تصنيفات مسرحية

الأحد، 2 أبريل 2017

مجلة الفنون المسرحية

"العقل والعاطفة" لجاين أوستن في قالب كوميدي

جنى الحسن 

عندما كتبت الروائية الإنكليزية روايتها "العقل والعاطفة" عام 1811، نشرتها بهوية مجهولة موقّعة بـ"سيدة". وكان قد سبق لها أن نشرت بصفة مجهولة. وقد كان شائعاً في تلك الحقبة الزمنية أن تنشر الكاتبات باسم مستعار نظراً للقواعد الاجتماعية والعادات التي لم تكن تتقبل أن تنشر امرأة الأدب مقابل المال. كما أن أوستن دفعت ثمن نشر الكتاب وتوزيعه وكلّفها ما يقارب ثلث دخلها السنوي.

لكنّ الرواية، بعد قرابة قرنين من الزمن، ما زالت تطبع وتباع وتقتبس لإنتاجات تلفزيونية من أفلام ومسلسلات وإنتاجات مسرحية كذلك، كان آخرها ما عرض على مسرح "فولغر" في العاصمة الأميركية واشنطن على مدى شهر ونصف في بداية الأمر، من منتصف أيلول/سبتمبر حتى نهاية تشرين الأول/أكتوبر، وثمّ تمديد عرضها حتّى منتصف تشرين الثاني/نوفمبر نظراً للنجاح الذي حقّقته.

مسرح فولغر

ومسرح فولغر هو جزء من مكتبة "فولغر شكسبير" في الكابيتول هيل في واشنطن، وتضم هذه المكتبة أكبر مجموعة لأعمال شكسبير وكذلك من الكتب والمخطوطات والأعمال الفنية التي تعود إلى عصر النهضة الأوروبية والحركة ثقافية التي استمرت تقريبا من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر ميلادي. ويعرض المسرح دائماً أعمال شكسبير بإنتاج مختلف وأعمال كلاسيكية أخرى.

ومثّل المسرح بديكوره الفخم وطرازه الإليزابيثي مكاناً مثالياً للعرض المسرحي المقتبس عن عمل أوستن الأصلي من قبل الكاتبة المسرحية كيت هاميل ومن إخراج إريك تاكر. واستمر العرض على مدى ساعتين ونصف تقريباً مع استراحة لقرابة العشرين دقيقة.

عرض حيوي

ما الذي يمكن أن يقدّمه عرض مسرحي من جديد لعمل تمّ تداوله خلال مئات السنوات سواء من خلال الطبع أو حتى من خلال التلفزيون والسينما؟ هذا السؤال مشروع لمن يعتبر متابعاً لعمل أوستن ومطلعاً عليه وإن كان هذا لا يعني أبداً الانتقاص من أهمية إعادة تداول وابتكار الأعمال الأدبية الكلاسيكية بطابع فني متجدد. المسرحية لا تخذل المشاهد، بجميع الأحوال، سواءً الذي لا يعرف أوستن ولديه فضول تجاه أعمالها او حتى الذي يعرفها جيداً. فما يبرزه العرض بشكل رائع هو حسّ الفكاهة الذي تملكه أوستن في الكتابة والذي لم ينعكس عادةً في الأعمال التلفزيونية التي اقتبست عملها.

كما قُدّم العرض بحيوية كبيرة، أصفت إليه طابعاً معاصراً نوعاً ما، ولم تبدُ المسرحية كأنّها تحاول أن تكون الرواية على الرغم من حفاظها على نفس المضمون، بل بدت عملاً قائماً بحد ذاته. وتضمّنت عناصر فنية من موسيقى ورقص مليئة بالحيوية والحركة. وكانت مصممة الرقص للمسرحية ألكسندرا بيلر، أما مصممة الأزياء ماريا هيل.

وما أضفى الطابع المعاصر للعرض كان التقنية المتبعة في المسرح، كونه يدور مع تغير المَشاهد، وينتقل من ديكور إلى آخر ومن مكان إلى آخر عبر الدوران إلى الجهة الأخرى.


العقل والعاطفة

ما يجعل أي عمل أدبي يعيش لمدة طويلة هو كونه يطرح مسألة أو سؤالا إنسانيا لا ينتهي بانتهاء زمن معيّن ولا يحصر في إطار المكان، كالصراع بين الخير والشر، والصراعات الإنسانية الداخلية كافة، ومن ضمنها الصراع بين العقل والعاطفة أو حتى بين الكبرياء والهوى وهو ما تطرّقت إليه الكاتبة الإنكليزية في عمل آخر كذلك. وسؤال الاختيار بين العقل والعاطفة هو الذي طرحته أوستن في عملها من دون أن تعطي إجابة نهائية عنه، كون إجابة واضحة في هذا الإطار ليست بالضرورة متوفرة.

والرواية نفسها كتبتها أوستن في البداية على شكل رسائل لشقيقتها كاساندرا. وفي سياق القصة، يظهر الانقسام بين العقل والعاطفة بين الشقيقتين إلينور وماريان داشوود. وتمثّل إلينور، الشقيقة الأكبر، صفات العقل وضبط النفس والحس بالمسؤولية الاجتماعية والقلق على مصالح الآخرين، بينما تمثل الشقيقة الصغرى ماريان العاطفية بما تحمله من عفوية واندفاع وحماس وإخلاص وعدم القدرة على ضبط المشاعر. وقد نجحت المسرحية في تمثيل شخصية ماريان المتطرفة بشكل كوميدي. فالشخصيات التي تكتبها جاين أوستن عامّةً هي متطرفة بشكل أو بآخر، وهذه الشخصيات بسلوكها تضيف الطابع الكوميدي.

الانقسام كذلك في وقت كتابة الرواية لا يمكن إخراجه من السياق التاريخي في منعطف القرن الثامن عشر بين حركتين ثقافيتين هما الكلاسيكية والرومنسية. فشخصية إلينور تختزل الخصائص المرتبطة بالكلاسيكية من عقل وبصيرة وتوازن واعتدال، بينما ماريان تعكس الرومنسية بما فيها من خيال ومثالية. لكن الشخصيتين ليستا غير قابلتين للجدال، بمعنى أن ميل إلينور إلى العقل لا يعني فقدانها العاطفة وحساسية ماريان لا تجعلها عنيدة أو حمقاء ومتهورة طوال الوقت. هذا التناقض يعكسه الحوار المسرحي ويبدو أنّه يخلص إلى مزج الشخصيتين، كأنّهما تكتشفان معاً كيفية التعبير عن مشاعرهما بشكل كامل من دون الوقوع في الانفعالات والحساسيات الزائدة.  

تحاول إلينور أن تحذّر ماريان حين تقع في غرام رجل غير مناسب، في مجتمع تحكم فيه المراكز الاجتماعية والمال الحب. لكنها بدورها، تغرق في منع نفسها من الحب وتحاول أن تخفي خيبتها العاطفية حتّى من أقرب الناس إليها. وماذا يجب أن يفعل الإنسان إزاء الضغوط الاجتماعية، الخضوع لها كإلينور أو مواجهتها كماريان؟


المؤثرات البصرية والصوتية


عدا عن القصة، نقل العرض المسرحي المشاهد إلى المجتمع البريطاني منذ ما يقارب قرنين، وكيف كان التواصل الاجتماعي مبنياً على كتابة الرسائل وكيف كانت هناك معايير محدّدة وإتيكيت للسلوك الاجتماعي، سواء للفتيات أو للرجال، طريق الملابس والطعام وحتّى الإرث وقواعده. ففي البداية، حين يتوفى والد إلينور وماريان، يترك ثروته لابنه من زواجه السابق ولا يبقى لفتاتين سوى القليل. حتّى الرحلات عبر الغابات على ظهر الخيل والمشي طويلاً يحققها الإنتاج الفني للمسرحية من خلال المساعدين الذين يحملون أغصان الأشجار ويجعلونها تبدو كأنّها تتكسّر لمرور الأحصنة. وطبعاً لا خيول حقيقية على خشبة المسرح بل أشخاص يجلسون بالمقلوب ويرفعون الممثلين كما لو أنّهم على ظهر الحصان. والعرض غني جداً بالمؤثرات الصوتية والبصرية، ما أخرجه من إطار الرتابة والملل.

جاين أوستن


ولدت جاين أوستن عام 1977 في بلدة ستيفنتون في هامشاير، وعاشت هناك قرابة 25 عاماً. وقد كانت محظوظة كونها ابنة رجل مثقف حصل على منحة دراسية من جامعة سان جون في أوكسفورد وأصبح متعاقدا هناك. لهذا وجّه أبناءه باتجاه إكمال تعليمهم الجامعي وكثّف من الدروس الخصوصية لابنتيه. وكانت جاين شديدة التعلّق بشقيقتها كاساندرا التي كبرتها بثلاثة أعوام وكانت تراها أكثر حكمةً وأفضل منها. وعندما ذهبت كاساندرا إلى مدرسة داخلية، أصرّت جاين أن تشاركها المصير. واستمر الرابط القوي بين الشقيقتين مدى الحياة. وقد أظهرت جاين شغفها تجاه الكتابة وحازت القبول والإعجاب والتشجيع من قبل عائلتها. وليس من الواضح متى بدأت بكتابة القصص الكاملة لكنها كانت معجبة أيضاً بالمسرح وكانت ترسل نصوصاً من تأليفها لمسارح الهواة.


في فيلم عرض أنتج عام 2007 تحت عنوان "أن أصبح جاين"، سلّطت الأحداث الضوء على حب جاين لتوماس لفروي، وهو الرجل الذي احتفظت تجاهه بالود لفترة طويلة لكن لم تستطع أن تكون معه بسبب الظروف الاجتماعية. ويظهر الفيلم أنّ جاين للحظات كادت أن تغلّب عاطفتها على عقلها وتهرب مع الرجل الذي تحب، لكن لجمها عن ذلك شعورها بالمسؤولية ورؤية مدى حاجة عائلته إليه (والدته وإخوته) وعادت أدراجها.

لم تتزوج جاين أوستن بعدها، لكن لفروي تزوج ورزق بابنة أطلق عليها كذلك اسم جاين. لكن الفيلم حاز على انتقادات كونه لم يسلّط الضوء على شخصية جاين الفعلية وصوّرها بشكل امرأة عاشقة فحسب، وهذا ما لا يمكن التأكد منه قطعاً. في جميع الأحوال، أظهرت جاين أوستن من خلال كتاباتها شخصية امرأة شديدة الذكاء والحنكة والعمق. أظهرت كذلك قدرتها الهادئة على الفكاهة، وهذا ما تبلور في العرض المسرحي الأخير. وربما لو كانت جاين جالسة في مقعدٍ في الخلف بالمسرح، لصفّقت بين الجماهير في النهاية، وابتسمت، أو حتّى ضحكت بفرح ورضى. 

 ----------------------------------------------
المصدر : ضفة ثالثة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق