تصنيفات مسرحية

الأربعاء، 13 يوليو 2016

تجربة الكاتب المسرحي‮ ..‬ ‮ ‬إرهاصات البحث عن الشكل المسرحي / محمد ابو العلا السلاموني

مجلة الفنون المسرحية


كانت تجربة كتابة مسرحية‮ "‬رجل في‮ ‬القلعة‮" ‬نهاية رحلة شاقة في‮ ‬البحث عن الشكل المسرحي‮ ‬الذي‮ ‬يسعي‮ ‬إلي‮ ‬الجذب الجماهيري‮ ‬وحل الفجوة بين فنون القول وفنون العرض‮. ‬بدأت هذه الرحلة مبكرا مع مسرحية‮ "‬حكاية ليلة القدر‮" ‬التي‮ ‬سميت فيما بعد باسم‮ "‬حلم ليلة حرب‮" ‬وذلك في‮ ‬بداية الستينيات من القرن الماضي‮. ‬هذه المسرحية نشأت فكرتها من حكاية خرافية شعبية كانت متداولة بشكل عميق في‮ ‬أوساط الطبقات الشعبية الفقيرة ذات الفقر المدقع‮. ‬وهي‮ ‬من ضمن الحكايات التي‮ ‬سمعتها من جدتي‮ ‬لأمي‮ ‬عن الجان والعفاريت وهو العالم الذي‮ ‬ينتمي‮ ‬إلي‮ ‬عالم ألف ليلة وليلة‮.‬
كانت جدتي‮ ‬تحكي‮ ‬لنا هذه الحكاية بالذات في‮ ‬ليلة القدر التي‮ ‬كنا نظن أنها ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك‮. ‬ملخص هذه الحكاية أنه في‮ ‬هذه الليلة المباركة التي‮ ‬يستجيب الله فيها لدعاء الناس تظهر بغلة تهبط من السماء إلي‮ ‬الأرض تحمل علي‮ ‬ظهرها خرجين‮. ‬الخرج الأيمن‮ ‬يوجد به رأس قتيل‮ ‬غارق في‮ ‬الدماء والخرج الأيسر كنز من الجواهر والأحجار الكريمة والنقود‮. ‬هذه البغلة هي‮ ‬من نصيب الموعود بها وهو أحد الفقراء المعوذين الذي‮ ‬يدعو الله في‮ ‬هذه الليلة أن‮ ‬يمن عليه بالغني‮ ‬والثراء وأن‮
‬يخرجه من زمرة الفقراء إلي‮ ‬زمرة الأغنياء شرط ألا‮ ‬يخبر أحدا بذلك،‮ ‬وهذا السر هو ما‮ ‬يفسر ما‮ ‬يحدث من الغني‮ ‬المفاجئ لبعض الناس دون مقدمات،‮ ‬فيقولون هذا الشخص جاءته هذه البغلة التي‮ ‬كانت تسمي‮ ‬بغلة العشر نسبة إلي‮ ‬العشر الأواخر من رمضان‮. ‬ومن ضمن نوادر هذه الليلة لدي‮ ‬الطبقات الشعبية أنه‮ ‬يقال فيما‮ ‬يقال إن امرأة كانت تدعو الله أن‮ ‬يهبها الغني‮ ‬والثراء وبدلا من أن تدعو الله وتقول اللهم هبني‮ ‬الغني‮ ‬بكسر الغين أخطأت وقالت اللهم هبني‮ ‬الغنا بضم الغين،‮ ‬فوهبها الله صوتا رخيما وأصبحت من أشهر المغنيات‮. ‬هذه الحكاية جدلتها في‮ ‬داخل أحداث مسرحية ابتدعتها عن أسرة متواضعة تسكن فوق السطوح وأخذت تنتظر هذه الليلة وتحلم بها وتدعو الله أن‮ ‬يهبها الغني‮ ‬والثراء وتصادف أن هذه الليلة من ليالي‮ ‬الحرب العالمية الثانية التي‮ ‬اكتوت مصر بنارها دون ذنب وتعرضت فيها إلي‮ ‬غارات قوات المحور ضد قوات الحلفاء وعلي‮ ‬رأسهم بريطانيا التي‮ ‬احتلت مصر،‮ ‬وأثناء تلك الغارات في‮ ‬هذه الليلة المظلمة من ليالي‮ ‬الشتاء حيث أصوات أزيز الطائرات والقنابل والمدافع وهدير الرعد وبريق البرق وهطول المطر،‮ ‬وتم وهم الحكاية تظن الأسرة أن السماء قد انفتحت وسط هذا الضجيج واستجابت لدعائها وسوف تأتيها البغلة بالكنز الموعود ورأس القتيل‮. ‬وبالفعل تسمع خطوات البغلة علي‮ ‬السلم ويقوم أحد أفراد الأسرة الذين استغرقتهم الأوهام وأحلام اليقظة وهو الأخ الأصغر ليستقبل البغلة وطبقا لشروط الحكاية فإن من واجبه أن‮ ‬يغسل رأس القتيل‮ ‬غسلا جيدا ويلفه في‮ ‬قماش نظيف ويعيده علي‮ ‬الخرج وهنا‮ ‬يكون من حقه الحصول علي‮ ‬الكنز من الخرج الآخر،‮ ‬إلا أن واحدًا من أفراد الأسرة وهو الأخ الأكبر‮ ‬ينكر ما حدث ويؤكد أن رأس القتيل التي‮ ‬حملها الأخ الأصغر هي‮ ‬رأس العجوز الشريرة صاحبة البيت الذي‮ ‬يسكنون فيه التي‮ ‬تهددهم بين آن وآخر بالطرد خارج سكنهم فوق السطوح بسبب عجزهم عن دفع الإيجار لعدة شهور‮. ‬وليؤكد لهم وجهة نظره‮ ‬ينزل إلي‮ ‬سكن العجوز ليثبت لهم أن أخاه الأصغر قد قام بقتلها وسلب ثروتها،‮ ‬إلا أنه حين‮ ‬يدق الباب عليها‮ ‬يفاجأ أنها مازالت علي‮ ‬قيد الحياة وأنها حين رأته ظنت به السوء وأنه جاء لسرقتها فأخذت تصيح وتستغيث،‮ ‬إلا أنه حاول منعها عبثا ولم‮ ‬يكن هناك بد من أن‮ ‬يكتم أنفاسها وتسقط بين‮ ‬يديه جثة هامدة‮. ‬وأمام المحكمة تقف الأسرة منقسمة علي‮ ‬نفسها‮. ‬هناك من مازال‮ ‬يعيش في‮ ‬وهم الليلة ويؤكد أن البغلة قد جاءتهم بالكنز،‮ ‬وهناك من‮ ‬يؤكد أنها جريمة قتل وأن ما حدث ما هو إلا أوهام وأضغاث أحلام‮. ‬هذه المسرحية تعتبر أول مسرحية كتبتها في‮ ‬إطار لعبة مسرحية‮ ‬يختلط فيها الحلم بالواقع لتأكيد عدة معان كانت تشغل الطبقات الشعبية في‮ ‬مصر تلك الطبقات التي‮ ‬تعاني‮ ‬الفقر والحرمان ومن أهمها تفسير حصول بعض الأشخاص علي‮ ‬الثروات المفاجئة والتي‮ ‬تمثلت في‮ ‬أغنياء الحرب في‮ ‬ذلك الوقت الذين أثروا ثراء فاحشا علي‮ ‬حساب الطبقات المطحونة،‮ ‬كما أن رأس القتيل كانت تمثل الثمن الدموي‮ ‬الذي‮ ‬كان ولا بد أن‮ ‬يدفعه من‮ ‬يحصل علي‮ ‬الكنز،‮ ‬أي‮ ‬الذين أثروا هذا الثراء الفاحش وأن تكون أياديهم ملوثة بالدماء‮. ‬
أيضا فإن من‮ ‬يرفضون الحلم ولا‮ ‬يملكون القدرة علي‮ ‬الخيال،‮ ‬غالبا ما‮ ‬ينحدرون إلي‮ ‬الواقع المرير ويقعون تحت وطأته في‮ ‬الخطأ والخطيئة ولا‮ ‬يجدون مفرا من السقوط والضياع‮. ‬هذه المسرحية كانت بداية تفكيري‮ ‬في‮ ‬التيمات الشعبية القريبة من وجدان الجماهير والاقتراب منهم وجذبهم وحينما قدمتها في‮ ‬مسابقة المجمع اللغوي‮ ‬في‮ ‬أوائل الستينيات التي‮ ‬فاز فيها محمود دياب بمسرحيته الأولي‮ "‬البيت القديم‮" ‬قابلت الأديب الراحل محمد عبد الحليم عبد الله الذي‮ ‬كان أمينا في‮ ‬المجمع اللغوي‮ ‬ومشرفا علي‮ ‬المسابقة،‮ ‬أخبرني‮ ‬أنه قرأ المسرحية وأعجب بها إلا أنه‮ ‬يتحفظ عليها بسبب أنها مستوحاة من رواية‮ "‬الجريمة والعقاب‮" ‬للكاتب الروسي‮ "‬دستيوفسكي‮"‬،‮ ‬وتساءلت فيما بيني‮ ‬وبين نفسي‮ ‬ما علاقة هذه المسرحية برواية الكاتب الروسي‮ ‬اللهم إلا في‮ ‬جريمة القتل التي‮ ‬حدثت للعجوز صاحبة البيت‮. ‬أذكر هذه الملحوظة التي‮ ‬قالها محمد عبد الحليم عبد الله بعد هذا العمر الطويل الذي‮ ‬يصل إلي‮ ‬أكثر من نصف قرن لأنبه إلي‮ ‬أن بعض النقاد والأدباء الكبار الذين‮ ‬يقرأون أعمالا للكتاب الجدد أحيانا‮ ‬ينتقدون أعمالهم ويتهمونهم بالتأثر بأعمال الكتاب الكبار لمجرد موقف أو حادث أو مشهد‮ ‬يتشابه مع أعمال سابقة مع أنه أمر طبيعي‮ ‬يحدث تلقائيا وبدون قصد،‮ ‬وذلك راجع في‮ ‬رأيي‮ ‬إلي‮ ‬نوع من التعالي‮ ‬وعدم الثقة في‮ ‬كتابات الشباب مما قد‮ ‬يصيبهم بشيء من الإحباط واليأس بل وقد‮ ‬يقضون علي‮ ‬موهبتهم تماما‮. ‬وعلي‮ ‬ذكر حالات الإحباط التي‮ ‬قد تصيب الكاتب في‮ ‬بداياته وقد تقضي‮ ‬علي‮ ‬موهبته أذكر حادثًا لي‮ ‬وأنا في‮ ‬جمعية الرواد الأدبية بدمياط حينما كتبت القصة القصيرة بجانب المسرح وعرضنا في‮ ‬الندوة الأسبوعية إلا أنني‮ ‬فوجئت بهجوم شديد علي‮ ‬القصة التي‮ ‬كتبتها وكانت باسم‮ "‬التيار الأعمي‮" ‬تدور حول شخص بترت ساقه في‮ ‬ظروف خاصة وكان كلما مضي‮ ‬في‮ ‬طريق‮ ‬يجد من‮ ‬يقدم له نقودا ويعامله كمتسول‮. ‬وهذه القصة علي‮ ‬فرض أنها ليست جيدة فإنها لم تكن أسوأ مما‮ ‬يكتبه أصدقائي‮ ‬أعضاء الجمعية خصوصا أنني‮ ‬سبق أن فزت في‮ ‬مسابقة القصة القصيرة بقصة‮ "‬الجعران‮" ‬التي‮ ‬أشرت إليها في‮ ‬حلقة سابقة،‮ ‬أي‮ ‬أنني‮ ‬بشهادة لجنة تحكيم المسابقة أستحق أن أكون كاتب قصة قصيرة،‮ ‬وهذا لم‮ ‬يشفع لي‮ ‬في‮ ‬الجمعية وكان المبرر أن أكتفي‮ ‬بكتابة المسرح‮. ‬هذا في‮ ‬الحقيقة كان السبب المباشر في‮ ‬زهدي‮ ‬عن كتابة القصة القصيرة،‮ ‬وتساءلت فيما بيني‮ ‬وبين نفسي‮ ‬ألم‮ ‬يكن من الممكن لو وجدت تشجيعا لكنت كتبت القصة القصيرة بل والرواية بجانب المسرح أليس هذا متحققا في‮ ‬كتاب أمثال‮ ‬يوسف إدريس ومحمود دياب وعبد الرحمن الشرقاوي‮ ‬بل وتشيكوف أشهر كتاب القصة في‮ ‬العالم‮. ‬أقول هذا لأهيب بالنقاد أن‮ ‬يكونوا رحماء ورفقاء بالناشئين فهم‮ ‬يحتاجون إلي‮ ‬التشجيع أكثر من تثبيط العزائم لأنهم في‮ ‬مرحلة النمو وبدايات التطور والارتقاء‮.‬
أعود إلي‮ ‬مسرحية‮ "‬حلم ليلة حرب‮" ‬التي‮ ‬قلت إنها بداية رحلة البحث عن الشكل المسرحي‮ ‬الجاذب للجماهير،‮ ‬وكنت قد قدمتها لتعرض بعد تجربتنا الفاشلة في‮ ‬جماعة أبناء المسرح التي‮ ‬قدمت عرضا في‮ ‬رأس البر لم‮ ‬يستقبله الجمهور استقبالا حسنا،‮ ‬لأنه لم‮ ‬يكن فيه ما‮ ‬يجذبهم،‮ ‬ولذلك فكرنا في‮ ‬تقديم هذه المسرحية التي‮ ‬تحقق المعادلة الصعبة وتقدم صيغة جماهيرية لأفكار مستنيرة،‮ ‬إلا أنه للأسف الشديد لم تكتمل تجربة العرض بسبب عجزنا عن الإنتاج،‮ ‬ولم تقدم هذه المسرحية إلا بعد عدة سنوات من إنتاج الثقافة الجماهيرية،‮ ‬وكان أول من أخرجها أحد زملائنا في‮ ‬الجماعة وهو الصديق المخرج الراحل أحمد العاصمي‮ ‬من خلال أعضاء فرقة فارسكور المسرحية علي‮ ‬مسرح مجلس مدينة دمياط،‮ ‬ثم توالت عروضها فيما بعد علي‮ ‬مسارح قصور الثقافة في‮ ‬الأقاليم‮.‬

-----------------------------------------------
المصدر : مسرحنا العدد 381

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق