مجلة الفنون المسرحية
العرض الإماراتي «إسكوريال»... كل زائف إلى زوال
يسري حسان - الحياة تجريبي
العرض الإماراتي «إسكوريال»... كل زائف إلى زوال
يدخل الجمهور قاعة المسرح على وقع أصوات تصدر من علب مياه غازية فارغة يدهسها بأقدامه، حتى ليظن أن عمال المسرح أهملوا تنظيفه، لكنه يكتشف بعدها مباشرة أنه متورط في العرض. فهذه البقايا هي جزء من العرض.
هناك بقايا أيضاً فوق الخشبة، بل إن كل ما فوقها بقايا. البشر والديكورات والأكسسوارات، ليسوا أكثر من بقايا. علب صفيح وأقمشة ممزقة، وعبوات بلاستيك، وممثلان يواصلان تمزيق أقمشة بالية ثم يقتسمان «كرسي العرش» الذي صمّم ليسع اثنين يجلسان كل منهما ظهره للآخر، ويلقيان في الهواء بما معهما من أوراق اللعب (كوتشينة)، الأول، وهو الملك، ملابسه على هيئة إحدى أوراق اللعب «الشايب» والثاني على هيئة «الجوكر»، وهو مفتاح أولي للتعامل مع العرض.
هذه هي الأجواء الافتتاحية لعرض «إسكوريال» الذي قدمته فرقة مسرح الشارقة الوطني أخيراً، في قاعة «متروبول» في القاهرة، على هامش الدورة العاشرة للمهرجان القومي للمسرح المصري. حضر المسرح الإماراتي كضيف شرف، وهي المرة الأولى التي يعتمد فيها المهرجان هذه الفكرة، ربما لما تشهده دولة الإمارات العربية المتحدة، خصوصاً الشارقة، من حراك مسرحي، جعلها حاضرة بقوة في مهرجانات المسرح العربية.
يلامس العرض، الذي كتب نصَّه البلجيكي ميشال دي غلدرود، مسرح القسوة. نحن أمام بلاد متهالكة، ورأس الدولة يرتدي ملابس بالية، ويعيش في أجواء كابوسية داخل قصره التعس. يزعجه نباح الكلاب، فيأمر بقتلها. كما تزعجه أجراس الكنائس، فيأمر بمنعها، في إشارة إلى رفضه فكرة الدين، أو ربما لأن قرع الأجراس يذكره بما ارتكبه من شرور في حق البشر، وهو ما لا نتبيّنه في البداية. لا تاريخ للشخصية يتيحه لنا العرض في بداياته. بل علينا معاينة ذلك التاريخ من تلك الكلمات التي تصدر عن الحاكم، وهي قليلة، أو عن أفعاله التي تعكس شخصية قاسية دموية تعيش في متحفها.
تكمن صعوبة تلقي العرض في ذلك التعسر الدرامي الذي يستمر فترة من الوقت، فمَن لم يقرأ النص لا يشعر بأن شيئاً يحدث أمامه. مجرد أفعال عشوائية باهتة الدلالة في غالبيتها وأقوال لا تفضي إلى شيء، ولا تفصح عن شيء يمكن إمساكه والبناء عليه، بخاصة تلك المونولوغات المطولة للملك. غير أن المخرج (حمد سمبيج) تدارك الأمر في النصف الثاني من العرض، وبدأ الإفصاح أكثر عن ملامح الشخصيات.
في النص الأصلي أربع شخصيات، ملك وكاهن ومهرج ورسَّام، لكن المخرج اكتفى بممثلين فقط، عبدالله مسعود (الملك) ورائد الدلالاتي (الجوكر) الذي أدى دور الشخصيات الأخرى. وهو اختزال ربما له سبب درامي مؤداه هو ذلك الانفصال التام بين الملك وبين من يحيطون به، ويمارس عليهم قسوته، فما هم سوى شخص واحد، وإن تعددت مهماتهم ووظائفهم. جميهم مقهورون ومعذبون تحت وطأة عنف الملك وقسوته. غير أن شخصية الجوكر كانت تتطلب من الدلالاتي مزيداً من الجهد ليكون أكثر إقناعاً بقدراته كممثل، خصوصاً أن انتقاله من شخصية إلى أخرى لم يشهد تحولاً ملحوظاً في طريقة الأداء، وإن ظلت سمة المقهور هي الغالبة.
لسنا أمام دراما تقليدية نتابعها بارتياح، مستشرفين أحداثها. النص نفسه صعب ولا يحفل كاتبه كثيراً بكيفية تقديمه على المسرح، وتلك صعوبة يواجهها كل من يقدم على إخراج هذا النص الذي يتطلب وعياً بمغزاه الأخلاقي، ويستطيع إحكام قبضته على ذلك العالم المتشظي شبه العشوائي، في الممارسات والأجواء التي تجري فيها الأحداث. وهو ما نجح فيه المخرج بخاصة في النصف الثاني الذي جاء أكثر تماسكاً، وأكثر إفصاحاً عن طبيعة الشخصيات، وكذلك أكثر قدرة على إيصال المغزى والدلالة.
الحاكم ليس مشغولاً سوى بممارسة دمويته وقسوته، أعمدة قصره من بقايا علب الصفيح، ما يشير إلى التهاوي. والصولجان كذلك من بقايا الزجاجات البلاستيكية الفارغة ما يشير إلى الزيف، أنت في عالم كل ما فيه مجرد بقايا وقاذورات إنسانية.
يتألم الملك ويتعجب من ألمه، غير مدرك ما ارتكبه من شرور تجاه البشر، وفي لحظة كشف إحدى مآسيه يتبادل الأدوار مع المهرج، لنكتشف أن علاقة ما ربطت بين المهرج وبين الملكة التي لجأت إليه هرباً من قسوة زوجها الذي لا يبالي حتى بموتها وكأنه ارتاح لتخلّصه من إزعاجها.
الصراع في غالبيته يدور بين الملك والمهرج الذي اختطف التاج وألقى به بعيداً في إشـارة إلى عدم قيمته، فالأمر ليس في التاج ولكن في من يضعه فوق رأسه.
اختار ميشال دي غلدرود «إسكوريال» عنواناً لنصه، والمعروف أن إسكوريال هو أحد أشهر المتاحف الإسبانية أقامه ملك إسبانيا فيليب الثاني في القرن السادس عشر، وربما وقع اختياره على الاسم في دلالة على ذلك الزيف الذي يعيشه القساة الطغاة، فصاروا مجرد كائنات وأشياء متحفية تعوزها الروح الإنسانية السوية.
في المشهد الختامي يقتل الملك المهرج، ويثبت الممثلان على وضعهما بينما تنسحب الإضاءة ونسمع صوتاً يقول: «المتحف يغلق أبوابه الآن»، ليس لأن المخرج يريد إخبارنا بأننا كنا أمام حكاية من التاريخ، ولكن ليؤكد أن الأمر مستمر، وأن المتحف حتماً سيفتح مجدداً، وسيظل قابلاً لاستيعاب المزيد من البقايا، فما الحياة سوى سلسلة من الصراع بين الخير والشر، ينتصر الشر ربما، لكنه انتصار ليس موقتاً فحسب، بل هو أيضاً زائف، ويكفي أن صاحبه الذي يشعر بالألم والخزي في حياته لا يبقي منه، بعد موته، سوى سيرة بقايا تنفر منها النفس الإنسانية السوية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق