مجلة الفنون المسرحية
المفاهيم الطقسية في المسرح نحن مجانين ويائسون ومرضي
تأليف: توماس كرومبيز
ترجمة: أحمد عبد الفتاح
في كتابة »من الطقس إلي المسرح والعودة« عام 1974 حاول »ريتشارد شيشنر« أن يشرح الصور الحاسمة التي جعلت من الطقس شيئًا جذابا في عيون الفنانين في القرن العشرين. إذ رأي »شيشنر« أن »الفعالية Efficacy« هي السمة المميزة للطقس، وعلاقة المجتمع بالسماء المانحة للشفاء، أو الكفاءة الاجتماعية لطقوس مثل حفلات الزفاف وطقوس التحول التي تغير المكانة الاجتماعية لبعض المشاركين فيها.
وبعد أجيال فناني الطليعة الذين حاولوا إعادة اكتشاف الفعالية الأسطورية للطقس بشتي الطرق، ربما يمكننا الآن أن نطرح سؤال ما إذا كانت النزعة الطقسية ما تزال هي البديل المذهل لإعادة الاكتشاف المستمر للمسرح، فعرض مسرحي مثل الذي قدمه »جان فابر« في مهرجان أفينيون عام 2001، أو عرض »مائة واثنين وعشرين حركة« الذي قدمه »هيرمن نيتشي« في مسرح »بورج« الشهير في فينا عام 2005، قد ألقيا بشكوكهما علي مفهوم المسرح الطقسي باعتباره وسيلة نقدية لتقديم الحقائق الخفية أو المكبوتة في المجتمع.
فالنزعة الطقسية - بمعني الإخراج الفني للطقوس - أصبحت جزءًا لا يتجزأ من مجموعة من العروض المسرحية. ويري »رولاند بارث« أن الطليعة لا يمكن أبدًا أن تكون أسلوبًا للاحتفال بموت البرجوازي، لأن ذلك الموت مرتبط أيضا بالطبقة البرجوازية«.
وفي العروض التي قدمها »فاير« و»نيتش« تحولت أغنية البجعة البرجوازية إلي حشرجة موت الفرسان وعذاري القرابين. وبدأ التوجه النقدي - الذي تم تدشينه فعلا - في الانحدار تدريجيا إلي تدني طقس. ولكن التدني لا يمكن أن يظهر دون أن يكون مرتبطا بأكلاشيه واسع الانتشار. فقد أكذ هذان المخرجان أن النزعة الطقسية نفسها هي مقولة ذات إشكالية. وما الذي نفهمه بالضبط عندما نسمع كلمة (طقس) تقال في فنون الأداء.
ولسوف أبرهن أن هناك مفهوما رئيسيا للطقسية المسرحية يتم تفعيله حاليا، وأن هناك علي الأقل بديلين قابلين للتطوير، يمكن أن يوجدا في تاريخ المسرح والنظرية المسرحية في القرن العشرين. وربما يمكن الاصطلاح علي المفهوم السائد بأنه »الطقس الساخن HOT TITUAL« (المبني علي أساس التناظر الوظيفي في النظريات الاجتماعية الكلاسيكية التي تقوم علي دور الاحتفالات التي تتسم بالفوران في أصل الأخلاق - وعلي سبيل المثال أعمال »دوركهايم«. وسوف نطلق علي بديل المفهوم الأول »الطقس المعتدل Minimalist Ritual « ، والثاني »الطقس الديني Liturgical Ritual«.
ويقوم مفهوم »الطقس الساخن« علي أفكار معينة عند الطليعة التاريخية، وفقا لما هو مفهوم وممارس عند الطليعة بعد الحرب العالمية الثانية، أو الطليعة الجديدة.
وقد أثقل هذا الالتفاف التاريخي نظريات طليعة ما قبل الحرب العالمية الثانية الأصيلة. إذ استلهم الطقس الساخن (علي الأقل جزئيا) من كتابات »أنطونين أرتو«. ولكن هذه الكتابات لم تكن مقرؤة منذ الستينيات وحتي الآن في عروض كم هائل من مسرح ما بعد الحرب. وقد تضمن مسار الطقسية هذه ما يسمي »المسرح البدني« عند جماعات مثل »المسرح الحي«، و»جماعة الأداء« و»مختبر جروتوفسكي« وعدد كبير من تلاميذ ذلك المخرج البولندي. وسرعان ما قوي الظهور الفوري لفن الأداء البدني الذي قدمه كل من »إيفز كلاين« و»بوكو أونو« و»أتوميوله« و»هيرمان نيتش« و»ماريانا إبراموفيتش« و»كارولي شنيمان« وآخرين.
ورغم ذلك أدت تيارات جديدة في الموسيقي والفنون البصرية إلي فهم آخر مغاير للطقس. وهذا التيار الطقسي أسميه »الطقس المعتدل Mininalist Ritual« والذي تأصل في مجال التغير السريع. إذ تحول فنانون مثل »جون كاج« في الولايات المتحدة، و»جوزيف بيوز« و»بين فيتور« و»مارسيل بروذرس« في أوروبا، إلي مفهوم الأحداث الطقسية الأقل ارتباطا بالحشود والجماعات شبه الديونيسية. وقد كانت هذه الأحداث غير ذات العنوان والمناسبات تقوم علي ظواهر المصادفة والمواد المرتجلة والفكاهة بدرجة هادئة توصف غالبا بأنها مرتبطة بمفهوم التأمل في الطقوس البوذية. وأود أن أفحص هذه السمة الخاصة أكثر من خلال الأعمال النظرية للباحث الاجتماعي والفيلسوف الفرنسي »جورج باتاي« فمن المعروف أن »باتاي« هو الأكثر ارتباطا بمفهوم سخونة الطقس، مع أنني سوف أصل في النهاية إلي أنه كان الأقرب إلي المفهوم المعتدل في الطقس.
والمفهوم الثالث للطقس كان أقل أهمية، ولم ينجح في البقاء إلي اليوم، وقد تم تقديم هذا المفهوم من خلال العروض الحداثية ما بين الحربين، ويقوم علي الطقوس الكاثوليكية. ومن خلال اكتشافي للمفاهيم الطقسية البديلة، سوف يكون سؤالنا الاسترشادي هو »لماذا يبدو الطقس في فنون الأداء اليوم، بالطريقة التي نتوقع أن يبدو لنا عليها؟
وكنقطة انطلاق لوصف حضور الطقسية في كتابات »أنطونين أرتو«، لا يمكننا أن نتفادي أكثر مفاهيمه المسرحية اجتماعية، وهو »التطهير الجمعي« تحديدا. فالأصل في كتابات »أرتو« أن نظرية »مسرح القسوة« تنطوي أيضا علي مبدأ تطهيري. إذ تنبع ضرورة الإسقاط علي الشفاء من تشخيص النهاية الثقافية التي تقول إن الثقافة الغربية تضمحل بفعل الأزمة المعبر عنها في العبارة التالية: »نحن مجانين ويائسون ومرضي«. وفي هذا الشأن يمكن أن يوضع رأي »أرتو« داخل إطار السحر والإفتتان بالفلسفة الشرقية.
وفي مقال »المسرح والثقافة« الذي يتصدر كتاب »المسرح وقرينه« عام 1938، باعتباره مقدمة تمهيدية مبشرة، نجد أن أرتو قد أشار إلي هذه الأزمة بشكل غامض، إذ نتج الانقسام بين »الثقافة« و»الحياة« من طاقة سلبية لم تعد تجد صمام الأمان في الثقافة، ولكن تم التعبير عنه في جرائم مقصودة وزلازل وانفجارات بركانية وحوادث قطارات. وقد أشار »جوردال« إلي أن الحلول التي قدمها »أرتو« لهذه المشكلة لابد أنها كانت موجودة مع نظام العلاج الذي كان يتلقاه علي يد الدكتور »رينيه الليندي«، حيث كان لابد من مقاومة الشر بما يساويه، والذي هو في هذه الحالة »التعزيز المسرحي«: صهر كثافة الحدث المسرحي والممثل والمتلقي معا في وحدة واحدة تسمح للطاقة السلبية أن تمر من خلال أسلوب علاجي مؤثر.
لقد اهتم أرتو بالمسرح الجماعي Masstheater وبدأ في اتخاذ خطوات عديدة لتنظيم وإعداد مثل هذا الأداء، ولذلك فإن الصورة الجمعية للتطهير المنسوب إلي أرتو يجب أن تبرز. وأن يكون المسرح وسيلة للتطهير المتبادل، ومن أجل التهدئة الاجتماعية والسياسية وفي بعض مواضع كتابه »المسرح وقرينه« يقر أرتو المسرح العنيف باعتباره رادعا للجماهير. إذ يعترف »أرتو« بالمبدأ المثالي المتعلق بفاعلية المسرح، والتي هي وفقا لفريدريك »شيللر« يمكنها أن تترك انطباعًا عميقًا في المشاهدين.
وتأثرت صورة الأفكار السائدة عند »أرتو« بالطريقة التي نشروا بها هذه الأفكار بعد وفاته عام 1948. لكن أسطورة »أرتو« التي سبق قراءتها في كتاباته التي قدمها قبل الحرب العالمية الثانية، قد تطورت فعلا خلال السنوات الأخيرة. لقد صار أرتو العقدة المتعلقة بالطراز البدائي للنظام الاجتماعي في حد ذاته.
فقد صاغ في كتاباته المتفرقة مطلب تحرير الفرد من القيود التي فرضها عليه النظام الاجتماعي، كما أثرت فترة العلاج النفسي الطويلة، الذي كان يتلقاه، في فهم حياته وأعماله.
كما تلاءمت أسطورة »أرتو« بسهولة مع الطليعة الجديدة التي تطورت أعمالها بعد الحرب العالمية الثانية، وكان للثقافة المضادة - بعد الحرب - مصالح مشتركة مع أفكار »أرتو«، فاكتشفت الغموض، وظننت أن الأحلام والمخدرات والأنشطة التلقائية والتصادفية ينبغي أن تلهم الفن. وكان النقد القوي الذي وجهه أرتو للمجتمع الغربي هو المسئول الأول عن الجاذبية التي صادفتها أعماله عند رجال مسرح مثل »جيرزي جروتوفسكي« و»بيتر بروك« و»جوليان بيلك« وجوديث مالينا. وهذه الجاذبية عززت في المقابل فرضية أن العروض الطقسية فيما بعد الحرب كانت تجسيدا حقيقيا لنظريات أرتو. إذ صارت النزعة الطقسية مفهومة تدريجيا، مثل الحاجة إلي أحداث مسرحية جمعية وعلاجية حطمت النظام الاجتماعي القائم واستبدلته بتجربة مجتمعية صادقة ومكثفة. وبذلك تحقق مفهمومي الأزمة الاجتماعية والتطهير المنسوبين إلي أرتو من خلال ظهور المسرح البيئي والمسرح البدني من خلال مفهوم سخونة الطقس في فنون الأداء.
-----------------------------------------------------
المصدر : مسرحنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق