تصنيفات مسرحية

الثلاثاء، 7 مارس 2017

إيحاءات بيرانديلو في مسرحية "الملزمة"

مجلة الفنون المسرحية

إيحاءات بيرانديلو في مسرحية "الملزمة"


صباح هرمز 

موضوع الخيانة الزوجية ليس موضوعاً جديداً في الفنون الأدبية، وعلى وجه الخصوص في الفن المسرحي، فقد تناوله معظم الكتّاب في نصوصهم، ابتداءً من نشأة المسرح في عهد أسخيلوس وسوفوكليس ويوروبيدس، الى يومنا هذا. ولكن كل واحد منهم من منظوره الخاص وطريقته التي لا تشبه وتختلف بهذا القدر أو ذاك، عن منظور وطريقة غيره ممن تناولوا هذا الموضوع.
ومعاناة بيرانديلو مع زوجته المجنونة، تكاد أن تتطابق الى حد كبير مع معاناة ستندبرغ مع زيجاته، ولكن ليس لأنهن مجنونات كما هو حال (أنطونينا بورتولانو) زوجة بيرانديلو، وأنما لأنه هو بنفسه يعاني من حالات الاضطراب النفسية، وإذا كان ستندبرغ قد تصدّى للخيانة الزوجية في مسرحياته، البجعة واللعب بالنار، والأب وقوعاً تحت تأثير تقلبات الحياة التي عاشها معهن، فإن بيرانديلو يتعرض لها في هذه المسرحية وغيرها من المسرحيات وقوعاً تحت تأثير الطبيعة الشخصية التي سيطرت على التفكير الفلسفي في القرن العشرين. ولعلَّ ذلك مردّه الى أنه عاش السنين الطويلة حياةً مزدوجةً، عاش نفسه، وعاش النموذج المشوّه لنفسه في فكر زوجته. ومع بداية المسرحية تطفو هذه الشكوك على سطح الأحداث، ولكنها بدلاً من أن تدبّ في نفس الضحية الذي هو (أندريه) زوج (جوليا)، فإنها تعتمل دواخل صديق أندريه المحامي (أنطونيوسيرا) وعشيقته جوليا، خشية انكشاف أمرهما لأندريه أثناء انحناء أنطونيو  لتقبيلها والعواقب المحتملة جرّاء ذلك،  ولا يكشف المؤلف تحديداً، الفعل الذي كانا يمارسانه في تلك اللحظة إلا بعد مرور ست صفحات على بداية المسرحية، ومع هذا فإن المتلقّي وعبر الحوارات الجارية بين أنطونيو و جوليا يحدس بوقوع أمر ما من هذا القبيل، الأمر الذي دفعهما لإدخال بعض الطمأنينة الى نفسيهما ودحض الشك باليقين، استعادة  الأحداث العابرة التي مرّت بهما  أثناء هبوط أنطونيو  السلم الذي كان يتقدمه أندريه بخطوات، بينما كانت جوليا تنير لهما السبيل، حيث يخشى أنطونيو من أن يكون أندريه قد ألتفت خلفه لحظة تقبيله جوليا وشاهدهما متلبسين بالجرم المشهود، وعندما توبّخه ولايتلقى منها جواباً يشفي غليله، يسعى لاستنطاقها الى ما لاحظته أثناء ذلك، ولكنها لا تكترث الى سؤاله وينصب جل اهتمامها بمكان تواجد زوجها، وهو مثلها يتجاهل السؤال الذي طرحته ويعود ثانية الدخول في أدقِّ التفاصيل التي وقعت قبل وبعد الحادثة، أو كما لوكان كل واحد منهما يتحدث مع نفسه ولا يصغي الى حوار الآخر من شدة القلق والهواجس التي تنتابهما في تلك اللحظة، ولكن كما يبدو أن أنطونيو أكثر قلقاً وخوفاً من جوليا، ويتجلّى هذا في إصراره الزائد لمعرفة أدقِّ التفاصيل، أو لربّما وهو السبب الأرجح، تيقّنه من أن أندريه قد رصد حالتهما من خلال تكرار جملة (ألتفت وراءه وهو ينحدر السلم) لمرتين، بالإضافة الى قوله (لمحنا على أبعد تقدير لحظة خاطفة).
ومن جملة (أصمت وأهدأ بربك قل لي كل شيء. ماذا فعل؟ أود معرفة كل شيء). التي تنطقها جوليا تبدأ كلتا الشخصيتين أنطونيو وجوليا، بقراءة النموذج المشوّه الذي عاشاه في فكر أندريه. فأنطونيو يقرأه بالتعويل على المواضيع التي كان يثيرها أندريه بين فترة وأخرى عن قصد بهدف استشعاره بالعلاقة القائمة بينه وبين زوجته أو هكذا يتصور، كالقضية التي ينبغي معالجتها في المدينة، والنبرة الطبيعية التي ودّعه فيها في ضوء الشمعة والسلم، وحديثه عن ولديه اللذين غادرهما مستغرقين في النوم، ولكن ليس بتلك العاطفة المطمئنة، وتشخيص بصره إليه  أثناء حديثه عنها، وعدم نوم أنطونيو ليلتين أثناء نومه في غرفة الفندق مع أندريه خوفاً من مسّه بسوء.
أما جوليا فتقرأ النموذج المشوّه في فكر زوجها بالاعتماد على (اضطرارها الى إكراهه على حبها والتجاوب معه، لاعتقادها أن احترام الزوج وثقته وصداقته، هي في بعض اللحظات، شتائم موجهة الى الطبيعة)، بينما تقرأ الحياة التي عاشتها نفسها في (هروبها  معه من منزل والديها لأنها كانت تحبه) وهنا في هذا التناقض، بين حبها له من جهة وخيانتها من جهة أخرى، تكمن سر الحياة المزدوجة التي عاشته مع زوجها، فمن الطبيعي أذن إن هي تساءلت كما تساءل بيرانديلو، أيتهما هي النفس الحقيقية، وليولد هذا الصراع انحيازها الى أحد الجانبين، ولعلَّ حبها الكبير لولديها وعرفاناً للسعادة التي وفرها لها زوجها، آثرت أن تصارحه بخيانته بمعزل عن النتائج المترتبة عن هذا الاعتراف، وعندما لم تنفع كل الوسائل التي تستخدمها معه من أجل موافقته لتبقى بقرب ولديها وحتى جارية له، تطلب منه أن يقتلها الذي لا يتورع لأن يدعوها لتقتل هي نفسها بنفسها، لتهرع الى الغرفة بعد أن تقبل زوجها في وجهه، مغلقة الباب، ويُسمع طلق ناري. 
وانتحار جوليا لايحدث بشكل مفاجئ، وإنما يمهّد له المؤلف بصيغتين، تقترن الصيغة الأولى بالمباشرة والثانية تأتي عن طريق الإيحاء، متمثلة الأولى في الجملة التي تطلقها جوليا بوجه أنطونيو وهي تقول له (ولكنه أذا ما تردّد فأعرف كيف الخلاص)، ومتمثلة الثانية في الجمل الحوارية الدائرة بين جوليا وأنطونيو.
وهاتان الصيغتان يشتغل عليهما أيضاً في الحوارات الدائرة بين جوليا وزوجها في سعي من الأخير لإيصال حقيقة معرفته بالعلاقة التي ترتبط بينها وبين أنطونيو، وإذا كان في عملية الانتحار قد بدأ بصيغة المباشرة، فهو هنا يعكس الآية يبدأ بالإيحاء، شروعاً من إيفادها الصغيرين الى بيت والده، وهو بهذا يخبرها بخلو الجو لها ولعشيقها، ومروراً بمرافقة أنطونيو لهما في المدينة، لقراءة انفعالاتها ومدى استجابتها لهذا الخبر، وانتهاءً بثمّة أسباب عديدة، أي بالإضافة الى التسليات التي ستقدمها إليها المدينة، أنها ستجد فيها الحريّة الأكثر والأوسع.

---------------------------------------------

المصدر : جريدة المدى 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق