مجلة الفنون المسرحية
صدور مسرحية «الطريق إلى قانا» لجلال خوري منارة المسرح اللبناني
*د. فَرهاد رجبي
صدور مسرحية «الطريق إلى قانا» لجلال خوري منارة المسرح اللبناني
صدرت أخيراً في إيران الترجمة الفارسية لمسرحية «الطريق إلى قانا». يُعتبر جلال خوري من الكتّاب الذين يركّزون في مسرحياتهم على البنى الفكرية ويحاول إلقاء الضوء على هذه البنى مع التركيز على الحوار والمنطق
المسرحية «الطريق إلى قانا» للمخرج والكاتب المسرحي اللبناني جلال خوري )، ترجمتها الدكتورة فاطمة برجكاني الحائزة دكتوراه في المسرح من «معهد الدراسات المسرحية والسمعية المرئية والسينمائية» في «جامعة القديس يوسف» ودكتوراه في اللغة العربية وآدابها من «جامعة بيروت العربية».
صدرت الترجمة عن «دار نشر طنين» في طهران بعنوان «راهِ قانا».
تظهر أهمّيّة عمل المترجِمة في أوجه عدة، أوّلها أنّ الناطقين باللغة الفارسية يكتشفون الأفكار القيّمة لكاتب قدير في مجال النصّ المسرحي، ويتعرّفون إلى التجربة المميّزة الموجودة في المسرح العربي. وكون المسرحية باللغة العربية العامية بمعظمها، إلى جانب اللغة الفصحى، فذلك يزيد من أهميّة جهود المترجمة.
لهذه الأسباب، وتقديراً لخالق الأثر المسرحي هذا وجهود الترجمة، نحاول كتابة أسطر عن العمل مع التأكيد على الأسس الدلالية للمسرحية.
العقل الانساني هو الذي يكشف عن خفايا الأمور محاولاً إظهار الحقيقة. ويتّخذ العقل لذلك وسائل مختلفة كتحكيم المنطق وطريق الحوار المجدي. يبدو أنّ مسرحية «الطريق إلى قانا» في أحد وجوهها تُعتبر مشهداً نرى فيه صراع العقل للوصول إلى الحقيقة. من جانب آخر، يمكن دراسة هذا الأثر من زاوية البعد المعرفي الإبستمولوجي، من أجل الحصول على نظرية ماهيّة المعرفة وطرق الوصول إليها من مسير الفلسفة، التي تنسجم مع حوارات هذا العمل المسرحي.
يُعتبر جلال خوري من الكتّاب الذين يركّزون في مسرحياتهم على البنى الفكرية. يحاول إلقاء الضوء على هذه البنى مع التركيز على الحوار والمنطق. والأمر الآخَر الذي يدفعنا إلى التأمّل هو أنّ الكاتب يأخذ الإحساس في الاعتبار إلى جانب الفكر. وهكذا يستوحي الكاتب من الواقع والمشاعر الإنسانية، ويستفيد في الوقت نفسه من الإمكانيات الفكاهية والنظرة الفلسفية والصوفية، ليجعل من مسرحيته مشهداً لبلورة الأفكار الإنسانية المتعالية.
من الميزات البارزة في هذا النصّ المزج بين ثقافات مختلفة، حيث تلتقي الحضارات الغربية والهندية والشرق أوسطية التي هي مناطق بعيدة عن بعضها جغرافياً، وتجد هذه الحضارات الثلاث فرصة الحوار من خلال النصّ.
إنّ «الرجل الأوّل» هو شخصية جاهدة من أجل الوصول إلى حقيقة الأشياء والتاريخ. والشخصية الثانية هي رجل من رواسب الأزمنة البعيدة، يحمل إرث التجربة الإنسانية على مرّ الأزمنة. أمّا الشخصية الثالثة «نانسي»، فهي قسّيسة أميركية تنتمي إلى الإنجيليين المحافظين، إلى جانب الشخصية الرابعة (براديب) أي زوج نانسي من أصل هندي الذي يظهر في صراع مع زوجته في سبيل بلوغ الحقيقة. تحدث الوقائع في الفترة المعاصرة في جنوب لبنان، إلا أنّ الخليط الزمني والجغرافي من المكوّنات الرئيسية للأحداث والشخصيات في المسرحية.
كما أنّ الشخصيّتين الرئيسيتين في المسرحية لا تحملان اسماً لتكونا ممثلَين للإنسان المطلق من دون أيّ حدود يرسمها اسم معيّن أو ثقافة معيّنة.
يُعتبر الوصول إلى الحقيقة أهمّ رسالة للأديان السماوية والبشرية عبر التاريخ، وحاول كلّ منها تحديد مسار يوصله إليها. وبطبيعة الحال، يؤمن أصحاب كلّ دين، بأنّهم على الطريق الأصحّ، مستلهمين في ذلك ما تلقّوه من تعاليم دينية. ومن الممكن إيجاد تحوّل في هذه المسيرة بمرور الزمن أو بناء على التفسيرات المتعدّدة. يدرك خوري هذه الحقيقة بشكل دقيق ويحاول في الحوار بين الرجلين أن يضع مبدأ التعرّف إلى الحقيقة ليس على أساس كلام الآخرين أو نقل أفكارهم المتناسب مع افتراضاتهم المسبقة، بل على أساس التلقّي الداخلي لكلّ إنسان.
في سبيل محاولات الوصول إلى الحقيقة، يمكن اعتبار عنصرَي الزمان والمكان في المسرحية من العناصر الرئيسة التي تأخذ أبعاداً فلسفية. الزمن يُعتبر ظاهرة واحدة، ومن غير الصحيح تقسيمه إلى الجديد والقديم: «الجديد يا معلمي عتيق ولو ظاهر وبريق».
كما أنّ من الميزات الأخرى البارزة في ما يتعلّق بمقولة الزمان، هو التشابك العجيب بين الأحداث التاريخية الأسطورية (كمنشأ المسيح والدور التاريخي لقانا) والتيّارات العالمية المعاصرة كسيطرة الإنجيليين المحافظين والقضية الفلسطينية والحروب والصراعات المعاصرة و.... إضافة إلى ذلك، يحاول المؤلِّف أن ينظر إلى عنصر المكان بشكل مطلق، لذلك لا يقيّد نفسه بتسمية الأماكن: «هالمطرح إطار... (يبحث في كلامه) رؤبة أسرار، كل واحد بيلاقي فيه الّي جايبو معو».
نستنتج من خلال البناء الدلالي العميق للمسرحية أنّ جلال خوري بإدراكه العميق لأهمّ الهواجس والتحديات الإنسانية، يعتبر معرفة الحقيقة وكيفية الحصول عليها أبرز محاولة فطرية للإنسان، الأمر الذي يشغل بال البشرية في الماضي والحاضر. هذه المحاولات وإن ظهرت بأشكال وأساليب مختلفة، إلاّ أنّها مشتركة في أنّها تشغل ذهن الإنسان الباحث عن الحقيقة.
فهنيئاً للقرّاء الإيرانيين بقراءتهم الممتعة لترجمة هذا العمل المسرحي، خاصّة أنّها جاءت مرفقة بالنصّ العربي للمسرحية، ممّا يزيد فرصة العمل العلمي الأكاديمي للمتخصّصين وفقاً للغتين العربية (الفصحى والعامية اللبنانية) والفارسية.
* أستاذ مشارك في «جامعة گیلان» (إيران)
---------------------------------------------------
المصدر : الأخبار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق