تصنيفات مسرحية

الجمعة، 15 يوليو 2016

الأسطورة في المسرح المصري المعاصر: من سلطة الآلهة إلى سُلطة النظم الحاكمة

مجلة الفنون المسرحية

لم تكن الأسطورة سوى الوعي الجمعي للشعوب، تحاول أن تصيغ رؤيته إلى العالم، ومن خلال حِس ديني مُحكم، سواء آلهة مفارقة مكانها السماء أو مخيلة المؤمنين بها، أو أنصاف آلهة استطاعوا التفاعل مع البشر على الأرض، وفي كل من الحالتين ظهرت الحكاية، ومن الطقس الديني ومن رحم الأساطير ولد المسرح، فكانت نواته الأولى، التي لم تزل الأساطير أرضاً صلبة تعاد من خلالها الحكاية المسرحية لتناقش قضايا ومواقف اجتماعية وسياسية وجمالية آنية. 
فإن خبت حكاية إيزيس وأزوريس وآلهة الأولمب من مخيلة المؤمنين، إلا أن هذه الحكايات لم تختف من على خشبة المسرح، بل دوماً يتم التوسل بها للوقوف على مشكلات ومعضلات عصرية، يهرب بها الكاتب من سلطة زمنية ونظام حُكم لا يرحم، أو أن يبحث في قضايا وجودية وجمالية لا يجد أمثل من الأسطورة مُعبّراً عنها أو من خلالها. وفي ما يخص المسرح المصري، الذي لم يبتعد كثيراً ــ حسب طاقته ــ عن نظيره العالمي في استخدام الأسطورة كإطار عام يتم من خلاله صياغة نصوصه، يأتي كتاب
«الأسطورة في المسرح المصري المعاصر» لمؤلفه تامر فايز، الذي تناول الأسطورة وتوظيفها في المسرح المصري في الفترة ما بين 1971 وحتى 2005. وذلك تطبيقاً على 8 نصوص مسرحية لـ 6 مؤلفين، هي.. «عودة الغائب والفارس والأسيرة» لفوزي فهمي، «الناس في طيبة» لعبد العزيز حمودة، «حورس والصمت وأوديب والقربان المقدس» لعصام عبد العزيز، «طريق الخلاص» لحسن السيد، «المجد من العار» لجورجي كامل، و»قبل صدور الحكم» لسامح عبد الرؤوف. صدر الكتاب عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة، ضمن سلسلة الدراسات الشعبية، وجاء في 404 صفحة من القطع المتوسط.

إيزيس وأوزوريس

اعتمدت بعض النصوص محل الدراسة على هذه الأسطورة المصرية لتكون إطار الأحداث، وهي .. الناس في طيبة، حورس والصمت، قبل صدور الحكم. يحاول على سبيل المثال عبد العزيز حمودة في مسرحيته «الناس في طيبة» أن يجعل من إيزيس مدبرة مؤامرات، فهي لم تجمع أشلاء أوزوريس، بل ادعت ذلك، كما أظهر المؤلف أن الشعب مجرد ألعوبة في يد الطبقة الحاكمة، من خلال الكذب والأساطير الملفقة التي تستخدمها هذه الطبقة للسيطرة على الشعب الساذج، إيزيس التي هزمت ست بالحيلة والخديعة ودان لها حكم البلاد. ففي حوارها مع الكاهن على سبيل المثال وهو يحذرها من الشعب الثائر .. «الكاهن: الناس، الناس يا مولاتي لن يسكتوا، لقد بدأوا، بدأوا. إيزيس (تنفجر ضاحكة): الناس في طيبة طيبون».
وتأتي مسرحية «حورس والصمت» لعصام عبد العزيز لتجعل المواجهة المباشرة ما بين حورس وست، حورس الذي يراه ست ابناً غير شرعي منبوذا، ويشيع هذا في أرجاء البلاد. إلا أن النظرة إلى الشعب لم تتغير عما فعله عبد العزيز حموده .. «حورس: أنا لا أريد لشعب مصر أن يستكين إلى أنه قد تخلص من الشر، بل أريد لهذا الشعب أن يعي تماماً أن الشر دائم ومستمر. ست: لا فائدة مع كل هذه العقول الخاوية، إن كل محاولة تبذل هي محاولة مُجهَضة، ما الفرق بين اليوم والأمس، لا شيء صدقني».
أما في مسرحية «قبل صدور الحكم» لسامح عبد الرؤوف، فيأتي حكم أوزوريس في غاية العدل، فهو يحكم بمنطق الحكيم لا الحاكم. «أوزوريس: أنت تعلم جيداً بأني لا أطيق سكن القصور. آني: يا بني الحاكم بالقصر .. الناس في بلادنا ألفوا حكامهم على هذا، يسكنون القصور ويلبسون أفضل الثياب، ويأكلون ما لا يأكله العامة، وهم بعيدو المنال ودائماً في حرس وهيبة». 
حتى أنه يسجن ابنه حورس المستهتر، الذي تسبب في قتل أحد الفلاحين، لتبدأ إيزيس في تدبير المؤامرات للتخلص منه، بل وتستعين بأخيه ست، ليتم التخلص من أوزوريس بالفعل، ويخرج حورس من السجن للمطالبة بالحكم، وينجح في النهاية. الصراع هنا بعيد تماماً عن العامة أو دورهم ــ إن كان لهم دور ــ بل تحالفات ومؤامرات القصور.

أوديب

هذه الأسطورة الشهيرة والنص الأشهر لسوفوكليس، تم الاعتماد عليه في عدة نصوص مسرحية مصرية وحتى الآن، بخلاف توقيت الدراسة. يستعرض المؤلف هنا نصوصا. «عودة الغائب» لفوزي فهمي، «المجد من العار» لجورجي كامل، و»أوديب والقربان» المقدس لعصام عبد العزيز، سواء تم اعتماد أوديب سوفوكليس فقط، او نصوص أخرى لسوفوكليس كانتيغون أو أوديب في كولونا.
في «عودة الغائب» يبدو تأثر فوزي فهمي بالنص الأصلي بالطبع، إضافة إلى تأثره بمسرحية أندريه جيد «أوديب» في معرفة أوديب بمصيره. من ناحية أخرى اتفق كل من جوكاستا وأوديب على إخفاء الأمر حتى لا تضطرب البلاد، لكن الطاعون حل بالبلاد، فكان عليه الرحيل.
بينما هذه الصوة تختلف تماماً في نص «المجد من العار»، حيث يبدو التأثر بنص كوكتو «الآلة الجهنمية»، وتحول الوحش إلى امرأة تريد الحب والسيطرة من خلاله. كما أن أدوديب يبدو سيئ الطباع مستهتراً من البداية، ورغم ذلك يقف معه الشعب عند كشف تريزياس الحقيقة بأن/أوديب سبب الطاعون واللعنة، وهي فكرة تمجيد الشعب للشكل البطولي أو مصدر السلطة بخلاف المعيار الأخلاقي.

السلطة السياسية

أكثر هذه النصوص لا يخفى أنه يناقش طبيعة السلطة السياسية ونظام الحكم. ومن جيل الستينيات وحتى نظام الرئيس المخلوع تنوع الشكل قليلاً، لكن جوهر السلطة في مصر كما هو ــ الارتباط هنا بفترة الدراسة النقدية للنصوص، فطبيعة السلطة في مصر لم تتغير حتى الآن ــ فعبد الناصر وهزيمة يونيو/حزيران كانا مصدراً للكثير من الأعمال المسرحية، فوزي فهمي على سبيل المثال ــ وهو ابن تلك الفترة وممثل كبير لها ــ يرى أن تعديل أساليب ممارسة السلطة السياسية هو السبيل إلى مزيد من الحرية والعدالة، بينما يرى عصام عبد العزيز أن التنازل عن السلطة عند الفشل هو الأسلوب الأمثل للتغيير. لم يذكر أي من الكاتبين أي دور للشعب الذي تتفنن السلطة في ممارسة أمراضها عليه، فاللعب أيضاً من خلال الفئة أو الطبقة الحاكمة ورفاقها. لم يختلف عن ذلك نص عبد العزيز حمودة، فهو يحمل الشعب تبعات ظلم وفساد حكامه، من دون أي بادرة أمل تتأتى من ناحيته، المهلل والمصفق دوماً في مواكب النصر الزائفة. يخرج عن ذلك نص سامح عبد العزيز، الذي حاول أن يجعل لرجل من خارج طبقة الملوك دوراً في المواجهة، لم يأت هذا إلا من خلال الحكيم (آني)، الحكيم والمثقف والفيلسوف، وكل هذه الصفات، فالأمر يبتعد تماماً عن فكرة الجماهير، أو حتى شخص يمتلك وعياً من الجماهير، لكنه كان موفقاً في سرقة حورس للثورة، والقضاء على آني ومِن يلتفون حوله من الشعب، فقتله في ظل معاركه مع ست، واسترد السلطة على جثة آني والشعب، الذي أعاد أوزوريس للحكم وتحالف معه ضد قوى الشر.
توظيف الأسطورة في هذه النصوص يعكس وعياً من الكاتب بقضايا وطنه، ووجهة نظره التي قد نتفق أو نختلف معها، ولا نجد سوى عبارة لأدونيس قالها في إحدى محاضراته بأن المثقف العربي في الغالب موظف في الأصل.

----------------------------------------------------
المصدر :  محمد عبد الرحيم ـ القدس العربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق