مجلة الفنون المسرحية
المسرح العراقي بعيداً عن الالتزام قريباً من الارتزاق
وليد خالد احمد
هناك عدد من العروض المسرحية تجعلنا نتساءل: هل يعطي هذا الكم من الاعمال بالنسبة للعناصر البعيدة عن فهم حرفيات وأصوليات هذه الحرفة مؤشرات على نشاط مسرحي؟ وأين دور المؤسسات التربوية والاعلامية ذات العلاقة في التصدي لمثل هذا التوجه من الاعمال والارتزاق الفني المشوه؟
لنكن اكثر ايجابية في تقويم اوضاع حركتنا المسرحية ولنكن اكثر قسوة في ايجاد ضوابط تحفظ للمسرح وللمسرحيين وجههم المشرق. فلا يمكن ان يوجد فن في انفصال عن الحياة او حياة انسانية دون فن. ان منبع الفن وأساسه هو نزعة الانسان الى تمثل تجربته الحياتية واستنباط مفهومها ودلالتها القيمية وتثبيت هذا الاستنباط وتوصيله الى آخرين عن طريق استعادة التجربة استعادة حركية. وتتم استعادة التجربة وصياغتها حركياً على بعد زمني كافٍ يكفل قدراً من الموضوعية الشعورية والعقلانية بحيث يصبح الفرد في آن واحد عنصراً من عناصر التجربة ومشاهداً لنفسه عن بعد.
ان المسرح في حياتنا، مرآة نتلذذ في النظر اليها لرؤية انفسنا، ندقق النظر، ونمعن في التطلع.. التطلع الى اعماقنا داخل ادوار الممثلين، وفي تعابير وجوههم، وعبر حركاتهم وضحكاتهم ولحظات البؤس القنوط التي تكتنفهم. لهذا، فان المسرح سيبقى يعبر عن الحياة، يراقبها ويصوغها ويطرحها من جديد، ينظر الى الماضي ليتحدث عن الحاضر ويحرك صورة الحاضر ليطرح خيال المستقبل، وسيظل الخير والشر يتخاصمان فيه بهدف (التطهر) والانتقال بالحياة الانسانية الى حالة من الحالات الاسمى والوصول بالبشرية الى ما تشعر وتفكر بأنه الافضل.
وتأسيسا على هذا الفهم .. فالمسرح مدرسة المجتمع الثقافية ، فعلى خشبته تشرح القضايا الفكرية والاجتماعية والتربوية ، مهما تعددت طبيعة المعالجات التي تقدمها المدارس المسرحية ، يبقى الانسان جوهر الخطاب المسرحي الذي يتأثر ويؤثر بما حوله، ويتفاعل مع الظروف والاجواء السائدة في مجتمع ما. فان رسالة المسرح لا تقل في اهميتها عن دور اي تربوي مرشد، فهي الطابع الفعال في المجتمع. واذا كانت هناك انماط من المسرحيات الهزلية يعلقها اصحاب الفكر (الخرب) على شماعة الجمهور راغب بذلك!! فقد فاتهم ان للمسرح دور قيادي ورئيس في الارشاد والتوجيه وبث القيم الفاضلة في نفوس جمهوره واتحافه باعمال مسرحية تحثه على التفكير والفعل، تعالج مشاكله الحياتية باشكال يتوخى منها امكان اسعاد هذا الجمهور واستنهاضه وشحنه بطاقات الوعي السياسي المرتكز على فهم عميق للانسان ودوره الفاعل والخالق في الممارسة الثورية والانقلابية الاجتماعية.
الا اننا نجد ان عامة الجمهور مازالت تعتبر المسرح في وقتنا الحاضر، مكاناً يجتمع فيه الناس للهو والاستمتاع لكثرة المعروض من المسرحيات البائسة. غير انه قد غاب عنهم ان المسرح
شيء يختلف كثيراً بما يقدم من اعمال فنية وادبية هادفة، وانه مرآة للمجتمع وعاملاً مؤثراً من عوامل التطوير والتوجيه والنمو، لذا يجب ان يكون عاكساً صادقاً له لما يشهده من تطورات اجتماعية واقتصادية وسياسية باعتبار انه كان وما يزال مقياساً لحضارات الامم.
فمنذ بداية المسرح وهاجس مؤسسيه والمشرفين عليه معرفة ما يريده الجمهور وما يقبل عليه اكثر من غيره، واضعين في الاعتبار، ان للجمهور المسرحي دوراً كبيراً في المسرح. فالى جانب كونه المتلقي فهو شريك في العملية المسرحية، ويختلف عن المتلقى في باقي الالوان الادبية والفنية، في ان ردود فعله تكون فورية لحظة تقديم العرض المسرحي، ولتجاوبه وفعاليته دور كبير في نجاح العرض المسرحي.
ان المسرح في حياتنا مرآة نتلذذ في النظر اليها لرؤية انفسنا، ندقق النظر ونمعن في التطلع الى اعماقنا داخل ادوار الممثلين، وفي تعابير وجوههم وعبر حركاتهم وضحكاتهم ولحظات البؤس والقنوط التي تكتنفهم. لهذا فان المسرح سيبقى يعبر عن الحياة، يراقبها ويصوغها ويطرحها من جديد، ينظر الى الماضي ليتحدث عن الحاضر، ويحرك صورة الحاضر ليطرح حيال المستقبل. وسيظل الخير والشر يتخاصمان فيه بهدف التطهر والانتقال بالحياة الانسانية الى حالة اسمى والوصول بالبشرية الى ما تشعر وتفكر بأنه الافضل.
لكن المسرح عند فناني القطاع الخاص أصبح هدفاً ووظيفة محددة يسعى الى تحقيقها الا وهي اضحاك متفرجيه دونما اللجوء الى مناقشة قضايا المجتمع الميحيط بهم. فالمتفرج عقد اتفاقاً ضمنياً بينه وبين مسرحيات القطاع الخاص، على انه يدفع ثمن تذاكرها الباهضة في مقابل ان يحصل على تلك المتعة التي تجعله لا يفكر وهو جالس في مقعده في اية مشكلة تعكر صفو ليلته ومن ثم فلا بد من تحقيق شروط تلك الاتفاقية من خلال عرض نص مسرحي بسيط يكون سبباً لوقوف شخصيات المسرحية جنباً الى جنب لاضحاك هذا الجمهور.
ويستمر الحال هكذا الى ان تنتهي المسرحية وقد بلغ الانهاك كلاً من الممثل الذي قدر له ان ينتزع الضحكات من الجمهور وذلك الأخير المستمتع الذي انغمس بالضحك ولكن لم يرسخ في ذهنه سوى بعض الالفاظ والنكات التي يتفوه بها الممثل، وعند الوصول الى تلك النهاية يكون قد تم الايفاء بالعقد المتفق عليه بين مهمة مسرح القطاع الخاص ومتفرجيه.
هناك عدة تساؤلات نوجهها الى منتجي ومخرجي وفناني تلك الاعمال: هل انتهت قضايانا الاجتماعية فأصبحنا نلهث وراء مسرح فارغ لا يحمل في طياته اي مضامين عصرية تمس قضايانا والصراعات المؤلمة التي تحيط بنا من كل جانب والتي تحتاج الى جهود فكرية عنيدة تقهرها بالكلمة الصادقة التي تهذب اخلاقنا وترقى بطباعنا ومشاعرنا لكي نرتفع الى مستوى الاحداث؟
اننا اليوم في أشد الحاجة الى مستويات صادقة تخاطب وجداننا، مسرحيات تلقي الضوء على هموم الناس ومعاناتهم واحتياجاتهم لكي تفتح امامهم آفاقاً جديدة وخدمة ثقافية حقيقية. اننا نريد نهضة
فكرية تنهض بعقلية الناس وتنير لهم الطريق، نريد مسرحاً يدرك مهمته المزدوجة المتمثلة في ان يعلم ويحفز متفرجيه، مسرحاً لا يريح المتفرج او ينفس عليه كربته بل على العكس يقلق، يزيد المتفرج احتقاناً ، وفي المدى البعيد يهيئه لمباشرة تغيير القدر.
اننا نطالب المعنيين بشؤون المسرح- كّتاب ومنتجين ومخرجين وممثلين..- ان يساهموا في تربية اجيال قادمة تنشأ على القيم والمبادىء والولاء للارض والوطن. نطالبهم بصحوة الضمير الفكري والفني والبعد عن الزيف، آخذين بنظر الاعتبار ان التيارات الفكرية التي يصدرها او يأتي لنا بها البعض، هي اخطار تهدد قيمنا الاجتماعية وتراثنا الأصيل.
فعلينا ان نتكاتف ونرتفع الى مستوى الأمانة الادبية لكي نتصدى لكل ما هو مناف لقيمنا واخلاقنا.. اما ما عدا ذلك فهو مسألة تدخل في الحسابات والارقام والبعد عن الضمير الفني سعياً وراء المكاسب المادية ليس باضحاك الجمور بل بالضحك عليه وليس باسعاده بل بتزييف براءته.
ففي غمرة الدعوة الى النهوض بمستوى المسرح، نسي المتحمسون لها ان يفكروا في ابعادها الخقيقية، فراحوا يفسرونها طبقاً لمفهومهم الخاص حتى انها انطبعت في اذهان البعض على انها قد تعني الفوضى واللامبالاة والاستهانة بما رسخ في ضمير الانسان.
فاذا ما نظرنا الى المسرح الجاد نجده قاصراً عن ان يلبي حاجات جمهور متطلع بدأ يتربى منذ سنوات على المسرح المادي/ الربحي والدراما التلفزيونية البائسة، وهما ينافسان هذا المسرح بما يقدمانه من عروض جذابة في الوقت الذي لا يلتفت الى هذه الحقيقة المسرح الجاد ويلقي جزءاً من تقصيره على اكتاف غيره ويتغاضى عن مخزون الكوميديا الشعبية.
ان المسرح الجاد الآن على ندرة عروضه هو مسرح للمثقفين نوعاً ما، وهذا تقصير خطير اذ ينبغي ان ينتبه المشرفون عليه وكُتابه الى حقيقة انهم لا يستطيعون تقديم مسرحيات فئوية ترضي بعض الناس وليس كل الناس وانما مسرحيات عامة.
ان الحل الانسب لمعالجة هذه الازمة والنهوض بمسرحنا هو ان يتم اولاً رد الاعتبار للعمل المسرحي واعتباره من اهم المجالات التي تكون العقل الجماهيري وتكييف اتجاهاته الادبية والسياسية، وان يعلم الجميع ان مسيرة التنمية الاقتصادية لا يمكن ان تتم الا بمؤازرة التنمية الفكرية والفنية وهو الامر الذي يعتبر المسرح اكبر الواجهات المهيأة لذلك، ثم لابد من التفكير بحرية واتزان في وضعية المبدع المسرحي انطلاقاً من المؤلف ثم المخرج ثم الممثل ثم التقنيين.
تبقى هناك نقطة جوهرية هي اساس الموضوع/ الازمة، تتمثل في ان المسرح العراقي لم يصل بعد الى ما يجب ان يكون عليه المسرح الاحترافي، حيث مازال غير منظم ولا تحكمه أية قوانين او أسس او تخطيط. كما ان ثمة هم يواجهه ويحد من دوره يتمثل في الخوف من الكلمة الصادقة التي تكشف وتعري ولا تجامل ولا تداهن.
ان المسرح العراقي اليوم بحاجة الى اجواء صحية يستطيع ان يتنفس فيها حتى يكون مسرحاً خلاقاً. وانا هنا لا ادعو الى مسرح مثل ذلك المسرح الفوضوي التهريجي الذي يلوح بالشعارات ويحرض لمجرد التحريض وانما الى المسرح الملتزم الهادف، المسرح الذي يعرف جيداً رسالته وينطلق من واقع مدرك لحقيقة الدور الذي ينبغي ان يقوم به والمتمثل في توصيل الافكار الخلاقة الملتزمة عن طريق مخاطبة عقل المتلقي بكل طبقاته وفضح الوسائل المضطهدة للانسان وقيمه التاريخية والاجتماعية التي تعمل على استلابه وضياع حريته بطرق تعسفية لا انسانية، وحث العقول المتلقية من اجل اتخاذ موقف من المطروح السائد والعمل على تغيره نحو الافضل.
ان على مسرحنا اليوم ان يواكب كل التطورات والمتغيرات التي تطرأ على الواقعين السياسي والاجتماعي وان يعمل بدأب صادق في عرض بعض من مفاصل حياتنا اليومية ايجابية كانت ام سلبية، لأن المسرح الذي يكون الشعب اهم مجالاته ولا يؤدي هذه الرسالة، مسرح عديم الفائدة، وكل هذا يتطلب الكثير من العزائم القوية والنيات الحسنة حتى يمكن للمسرح ان يؤدي وظيفته الاجتماعية والتربوية والتكوينية التي خلق لها اصلاً.
------------------------------------------------
المصدر : كتابات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق