مجلة الفنون المسرحية
«براسكوفيا حرة» لفؤاد حسن: لماذا لا يُلامس المسرح جراحنا خلال الحرب؟
بديع منير صنيج
هل كان علينا أن ننتقل مسرحياً إلى الريف الروسي لنُعايش آلام الحرب العالمية الثانية بدل تلمُّس ملامح أوجاعنا المُستمرّة منذ ست سنوات؟ أم أن حشد القضايا التي عالجها «أثول فوغارد» في «مكان مع الخنازير» من الخوف إلى عقدة أوديب وقمع المجتمع، إلى المداورة بين الشخصي والمجتمعي، إلى العدالة والحرية السياسية… لا يُمكِن ضبط أوتارها الدرامية إلا على رتابة أصوات الخنازير و«قِباعِها» المُستمر طوال فترة عرض «براسكوفيا حرة» على خشبة مسرح الحمراء بتوقيع المخرج «فؤاد حسن»؟.
المُعادلة ليست كثيرة المجاهيل، فالطابع الإنساني الذي اشتغل عليه الكاتب الجنوب إفريقي يجعل من البساطة الشديدة إعداد العرض بنكهة سورية مُعاصرة، ليس على صعيد أسماء الشخصيات والأمكنة والأحداث فقط، وإنما إعادة تدوير زوايا الزَّمَن المسرحي لتُصبح شخصيتا «بافل.. أسامة جنيد» و«براسكوفيا.. لميس عباس» أقرب إلى الحدث المحلي السَّاخن وتداعياته الكثيرة، فحَرْفُ الجر «عن» الذي سَبَق اسم المسرحية الأصلي لفوغارد لا تتحمل وزر كل ما شاهدناه، وهو ما يدفعنا للتساؤل: لماذا لم يستطع مسرحنا أن يُلامس جراحنا من جرّاء الحرب بعد كل هذه السنوات؟ والموضوع تندرج ضمنه النصوص المحلية والمُعدّة عن نصوص عالمية، فأين تكمن المشكلة في إيجاد مُعادل موضوعي لآلامنا؟ مع العلم أن القصة لا تتوقَّف عند الإعداد، رغم أهميتها، بل تتعداه إلى معظم مفاصل العرض، إذ إن عشر سنوات قضاها «بافل» في زريبة الخنازير كان عليها أن تترك ندوبها العميقة في روحه، وسلوكه، وتعاطيه مع زوجته، وأخبار مجتمعه… ليس على صعيد الحوارات فقط، والجانب الخطابي الإنشائي الذي اعترى معظم كلام الشخصية المُحاصَرة بخوفها، إذ كان بالإمكان تثوير أفعالها على الخشبة، وتوتير خطابها الحركي، إن صح التعبير، وليس البقاء على وتيرة واحدة ومستوىً منخفض من طبقات الفعل المسرحي، فحتى اللحظات الحاسمة من عمر العرض، والتي يُقرِّر فيها «بافل» الخروج إلى الناس والكشف عن حقيقة عدم استشهاده مُتحدِّياً كل الاحتمالات، كانت في الحد الأدنى من كثافة الروح، وبلا أي إقناع بأن ما ستقوم به الشخصية سيقلب طاولة الواقع ويُهشِّمها تهشيماً، فالحاصل على الوسام الأعلى للجندية ما هو إلا فارّ من وجه استحقاقاته الوطنية، بعد غيبوبة لمدة شهر في البداية، ثم خوف مستوطن في داخله أسكنه عقداً من الزمن بجوار الخنازير، بمعنى أن موهبة «أسامة جنيد» العالية كانت بحاجة إلى استفزاز إخراجي من نوع آخر، إذ إنه تمكَّن خلال خمسة وأربعين دقيقة من عمر العرض أن يُقدِّم ذاته كممثل شغوف، وهو ما لا يستطيع فعله الكثير من المحترفين، لكن تبديد طاقته بالكلام حال دون إبراز مكانته المميزة على الخشبة.
القذارة المُفترضة في الزريبة أخذت أيضاً منحى مغايراً، فبدل روث الحيوانات كانت الخشبة مليئة بالحبال الجميلة، والقش النظيف، والأخشاب المُقطَّعة بعناية، وجرار الماء، وموقد النار (تصميم الديكور: ريم الخطيب)، ورغم أن السور الخشبي الذي يفصل تخت «بافل» عن مكان الخنازير أحالنا إلى مستويين من الوساخة، وكأنه الحد الفاصل بين حيونة الإنسان وإنسانيته الرفيعة، لكن التمرغ بالقش، أو النظافة البادية على ملامح الجندي الهارب، واستحمامه في بداية العرض، أحال إلى تعوُّد وعدم انزعاج من السَّكن في زريبة، كما أن أناقة السينوغرافيا ديكوراً وإضاءة (صممها بسام حميد) أدّت عكس المطلوب منها تماماً، فتخيَّلوا لو تم استبدال القش بالوحل مثلاً، ولو استُغِلَّ ذلك في تمريغ ملابس بافل الرمادية بتلك القذارات، على جمالية إيحاءاتها عن شخصية تائهة في مواقفها (تصميم الملابس: مارال ديراكيليان)، أو لو تم تخليص العرض من خطابيته المُتعالية بلغة عامية تُحيل إلى غوص أعمق في عوالم الشخصيات، مع التَّركيز على «كونيَّتِها» التي اشتغل عليها «فوغارد» في معظم أعماله المسرحية، بدل سجنِها في قوالب جامدة توحي بها اللغة الفصحى، خاصةً في ظل عدم القدرة على التحرر من قرابة شخصيات العرض مع نظيراتها في الأعمال التاريخية، وقلة الاهتمام بفصاحة الأداء المسرحي والأسلوبية الإخراجية، فالتنازع لدى «بافل» بين الخوف من المواجهة والإقدام عليها في بعض الأحيان، ولدى «براسكوفيا» من مسايرته في «حياة الحظيرة» من جهة وحياة الخارج وأخباره عن «الشهيد المُفترض»، كان ينبغي أن يُحقِّق توتراً عالي المستوى، لكن الرُّكون إلى التقليدي، وعدم الرغبة في التحرر الأسلوبي من الأنماط الجاهزة، دفع بالعرض إلى جماليات مشهدية شكلية، لم يزد عليها شيئاً الرُّهاب من القاضي العسكري (خوشناف ظاظا) ببدلته الجاثمة في وسط الحظيرة وكأنها الحاضر الغائب في ضمير «بافل» المُعذَّب، ولا تلك الفراشة التي تشير إلى خلاص الرُّوح كما أرادها المخرج في كلمته على بروشور العرض مُستخدماً تقنية المسرح الأسود، أضف أن التركيز على التشيللو في الموسيقا التي ألَّفها حسام الدين بريمو عزَّزت غُربة العرض عن مَحليَّته، وكأن كل ما يحصل لا علاقة لنا به، كما أن استلام الزوجة لوسام النَّصر ما كان ليُحقِّق حضوره الطَّاغي على ملابس زوجها، لولا أنه بات على صدر جثّة، بعد أن انتحر «بافل»، مُفضِّلاً الحفاظ على اسمه شهيداً، مُحرِّراً «براسكوفيا» من كل ارتباطاتها بالخوف ضمن مُحاولة للدفاع عن إنسانية الإنسان بعيداً عن التباس سيرورة حياته مع حيوانات تقتات من قذاراتها بلا أدنى إحساس بالغرابة.
----------------------------------------------
المصدر : جريدة تشرين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق