مجلة الفنون المسرحية
مريم علي... مسرح التوثيق السوري «اليوم وبالأمس»
وسام كنعان - الأخبار
يعتبر الكاتب المجري الألماني بيتر فايس (1916 ــ 1982) مؤسساً للمسرح التوثيقي، انطلاقاً من عرضه «مارا ساد» للمخرج العالمي بيتر بروك. ينطلق العرض من حدث تاريخه 13 تموز (يوليو) من عام 1808، عندما كان الاستعداد في أوجّه للاحتفال في اليوم التالي بذكرى الثورة الفرنسية، داخل مصح. ويتخلل هذه الاستعدادات تقديم مسرحية تصف تلك الأحداث التي حدثت بالفعل يوم 13 من الشهر نفسه عام 1793، أي يوم اغتيال جان ــ بول مارا. الممثلون الذين يقومون بالأدوار هم المرضى نزلاء المصح، ويمثلون الحدث التاريخي...
من هنا، أتت فكرة «المسرح داخل المسرح» وتعتبر هذه المسرحية مرجعية لهذا النوع من الشغل. بكناية عن هذه المرجعية المسرحية، وباستعارة أدائية من المسرح الواقعي، تقدّم الممثلة والمخرجة السورية مريم علي عرضها المسرحي «يوم وبالأمس» (عن نص لها بالتعاون مع علاء الدين العالم ــ من بطولتها مع آمال سعد الدين). نحن هنا أمام جرعة حياتية توغل في الواقع إلى أقصى حد ممكن، من دون ترك فرصة لتصنيع المادة درامياً أو مسرحتها لفرجة تخلق هامشاً من المتعة. نحن هنا أمام ممثلة شابة (مريم علي) تقيم وحيدة في العاصمة، تستيقظ في صباح تقليدي على فنجان قهوة ومقطوعة موسيقية، قبل أن يزعجها مسلسل الانفجارات اليومي وأصوات القذائف، فتقرر الاعتذار عن موعد البروفة، قبل أن تطمئن والدتها المقيمة في أحد الأرياف، وتستقبل صديقتها لتتقاسمان معطيات الحياة وتفاصيلها اليومية الدقيقة، في غياب واضح طوال فترة العرض للعنصر الذكوري، إلا عندما تداهم المنزل دورية أمن. تبدو الممثلة غارقة في وحدتها، هزّتها الحرب وزادت من قلقها، فراحت تسيطر على متابعها كحكواتية ماهرة، تروي سيرة حياتها وحلمها الذي يراودها لدرجة التماهي مع الواقع. طفل جميل تحلم به، أو أنه يلاحقها في منامات اليقظة لدرجة أنّها باتت تراه كلّما نظرت من العين السحرية لبابها الموصد بأقفال متعددة، مثل بوابات المدينة المتروكة لقمة سائغة تحت أنياب الحرب. المشهد الافتتاحي ليومها، يبدأ مع تراكمات الجريمة التي أمعنت الأزمة المجنونة في تكريسها. طفل يتكوّر على طبقة جليد، لا تعرف إذا ما كان ميتاً أم على قيد هذه الحياة البائسة. كلاب مسعورة تلاحقها بعدما صارت تتغذى على جثث الطريق، وشائعة دخول «داعش» إلى الحي الذي تسكن فيه، وهرب جميع سكانه، ثم عودتها وحيدة في ذلك المساء وعشائها المسيّج بالخوف والقلق... لا تجد فرصة لمجابهته خيراً من النوم.
رفيقتها (آمال سعد الدين) ليست أفضل حال منها. صحيح أنّها تعيش مع أمها، إلا أنها تحمل همّها. مشاهداتها لا تقل قسّوة وفجاجة عن صديقتها، كأن تجد جمهرة حول حاوية قمامة، فتقتحم تلك الجموع لتجد رأس رجل مقطوع، ومرمي في الحاوية. شظايا القذائف التي تلاحقها وتترك أمامها فرصة المبالغة عندما تروي سير مخاطرتها. في زحمة تلك التراكمات من اليوميات العابرة للحرب، تجرّب الممثلة الشابة تقديم مشهد للشخصية التي تتحضر لتقديمها في عرضها المنتظر. تضيف على حواراتها أشياء تشعر بها، لتوحي بأن هناك تقاطعات شديدة البلاغة بينها وبين الشخصية التي يفترض أن تؤدّيها. تلعب علي بشرط «المسرح في المسرح» بدون كسر الإيهام، وبلا حياد عن الصورة الأدائية الواقعية التي تختارها بطلتا العرض. سيمرّ الحدث بسخرية على تآكل واقعنا أمام هجمة الافتراضي وشبق السوشال ميديا وصرخة «السيلفي» بالشفاه الممدودة (كبوز الجدي) بحسب العرض، وموضة الشاعرات اللواتي وجدن جدران الموقع الأزرق فسحة للبحث عن الزواج ولو بلغة الأدب الركيك والمفتعل. الطفل الذي تحلم به سيمرّ واقعياً بصورة أشبه بالحلم. الخوف من العاصفة الرملية المحملة بالغاز الكيماوي يحضر في أحد المشاهد، كذلك المداهمات الأمنية المرعبة، لتصل هذه الوجبة الحياتية إلى المآل ذاته. تقرّر صديقة الممثلة الشابة أن ترحل إلى السويد بعدما قُبل طلب لجوئها مع والدتها. يواجه خيارها موجة غضب عارمة من صديقتها، تنتهي بمصارحة حرة عن الخوف الذي يلاحق تلك الفتاة التي سرقها العمر، وبقيت وحيدة معيلة لأمّها. التهمها الخوف إلى درجة أنها باتت تحسب حساباً للشرشف الذي تتغطى به. كل شيء يوحي بأنّنا أمام مشاهد حياتية مسجلة، فيما يستعير الأداء روحه من النماذج الواقعية، لكن من دون جرعات دراما وبلا روح الدهشة التي تقبض على المشاهد. كذلك، يخيّب المكان أمل صنّاع العرض كونه مجرّد غرفة في غاليري، غير مجهزة بإضاءة، ولا بمعدات صوت، ولا بكواليس تتيح حركة الممثلين وإعادة تموضعهم. لذا، تبدو السينوغرافيا مركبة بسبب المكان الوحيد المتاح للمخرجة التي تحفر بالصخر كرمى لشغفها المسرحي. لم تشفع لها سنوات تدريسها الطويلة في «المعهد العالي للفنون المسرحية» لاستعارة المسرح الدائري مثلاً. لن نفاجأ طالما أنّ المؤسسة التعليمية باتت وكراً حقيقياً بسبب تراكمات الأخطاء الإدارية.
«اليوم وبالأمس» محاولة مريم علي لتوثيق هواجس المرأة، ويومياتها في الحرب. هي وجبة لم تنضج بعد، إلا أنها خطوة في أوّل الطريق، لإنجاز مشروع مسرحي توثيقي سوري يمكن له التطوّر ليواكب مدينة مهووسة بالحياة.
*مسرحية «اليوم وأمس»: حتى11 تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي ــ الساعة السادسة مساءً ــ غاليري مصطفى علي (دمشق).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق