مجلة الفنون المسرحية
اسمع يا عبد السميع .. عبد الكريم برشيد في القاهرة
*د. وفاء كمالو - الهلال اليوم
فى حضرة عبد الكريم برشيد، تجاوز الوهج حدود الكائن والممكن، ليصبح المسرح احتفالا بالحياة والحب والحرية، تلك الحالة التى اندفعت إليها الفنانة دنيا النشار، لتوقع على دفتر عشق الفن والوطن، وتمتلك جوازا للمرور إلى عالم التجارب المسرحية الحية المشاغبة.
فى هذا السياق يقدم مسرح الطليعة في القاهرة، عرض "اسمع يا عبد السميع"، للمؤلف المغربي عبد الكريم برشيد والمخرجة صاحبة الإعداد دنيا النشار، التى كشفت عن إدراك جميل لفكر وفلسفة برشيد، وقدمت عرضا مدهشا يحمل بصماتها الفريدة، ورؤيتها العنيدة، ولغتها الشابة المتوترة، المسكونة بجماليات الرفض والتمرد والعصيان.
تتجه رؤى برشيد إلى أن الكتابة فى حقيقتها، سلطة وقدرة، لأنها تمتلك قابلية البعث المتجدد، تمتلك فعل الاستحضار، استحضار الأرواح والأزمان والأمكنة، والمفاهيم والحالات، فالمسرح يجعل المحال ممكنا، والغياب حضورا، والحق واضحا والخيال واقعا، وإذا كان المسرح الاحتفالى يعتمد على التراث الأدبى العربى، والأشكال الفنية الشعبية، وطبيعة العرض ومعمار المسرح، وأسلوب الأداء والعلاقة بين الممثل والجمهور، فإن الاحتفالية تسعى إلى أن تجعل الكتابة بالجسد تنسجم انسجاما كليا، مع كتابة الوجدان والأعماق، فالمسرح تاريخ لما أهمله التاريخ، وبحث فيما وراء الحدث والفعل والشخصيات، واشتباك مع الحلم والفكر، والجنون والهذيان، إنه كتابة تتجاوز الأقلام إلى الأجساد الحية المتحركة، والمنفعلة بالمحيط والفاعلة فيه.
يؤكد برشيد أن المسرح هو التحدى، هو المجتمع البديل، العالم الذى نصنعه نحن، الآن وهنا، عالم جديد مغاير يحمل أنفاسنا وأحلامنا وبصماتنا، عالم متحرر من الجبرية والمصادفة والعشوائية، عالم نصمم حاضره ومستقبله كما ينبغى أن يكون، ليصبح رسما تقريبيا للزمن الآتى والمجتمع القادم.
فى هذا السياق نجد أن الاحتفالية لا تقدم وهما ولا تعرض فرجة، لا تحكى عن الماضى ولا تحاكى الحاضر، لأن الاحتفال المسرحى فى جوهره فعل حى، لا يكرر غيره من الأفعال، ولا يشير إلا لنفسه، فهو زمن مقتطع من عمر المحتفلين، زمن لا يتكرر وإحساس لا يتكرر أيضا، فالفضاء المسرحى هو اختصار لكل فضاء العالم، وتكثيف لكل الأزمنة والأمكنة، وحضور كل البشر فينا نحن، ويظل جوهر المسرح هو اللقاء، بكل ما يحمله من مشاعر وعذابات وقضايا اجتماعية سياسية ووجودية.
يضعنا عرض "اسمع يا عبد السميع" أمام إدراك متميز لفكر وفلسفة عبد الكريم برشيد، فكانت الكتابة رصينة، واعية ورشيقة، تحمل روح وبصمات المفكر العربى الكبير، أما منظور الإخراج فقد ارتكز على الاختيار الدقيق لبعض مفردات مسرحه، التى تتوافق مع طبيعة رؤية دنيا النشار. فلم تقدم منهجا جديدا، لكنها استطاعت أن تضع بصمتها الخاصة على تجربة لامعة تنتمى لمنظور رؤيتها للعالم.
فى هذا السياق تشير المخرجة فى كتيب العرض إلى أنه عندما يأتى المساء، يأتى ومعه مصباحه، فقد خلق الإنسان ليبحث، يحتاج إلى النور كى يرى ما يبحث عنه، يبحث عن ماضيه، عن مستقبله، عن عذاباته، يبحث فى داخله وفى خارجه، وتظل المتعة فى رحلة البحث، وليس فى الوصول، "فنحن لا نريدكم أن تركبوا معنا سفن الحكاية، لكننا نريد أن نحياها معكم من جديد".
تدور الأحداث فى إطار تشكيل سينوغرافى شديد البساطة، يعلن بوضوح عن انتمائه للمعذبين والمقهورين فى عالمنا العربى، فنحن فى بيت صغير فقير، تتضح معالمه عبر مفردات التشكيل السينوغرافى، المسكونة بالدلالات النارية الصارخة، سرير النوم فى مقدمة اليسار، يروى عن الليل والحب والهوى، وعن جسد عبد السميع الذى افتقد الرغبة والحرارة والوهج، لتظل زوجته أسيرة الحرمان والقهر والموت العاطفى، الدلالات تنطلق من عمق الواجهة لتروى عن الغياب والاستبداد والفقر المخيف، الموقد الصغير يشتبك مع ثلاجة قديمة تجاوزت الصلاحية، والكرسى الهزاز يشير إلى احتمالات قادمة، وضرورات حتمية للتغيير.
كان يمين القاعة يشهد احتفالا عارما بالحياة، يتبلور عبر الضوء وإيقاعات الألوان وتناقضات الدهشة، بينما تأخذنا فوضى العبقرية الساكنة فى كيان عبد السميع، إلى المشعل والطاحونة الهوائية، والحصان الخشبى الصغير، تلك الأشياء الفارغة، التى يمتلكها يتصور أنه عبقرى، يصنع الحياة، وفى هذا السياق تأتى السيدة العجوز بملابسها السوداء وعصاها الشهيرة، صوتها العالى يتردد بقوة وهى تنادى على عبد السميع، السينوغرافيا تمنحها امتدادا دلاليا مدهشا، فتصبح اختصارا لكل نساء الشرق، وحين تنظر إلى الحكاء الشاب تتصور أنه هو زوجها عبد السميع، يشبهه كثيرا ويتحدث مثله، لكنه لايزال صبيا، رغم أن معظم الناس كبروا.
يتقاطع الضوء مع الحوار والكوريوجرافيا (الأداء الحركي الراقص)، الحكاء الشاب يندفع مؤكدا ضرورة أن نضع كل شىء موضع الشك، بينما تحكى السيدة العجوز عن زوجها الذى هرب، فقد خنقته الأسوار والقيود، كان يبحث عن عيون جديدة، وروح جديدة، هرب من مدينة تصلب الروح والمعنى، وتقتل الدهشة، مدينة استقر رأسها الحكيم فى التراب والوحل، لذلك تقرر الرحيل لتبحث، لكن الفتى ينصحها أن تركب سفن الحكاية، وتحكى.
هكذا ندخل حياة عبد السميع وزوجته، عبر تقنيات مسرحية شديدة البساطة والوضوح، ترتكز بقوة على إيقاعات المسرح الاحتفالى، حيث الدمى الكثيرة المختلفة، التى يتم توظيفها بوعى لتلعب أدوارا مهمة تكشف أبعاد الحالة المسرحية، وفى هذا الإطار تندفع السيدة العجوز، التى تحمل العروسة الضخمة والعصا، لتعيد ترتيب البيت، وتشتبك مع فوضى العبقرية، تلامس الحصان الخشبى الذى صنعه عبد السميع، ليلعب به الأطفال، لكنهم تأخروا كثيرا ولم يأتوا، وعبر تقاطعات الضوء والموسيقى، نرى الزوجة العجوز وهى شابة، ترتدى قميص نوم ورديا، وتستلقى على السرير، عبد السميع يزعجها بعبقريته البكر الجميلة، يهوى إصلاح الأشياء، لكنه يفسدها دائما، وحين تقترب منه لتعانقه، تكشف خطوط الحركة ولغة الجسد، عن رعب عبد السميع من لقاءات الحب والوهج، لكنه يخبرها أنها امرأة جميلة، سمعها منذ الخليقة، امتلأ بصوتها، وكانت نورا ونارا وهذيان.
تتقاطع الكوريوجرافيا اللاهثة مع موجات الضوء، تتوقف الزوجة طويلا أمام معنى الهذيان، فيخبرها أنه هو الذى يمنحنا مفاتيح أبواب المدن الموصدة، وهو يفك الحصار، ويعطينا السرج واللجام، لنرحل، ثم يندفع ليركب الحصان الخشبى الصغير، ويتخيل أنه سيخترق الطرق والمدن، ويذهب للحرية والأحلام، وفى هذا السياق يعايش المتلقى، أحد أجمل مشاهد العرض حين يراقصها عبد السميع برشاقة خلابة، يعزف على جسدها عزفا ساحرا، يرتبط بصوت موسيقى العود المبهرة، التى تكشف معنى الجمال الخلاق.
يأخذنا الحوار الدال إلى أعماق عالم الزوجة، لنصبح أمام طرح فنى ثرى لقضايا المجتمع العربى، منذ الماضى البعيد، نعلم أنها ابنة الإسكافى الفقير، اسمها الخامسة، رقم ضائع بين الأرقام، لم ينجب أبوها غير البنات، التشكيل الجمالى يأخذنا إلى عبد السميع وهو يحرك عروسة ضخمة، تلعب دور الأب وهو يشعر بالحزن والعار، الخامسة تتحدث عن معنى المهانة والاستلاب، فهى لم تمتلك حتى اسمها، تشعر أنها موءودة تحت التراب، فلا فرق بين جاهلية الماضى البعيد، وجاهلية حاضرها الشرس العنيد، ويظل عبد السميع يدفعها إلى الهذيان، لتتصور أنها لو كانت رجلا، لامتلكت صوتها وجسدها وحريتها، لكن أحزان الواقع تدفعها إلى العروسة، تذكرها بأحلام الأمومة الضائعة، والأطفال الذين لم يأتوا، وتتهم زوجها أنه عاقر عقيم، غير قادر على العطاء، وترفض تماما منطقه فى الهذيان والخيال. يتقاطع الضوء الثابت مع دراما الألوان، وتمتد تفاصيل لعبة العبث الوجودى العنيد، ويعايش المتلقى تيار الألعاب الممتدة داخل اللعبة الكبرى، نرى عبد السميع وهو مدفوع إلى هذيان البحث عن الضوء والنور، يتنكر فى ملابس الكهربائى العجوز، الذى سيعيد للبيت الضوء، لكنه يعجز، وتكشف الزوجة خداعه، فيندفع إلى السرير ليجرب الموت، يعترف أنه مجرد رقم زائد، وأنه ليس نبيا يصنع المعجزات، فهذا البيت يحتاج إلى قوة ربانية، لتعيد إليه الحياة.
تظل الحالة المسرحية تموج بالوهج والإبداع، ويأخذه غضب زوجته إلى ذكريات طفولته مع أمه، يقرران أن يلعبا معا دور الطفل المعذب بالكبت، والأم المسكونة بالتسلط والاستبداد، ويكتشف أخيرا أن أمه وزوجته وجهان اثنان لحقيقة واحدة، وفى هذا السياق يتضافر الضوء مع الحركة والموسيقى والحوار، ونعيش زمنا ضمنيا معقدا، يمتزج فيه الماضى بالحاضر، ويقرر عبد السميع أن يهجر سلاسله وأغلاله، لأنه فى حاجة إلى أن يسير ويركض ويرحل، وعبر تقنيات لغة الدهشة، تذوب شخصية الزوجة، لتتوحد مع الأم، التى يتردد صوتها بالنداء على ابنها، تقترب بشدة من الجمهور، لتخبرنا إننا جميعا نشبه عبد السميع بشكل غريب، وتمضى ليبقى صوتها يدين الكذب والزيف والتسلط والغياب.
هكذا ينتهى العرض الذى شارك فيه النجم الجميل شادى سرور، صاحب الموهبة الخصبة والحضور اللافت، مع النجمة الفنانة نيفين رفعت، التى بعثت طاقات من الوهج والإيقاع عبر بصماتها الفريدة المتميزة. وكانت السينوغرافيا لوائل عبد الله، والعرائس لحسام الشربينى، والموسيقى من إعداد محمد حمدى رءوف، والتعبير الحركى لضياء شفيق.
*ناقدة مصرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق