مجلة الفنون المسرحية
كيف نكتب للطفل العربي
كيف نكتب للطفل العربي
عايدي علي جمعة - الجديد
تبدو الخطورة الكبيرة لمرحلة الطفولة وأثرها الكبير على الإنسان بعد ذلك في مراحل حياته المختلفة. وقد كان للاكتشافات الكبيرة لعلم النفس دور كبير في معرفة هذه الحقيقة. ومن هنا تبدو العناية بالطفولة. ومن مظاهر هذه العناية بمرحلة الطفولة الاهتمام بالكتابة للأطفال. فوجدنا اتجاها عالميا واضحا يتوجّه للأطفال. ولم يكن وطننا العربي ببعيد عن هذا التوجه. فظهر كتّاب كبار كرّسوا جانبا مهما وحقيقيا من إبداعهم لمخاطبة هذه الفئة العمرية إيمانا منهم بأحقيّتها في الفهم ووجودها الحقيقي على خريطة الحياة. ومن ثم يثار السؤال ذو الأهمية الفائقة وهو ماذا نكتب وكيف نكتب للطفل العربي؟
وهنا من المهم لمن يتصدى للإجابة على هذا السؤال أن يضع باعتباره ضرورة أن تكرّس الكتابة للطفل نفسها لكلّ ما يمكن أن يساهم بطريقة فعالة في تحرير الطفل العربي من القيود الحديدية للعلاقات المكبّلة والمنتهكة لحقوق الإنسان.
ولذا يجب النظر إلى طبيعة المشاكل المهيمنة في الدول العربية بصورة عامة وفي كل بيئة عربية بصورة خاصة. تلك المشاكل التي تكشف بالأساس عن حالات قهر بصورة أو بأخرى للإنسان العربي، لأن أطفال اليوم هم رجال الغد.
وهنا نستطيع أن نستشهد بتحليل مفكر تونسي هو الدكتور عبدالوهاب بوحديبة في كتابه “المتخيل المغاربي” (1994)، لقصة من قصص الأطفال التي كانت منتشرة في تونس، حيث تحكي هذه القصة -وهي قصة كانت منتشرة أيضا في ريف مصرـ عن ماعز تركت أولادها وأغلقت الباب عليهم وذهبت للسوق بعد أن أوصتهم بالحرص الشديد من فتح الباب لأحد، لأن الثعلب المكار سيلتهمهم إذا فعلوا ذلك. ولكن الثعلب المكار جاء وقلّد صوت الأم وطلب منهم فتح الباب ففتحوه وهم يظنّونه أمهم فأكلهم. وحينما عرفت الأم ذهبت إليه تحت الشجرة ووضعت قرونها في بطنه واستخرجت الأطفال منه.
يرى الدكتور عبدالوهاب بوحديبة أن القرون للأم هنا هي المعادل التعويضي لرمز الرجولة عند الرجل وضرب هذه القرون في بطن الثعلب/الرجل هو اعتراض من الأمّ التونسية على قهر الرجل التونسي لها، فكانت النتيجة السعي الحثيث في تونس من أجل مساواة المرأة بالرجل. لأن الأطفال الذين تشربوا هذه الحكاية منذ الصغر ما لبثوا أن أصبحوا كبارا فاعلين في المجتمع ولهم كلمتهم.
ولذا يحسن في الكتابة للطفل العربي الاهتمام بالعلاقات الإشكالية الموجودة في المجتمع. وهذا الاهتمام يكون من وجهة نظر ثائرة وناقدة لكل ما هو مكرّس للقهر.
ويرى الدكتور مجدي يوسف في محاضرة له بعنوان “قصص الأطفال العرب في عصر هيمنة ديزني” وهي المحاضرة الافتتاحية في “مؤتمر أدب الأطفال في العالم” بجامعة ريجينسي بورج بألمانيا في عام 1996 أن الطفل العربي كان متفاعلا بشكل إيجابي كبير مع ما يقدم له من موضوعات وقصص كانت الأمهات تحكيها للأطفال مباشرة. ولكن ظهور التلفزيون الذي جاء بثقافة ديزني حول استقبال الطفل من استقبال إيجابي متفاعل للقصص التي ترويها الأمهات والعمات والجدات إلى استقبال سالب لها على الشاشة. وبدا طرزان رمز الرجل الأبيض هو النموذج للبطل المخلّص، فانبهر الأطفال بهذا النموذج.
ويليق بالكتابة للأطفال في الأساس احترام الطفل، لأن الطفل قليل التجارب. وهذه التجارب التي يتمتع بها الكبار ويتيهون بها على الأطفال هي أحجار تقيّد فتنة الدهشة و التجريب للعالم الموجودة بقوة في نفس الطفل. والفنان الحق هو الذي يبذل كل طاقته من أجل أن يرى العالم كطفل.
وهنا فإن الحوار التفاعلي الخلاق مع الأطفال هو الأساس في أيّ كتابة لهم. ومن خلال هذا الحوار التفاعلي الخلاق تبث قيم التسامح وحب العدالة والحفاظ على البيئة والنظرة العلمية للكون وحب الوطن والعمل الدؤوب واحترام الآخر. وهذه عملية تحتاج أن يتشرّبها الأطفال من تصرّفات الكبار، وليس من كلامهم.
وتحسن ملاحظة أن لغة القمع والقهر للأطفال تأتي بنتيجة عكسية. فقد رأيت طفلا يحبس عصفورا في قفص وحينما يقال له “أطلق العصفور من القفص” كان يرفض تماما. وحينما قيل له “أتحب أن تُحبس في حجرة ولا تخرج أبدا” قال لا. ثم أطلق العصفور على الفور. ومن هنا فإن مسألة الإقناع للطفل تبدو ذات أهمية كبيرة.
ويحدث الإقناع من خلال اللغة التي تتم مخاطبة الطفل بها. وهنا يبدو مهمّا بذل الجهد الفائق من كلّ كاتب للطفل كي يكتشف اللغة التواصلية مع الأطفال الذين يتوجّه لهم بالكتابة.
وتبقى مسألة الشكل الكتابي الذي يجب تقديمه للطفل، لأن هذا الشكل في غاية الأهمية. وهنا تظهر مسألة التصوير الفني لما يقدم للطفل، أو الكتابة الفنية. ومن الملاحظ أن اعتماد الكتابة على قصة سردية مكتملة له جانب كبير من شحذ عملية الفهم لدى الطفل. وهذه القصة السردية المكتملة قد تكون في قالب قصصي أو قالب مسرحي أو قالب شعري أو غير ذلك من فنون الأدب، مع نصب فخاخ من الأسئلة الشاحذة على إعمال الطفل لعقله.
ويجب أن نعترف بأن ما يوجّه للطفل من كتابة هو من صنع الكبار. وهنا تظهر إشكالية حقيقية وهي أن الطفل لا يكتب للطفل وإنما الكبير هو الذي يكتب للطفل.
ومن هنا فإن كتابة الكبير للطفل يكون منظورها المهيمن هو تهيئة الطفل ليكون رجل المستقبل. وهذا المستقبل هو تصوّر الكبير له في لحظة الكتابة، وليس الواقع أو تصوّر الطفل.
كما أن التركيز الكبير على تهيئة الطفل للمستقبل تجعل قيم الكبار وتصوّراتهم هي المهيمنة في الكتابة، والنتيجة هي جعل حلقة الطفولة حلقة في السلسلة العمرية للإنسان. فيغيب الانغماس التام في مرحلة الطفولة ذاتها.
ترى هل يسمح الكبار بمنح الفرصة كاملة للأطفال لكي يكتبوا هم كتابتهم؟ وكي يخرجوا ما في نفوسهم على الورق؟
سيظهر رأي يقول بأن الطفل عاجز عن الكتابة ولكن مواجهة هذا الرأي تتحدد من خلال عمليات التسجيل الأمين لأفكار الأطفال ورؤيتهم للعالم.
ففي جانب الرسم مثلا نجد خيال الطفل يسجل انطلاقا فنيا فائقا، ولكنه يقمع من التقاليد التي يتمسك بها الكبار.
وهنا نقترح بأن تظهر إلى النور مؤسسات مهمتها مراقبة الأطفال من بعيد وتسجيل أفكارهم ورؤاهم عن العالم.
وقد رأيت طفلا في القرية كان يتحدث عن أبيه الذي يملك طائرات كثيرة في الدور الثاني من بيته، وقد صدّقه الأطفال وكل طفل يتقرّب إليه كي يركب معه في الطائرة ويمر بها على الحقول. ولو تم تسجيل الحوارات التي دارت حول ما قاله هذا الطفل لكانت لدينا قصة مكتملة ومشوقة، تكشف عن رؤية هؤلاء الأطفال للعالم.
ولكن ستظهر إشكالية حقيقية في هذا الجانب، وهي ما مدى حضور الجانب الأخلاقي في عمليات التسجيل والمراقبة دون أخذ إذن من نقوم بالتسجيل لهم ومراقبتهم؟
فلو أخذنا رأيهم في التسجيل والمراقبة فإن مرحلتهم العمرية لا تجعل من هذا الرأي فيصلا نهائيا في الموضوع.
ويجب الاهتمام بوجود رقابة هادفة على ما يقدّم للأطفال من برامج. فقد لوحظ في الكتابات التي تتحول إلى برامج للأطفال في عالمنا العربي حضور العنف والدمار بصورة فائقة تجعل المهتمّين بالأطفال في غاية القلق من هذه الكتابات المتحولة إلى برامج. لأنها تبث قيم العنف الشديد في نفوس بريئة، وهذا البثّ لا يستطيع الطفل التخلص منه بسهولة حتى بعدما ينضج ويكبر فتكون النتيجة ما نشاهده في عالمنا من عنف غير مبرر.
وفي النهاية يحسن لدى من يكتبون للأطفال -من وجهة نظري- عدم التكيف مع النظام القيمي السائد حتى ندع للأطفال فرصة التجريب إلى أقصى درجة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق