارها دون ذنب وتعرضت فيها إلي غارات قوات المحور ضد قوات الحلفاء وعلي رأسهم بريطانيا التي احتلت مصر، وأثناء تلك الغارات في هذه الليلة المظلمة من ليالي الشتاء حيث أصوات أزيز الطائرات والقنابل والمدافع وهدير الرعد وبريق البرق وهطول المطر، وتم وهم الحكاية تظن الأسرة أن السماء قد انفتحت وسط هذا الضجيج واستجابت لدعائها وسوف تأتيها البغلة بالكنز الموعود ورأس القتيل. وبالفعل تسمع خطوات البغلة علي السلم ويقوم أحد أفراد الأسرة الذين استغرقتهم الأوهام وأحلام اليقظة وهو الأخ الأصغر ليستقبل البغلة وطبقا لشروط الحكاية فإن من واجبه أن يغسل رأس القتيل غسلا جيدا ويلفه في قماش نظيف ويعيده علي الخرج وهنا يكون من حقه الحصول علي الكنز من الخرج الآخر، إلا أن واحدًا من أفراد الأسرة وهو الأخ الأكبر ينكر ما حدث ويؤكد أن رأس القتيل التي حملها الأخ الأصغر هي رأس العجوز الشريرة صاحبة البيت الذي يسكنون فيه التي تهددهم بين آن وآخر بالطرد خارج سكنهم فوق السطوح بسبب عجزهم عن دفع الإيجار لعدة شهور. وليؤكد لهم وجهة نظره ينزل إلي سكن العجوز ليثبت لهم أن أخاه الأصغر قد قام بقتلها وسلب ثروتها، إلا أنه حين يدق الباب عليها يفاجأ أنها مازالت علي قيد الحياة وأنها حين رأته ظنت به السوء وأنه جاء لسرقتها فأخذت تصيح وتستغيث، إلا أنه حاول منعها عبثا ولم يكن هناك بد من أن يكتم أنفاسها وتسقط بين يديه جثة هامدة. وأمام المحكمة تقف الأسرة منقسمة علي نفسها. هناك من مازال يعيش في وهم الليلة ويؤكد أن البغلة قد جاءتهم بالكنز، وهناك من يؤكد أنها جريمة قتل وأن ما حدث ما هو إلا أوهام وأضغاث أحلام. هذه المسرحية تعتبر أول مسرحية كتبتها في إطار لعبة مسرحية يختلط فيها الحلم بالواقع لتأكيد عدة معان كانت تشغل الطبقات الشعبية في مصر تلك الطبقات التي تعاني الفقر والحرمان ومن أهمها تفسير حصول بعض الأشخاص علي الثروات المفاجئة والتي تمثلت في أغنياء الحرب في ذلك الوقت الذين أثروا ثراء فاحشا علي حساب الطبقات المطحونة، كما أن رأس القتيل كانت تمثل الثمن الدموي الذي كان ولا بد أن يدفعه من يحصل علي الكنز، أي الذين أثروا هذا الثراء الفاحش وأن تكون أياديهم ملوثة بالدماء.
أيضا فإن من يرفضون الحلم ولا يملكون القدرة علي الخيال، غالبا ما ينحدرون إلي الواقع المرير ويقعون تحت وطأته في الخطأ والخطيئة ولا يجدون مفرا من السقوط والضياع. هذه المسرحية كانت بداية تفكيري في التيمات الشعبية القريبة من وجدان الجماهير والاقتراب منهم وجذبهم وحينما قدمتها في مسابقة المجمع اللغوي في أوائل الستينيات التي فاز فيها محمود دياب بمسرحيته الأولي "البيت القديم" قابلت الأديب الراحل محمد عبد الحليم عبد الله الذي كان أمينا في المجمع اللغوي ومشرفا علي المسابقة، أخبرني أنه قرأ المسرحية وأعجب بها إلا أنه يتحفظ عليها بسبب أنها مستوحاة من رواية "الجريمة والعقاب" للكاتب الروسي "دستيوفسكي"، وتساءلت فيما بيني وبين نفسي ما علاقة هذه المسرحية برواية الكاتب الروسي اللهم إلا في جريمة القتل التي حدثت للعجوز صاحبة البيت. أذكر هذه الملحوظة التي قالها محمد عبد الحليم عبد الله بعد هذا العمر الطويل الذي يصل إلي أكثر من نصف قرن لأنبه إلي أن بعض النقاد والأدباء الكبار الذين يقرأون أعمالا للكتاب الجدد أحيانا ينتقدون أعمالهم ويتهمونهم بالتأثر بأعمال الكتاب الكبار لمجرد موقف أو حادث أو مشهد يتشابه مع أعمال سابقة مع أنه أمر طبيعي يحدث تلقائيا وبدون قصد، وذلك راجع في رأيي إلي نوع من التعالي وعدم الثقة في كتابات الشباب مما قد يصيبهم بشيء من الإحباط واليأس بل وقد يقضون علي موهبتهم تماما. وعلي ذكر حالات الإحباط التي قد تصيب الكاتب في بداياته وقد تقضي علي موهبته أذكر حادثًا لي وأنا في جمعية الرواد الأدبية بدمياط حينما كتبت القصة القصيرة بجانب المسرح وعرضنا في الندوة الأسبوعية إلا أنني فوجئت بهجوم شديد علي القصة التي كتبتها وكانت باسم "التيار الأعمي" تدور حول شخص بترت ساقه في ظروف خاصة وكان كلما مضي في طريق يجد من يقدم له نقودا ويعامله كمتسول. وهذه القصة علي فرض أنها ليست جيدة فإنها لم تكن أسوأ مما يكتبه أصدقائي أعضاء الجمعية خصوصا أنني سبق أن فزت في مسابقة القصة القصيرة بقصة "الجعران" التي أشرت إليها في حلقة سابقة، أي أنني بشهادة لجنة تحكيم المسابقة أستحق أن أكون كاتب قصة قصيرة، وهذا لم يشفع لي في الجمعية وكان المبرر أن أكتفي بكتابة المسرح. هذا في الحقيقة كان السبب المباشر في زهدي عن كتابة القصة القصيرة، وتساءلت فيما بيني وبين نفسي ألم يكن من الممكن لو وجدت تشجيعا لكنت كتبت القصة القصيرة بل والرواية بجانب المسرح أليس هذا متحققا في كتاب أمثال يوسف إدريس ومحمود دياب وعبد الرحمن الشرقاوي بل وتشيكوف أشهر كتاب القصة في العالم. أقول هذا لأهيب بالنقاد أن يكونوا رحماء ورفقاء بالناشئين فهم يحتاجون إلي التشجيع أكثر من تثبيط العزائم لأنهم في مرحلة النمو وبدايات التطور والارتقاء.
أعود إلي مسرحية "حلم ليلة حرب" التي قلت إنها بداية رحلة البحث عن الشكل المسرحي الجاذب للجماهير، وكنت قد قدمتها لتعرض بعد تجربتنا الفاشلة في جماعة أبناء المسرح التي قدمت عرضا في رأس البر لم يستقبله الجمهور استقبالا حسنا، لأنه لم يكن فيه ما يجذبهم، ولذلك فكرنا في تقديم هذه المسرحية التي تحقق المعادلة الصعبة وتقدم صيغة جماهيرية لأفكار مستنيرة، إلا أنه للأسف الشديد لم تكتمل تجربة العرض بسبب عجزنا عن الإنتاج، ولم تقدم هذه المسرحية إلا بعد عدة سنوات من إنتاج الثقافة الجماهيرية، وكان أول من أخرجها أحد زملائنا في الجماعة وهو الصديق المخرج الراحل أحمد العاصمي من خلال أعضاء فرقة فارسكور المسرحية علي مسرح مجلس مدينة دمياط، ثم توالت عروضها فيما بعد علي مسارح قصور الثقافة في الأقاليم.
-----------------------------------------------
المصدر : مسرحنا العدد 381
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق