تصنيفات مسرحية

الخميس، 12 أكتوبر 2017

بعد سبعين عاما من التألق يوسف العاني يترجل

مجلة الفنون المسرحية

بعد سبعين عاما من التألق يوسف العاني يترجل

عواد علي - العرب 

بعيدا عن وطنه العراق وأهله وأحبته، رحل الرائد المسرحي فنان الشعب يوسف العاني الاثنين في المستشفى العربي بالعاصمة الأردنية عمّان عن عمر يناهز التسعين عاما، إثر تدهور حالته الصحية ودخوله في غيبوبة قبل نحو شهر، بعد تجربة إبداعية رائدة مثلت أهم التجارب المسرحية العراقية والعربية سواء في التأليف أو التمثيل.

فقد المسرح العراقي والعربي برحيل المسرحي العراقي يوسف العاني الاثنين بعمان، رمزا فذا ترك أثرا عميقا من خلال نصوصه المسرحية التي غاصت عميقا في قضايا وهموم شعبه وعذاباته، والأدوار التي مثلها طوال سبعين عاما.

واصل العاني إبداعه المسرحي طوال سبعين عاما منذ اعتلى خشبة المسرح لأول مرة وهو عمر طويل مليء بالإنجازات والمعاناة والمسرات والانكسارات، وتاريخ جمعي ينوء بحمله فرد واحد في هذا العصر المتلاطم الأمواج والصراعات والأهوال. لذلك لُقّب بـ”فنان الشعب”، و”مولير بغداد”، و”سنديانة المسرح العراقي”، و”الفنان الرائد”. وباللهجة العراقية كان يشبّهه البعض من المسرحيين من الأجيال التالية لجيله بـ”الأبّي”، وهي لفظة تعني أنبوب الماء الرئيسي الذي يغذي أنابيب المياه في المنازل والمباني، كناية لما يمثله من دعامة أساسية في مسيرة المسرح العراقي.


موهبة مبكرة

كان عمر العاني سنة 1944، حين مثّل، أول مرة، مسرحية في فصل واحد من تأليفه وإخراجه، لا يتجاوز السابعة عشرة، فيا لها من موهبة تفتّحت في سن مبكرة، ونمت بمرور الأيام والأشهر والسنوات حتى أصبحت واحدة من أهم المواهب في تاريخ المسرح العراقي والعربي، وصار صاحبها رمزا كبيرا من رموز الثقافة العراقية، وشاهدا حيّا على مخاضها وتحولاتها، وعلما بارزا بين مبدعي جيله الخمسيني كالسياب والبياتي والملائكة وجواد سليم وفائق حسن وإبراهيم جلال وغائب طعمة فرمان، وغيرهم. وقد صدق عبدالرحمن منيف حين أشار في تقديمه لكتاب العاني “شخصيات وذكريات” إلى دوره في أن يكون صلة وصل في ما انقطع ثقافيا وفنيا ووجدانيا بين المثقفين والفنانين العرب.


وتشير سيرة العاني إلى أنه ولد في جانب الكرخ من بغداد عام 1927، وقد صحا ووجد نفسه يتيما بلا عطف أو حنان، غريبا متنقلا بين بيوت أقربائه، فكان اليتم والغربة يحفزانه على أن يكون شيئا فإذا به، وهو في الرابع الابتدائي، يصعد إلى مسرح المدرسة ويؤدي دورا تمثيليا، ويعجب به معلمه ويقول له “ستصل إلى مسرح المدينة يوما..”، وصفق له التلاميذ وانتشى، وترسّبت الشهرة في أعماقه. وفي طفولته أيضا رأى منطقة الكرخ ببغداد مسرحا مفتوحا، فقراء، أغنياء، من طبقات شتى، ثم رآه يعج بالمفارقات وبعجائب الاختلاف، وقام وهو فتى بصنع مسرح شعبي على دكة كبيرة في زقاقهم، وجعل أبناء محلته يمثلون، وعرف في ما بينهم بيوسف البهلوان، أو الممثل على الطبيعة. وكانت في زاوية على دجلة علوة (سوق مركزي للخضار) كبيرة لأعمامه ارتكن فيها ركنا، وهيأ مسرحا مرحليا مثل عليه شباب مسرح ذلك العهد.

دخل يوسف العاني عالم التأليف المسرحي في أوائل الخمسينات من القرن الماضي حين كتب مسرحية “راس الشليلة” عام 1951، على الرغم من محاولاته السابقة التي لم تحظ باهتمام الدارسين. ويماثل ظهوره في العراق، كما يرى علي الراعي وغيره من الباحثين، ظهور توفيق الحكيم في مصر، وسعدالله ونوس في سوريا، كونه كاتبا لم تتوافر له الموهبة وحسب، بل توافر أيضا شيء يليها في الأهمية وهو استمرار الإبداع، وزاد عليهما شيء آخر مهم وهو معاناة التجربة المسرحية من زوايا أخرى غير التأليف، وأهمها التمثيل، فهو أقرب من غيره إلى مفهوم رجل المسرح، إذ يجمع بين ركنين من أهم أركان العملية المسرحية، التأليف والتمثيل.

ويعترف العاني بأنه بدأ التمثيل مقلدا ومعجبا بممثلين معروفين في مرحلة مبكرة من سيرته، فاستهواه يوسف وهبي، أول الأمر، ثم ثار عليه وعلى طريقته الأدائية، وتعلق بأسلوب الريحاني، وحين نضجت تجربته وتهيّأ له أن يزور ثلاثة أرباع مسارح العالم تعلم كثيرا، واكتشف وأسس مسرحه الخاص به “فرقة المسرح الفني الحديث” مع إبراهيم جلال وعبدالرحمن بهجت ويعقوب الأمين.


نصوصه المسرحية

كتب العاني خلال نصف قرن 38 نصا مسرحيا أشهرها: راس الشليلة، ست دراهم، آني أمك يا شاكر، فلوس الدوة، لو بسراجين لو بالظلمة، الغذاء لا الدواء، صورة جديدة، المفتاح، الخرابة، الشريعة، الجومة، الخان، ونجمة. ويكشف في النص الأول “راس الشليلة” عن الفساد الإداري في الدوائر الحكومية في بداية الخمسينات من القرن الماضي بأسلوب يشبه أسلوب التمثيلية الإذاعية، ويجمع فيه بين العرض الواقعي والمنحى الكوميدي، هادفا إلى نصرة المظلومين البسطاء من أبناء الشعب على خصومهم ومستغليهم.

ويعمق في نص “ست دراهم” من نقده الاجتماعي للبعض من الفئات التي لا يستغني الناس عن خدماتها، فيقدم نموذجا سيئا لشريحة الأطباء مُدينا غطرسته ولا إنسانيته المتمثلة بإصراره على الحصول على ستة دراهم من أحد المرضى المراجعين لم يكن يملكها، فيضطر المريض إلى الذهاب بحثا عنها، لكنه قبل أن يغادر العيادة يلتقط من مكتب الطبيب بطاقة دعوة لحفلة ساهرة كان الأخير قد تعب في الحصول عليها، ثم يعود حاملا الدراهم الستة ليعطيها للطبيب، ويرمي عليه البطاقة وقد مزقها انتقاما منه.

ينتقل العاني في نص “آني أمك يا شاكر” إلى المسرح السياسي متأثرا برواية مكسيم غوركي الشهيرة “الأم”، حينما يجد أن أحداثها قد امتزجت مع حدث وقع في العراق وهو غياب ابني سيدة، الأول “شاكر” مقتولا على يد المحتلين، والثاني مقتولا في السجن بسبب موقفهما الوطني. ويصور النص بطولة المرأة (الأم وابنتها وجارتها) ووعيها السياسي المتقدم، وإرادتها القوية في مواجهة السلطة الغاشمة والانتهازيين الذين يقدّمون مصالحهم على قضايا الوطن المصيرية. ويصف علي الراعي هذه المسرحية بأنها قُدّت من فولاذ، لكنه يعيب عليها طابعها الميلودرامي لأنها تعرض صورة مثالية لشخصياتها في وضوحها وشفافيتها: الأخيار أخيار تماما، والأشرار أنذال حتى النهاية.

وفي نص “المفتاح” يخطو العاني خطوات متقدمة في كتابة مسرحية ذات بناء درامي حديث مستثمرا التراث الشعبي من خلال أغنية فولكلورية شائعة لها نظائر في بلدان عربية كثيرة. بطلا المسرحية هما الزوجان حيران وحيرى اللذان يخرجان، ومعهما نوار الذي يسايرهما من دون قناعة، في رحلة بحث عن ولد يتمتع بضمانات كافية، فيكتشفان أنهما يسعيان وراء وهم ليس إلاّ، فالجدود عند أطراف عكا لا يملكون غير وعد بكعكة لا تنتهي أبدا، وثوب لا يخلق. ويأخذ الزوجان الكعكة والثوب ويضعانهما في صندوقهما، ثم يكتشفان أن الصندوق يحتاج إلى مفتاح، والمفتاح عند الحداد، وهذا يريد نقودا لكي يعطيه لهما والنقود عند العروس، وهذه في الحمام، والحمام يريد القنديل، والقنديل في البئر، والبئر يحتاج إلى حبل، والحبل معلق في قرن الثور، والثور يريد الحشيش، والحشيش في البستان، والبستان يحتاج إلى المطر، والمطر من عند الله.

فكلما حاول الزوجان الحائران أن يجتازا واحدة من تلك المراحل يُصابان بخيبة أمل، فالعروس ترفض أن تعطيهما النقود، والبئر يطالبهما بأن يتعبا من أجل الحصول على الحبل.. وتنتهي رحلتهما بالحصول على المفتاح، لكنهما يجدانه فارغا! والعبرة من ذلك، كما يقول نوار، إن الإنسان لا يحصل على هدفه بالتعب فقط، بل بالطريق الذي يسلكه لتحقيقه، ووسط هذه الخيبة تفاجئنا حيرى بأن الطفل الذي يبحثان عنه موجود في أحشائها، لقد حملت به منذ مدة، لكنها أخفت حملها حتى يفتحا الصندوق. وما دام الطفل/ الهدف موجود، فإن عليهم، حيران وحيرى ونوار، أن يركضوا لمواجهة الموقف الجديد. وتنتهي المسرحية وكل الشخصيات تركض، دلالة إلى انحياز النص إلى المستقبل.


سعيد أفندي يغمض عينيه إلى الأبد
يختلف نص “الخرابة” تماما عن نص “المفتاح”، فها هنا يكشف العاني عن تمثّله للاتجاهات المسرحية المعروفة في المسرح العالمي: الملحمي، والوثائقي، والشعبي، ومسرح العرائس في نسيج درامي يكشف من خلال الإيحاء عن الخراب الذي يلف حياتنا، فثمة شخصيات عديدة محلية وعالمية قديمة وحديثة اختارت طريق الخير والصدق والنضال لمواجهة قوى الظلام والبشاعة عبر تداخل مواقف درامية متباينة في الزمان والمكان، وبأسلوب أقرب إلى الفانتازيا التي تمزج بين الواقعي والتاريخي من جهة والسحري والأسطوري من جهة أخرى. وتُعد هذه المسرحية من أكثر مسرحيات العاني ولعا باللعب الدرامي، وميلا إلى تناول قضايا إنسانية كبيرة وشائكة، خاصة أنه كتبها في مرحلة شائكة من مراحل الصراع بين القوى العالمية المتنافرة.


العالم الشعبي

ويعود العاني بعد هذه التجربة المثيرة إلى عالمه الشعبي الذي يتقن أسراره وخباياه، إنه عالم “الخان” في مرحلة الأربعينات من تاريخ العراق بأجوائه وشخصياته الحافلة بالحيوية والنبض الإنساني والوطني، وفي مقدمتها الحمال ذي النفس الصافية والقلب الكبير جاسم الملقب بـ”جاسم “أبوالحياية”، أي الأفاعي، وفي محيطه شخصية نجمة، بائعة البقول، المهمومة، طيبة القلب، الشامخة، الشهمة، التي لا تنسى من وقف إلى جانب زوجها المتوفي أيام محنته، وخاصة عباوي، فتطعمه وترعاه

وتحافظ على كرامته، والأستاذ منير، الطالب في كلية الحقوق، الذي يسكن إحدى غرف الخان، ويمثل الفكر السياسي التقدمي.

وإلى جانب هذه الشخصيات الخيرة ثمة شخصيات سلبية مثل: حميد، الجابي، الذي يدلس في الحساب، وملاّ سلمان الكاتب وشاعر المناسبات الانتهازي، وصاحب الخان، العم صلاح، الذي يتنصل عن دوره الوطني على الرغم من كونه تاجرا شريفا يرفض الاتجار بقوت الشعب، ومأمور الاستهلاك الذي يحاول أن يحمل صاحب الخان على التدليس في توزيع التموين من أجل الثراء، شريطة أن يكسب هو هذا الكسب الحرام.

ويشكل الخان في هذه المسرحية رمزا للمجتمع العراقي في الأربعينات بما يموج به من صراعات. لقد وقف يوسف العاني في هذه النصوص المسرحية على مفاصل حيوية في بنية المجتمع العراقي خلال العهود السابقة برؤية تقدمية وأشكال درامية عديدة، وحاول أن يجيب على أسئلة يطرحها العصر والضمير الإنساني تعبيرا عمّا يشهده العالم من صراعات وتضارب في المصالح.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق