مجلة الفنون المسرحية
ماحي صديق .. الراوي المتجول وحارس الحكاية في الجزائر
حسام الدين ربيع - مجلة ميم
يعدّ لسان الحكاية الشعبية وسفيرا للتراث الجزائري في العالم، صال وجال في إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا وداخل بلاده، ليسمع الجمهور وعشاق الرواية الشفهية والأحاجي أجمل القصص التراثية المستمدة من التاريخ والثقافة الجزائرية، والمستلهمة من أساطير الأمازيغ وحكايات الأجداد، إنّه الحكواتي أو الراوي المتجول الجزائري ماحي صديق مسلم.
يعرف ماحي الراوي المتجول بغض النظر عمّا في جعبته من قصص وحكاياه جميلة، بلباسه التقليدي، الملون بالأبيض والأصفر الذي يعكس أصالة الغرب الجزائري، وشعر طويل يميل إلى البياض يمتد لأسفل كتفيه، وبحقيبته التقليدية ودفّه (البندير) الذي يرافقه أينما حل وارتحل. ويعرف ماحي أيضا بطيبته وعفويته ونشاطه الفعال في مجال الحكاية الشعبية التي كانت في الماضي تقدم عبر الحلقات التي تنتمي إلى مسرح الحلقة أو تقدم في الأسواق في قديم الزمان، أمّا اليوم فصار له ركح وحضور في مهرجانات ولقاءات تتناول هذا النوع الثقافي بالتحليل والنقاش.
ماحي صديق حكواتي نادر
يعدّ ماحي صديق مسلم احد أعمدة فن الحكاية الشعبية في الجزائر، ضمن قلة تمارس هذا النوع الثقافي على غرار جدّو حقي واسمه الحقيقي “محمد طالبي” من ولاية برج بوعريريج (234 كلم شرق العاصمة)، الذي لطالما أمتع الأطفال عبر الحصص التلفزيونية والإذاعية التي كان يقدمها في السابق. اليوم، فماحي لا يكتفي بتقديم القصة أو الحكاية بطريقة تقليدية روتينية وإنّما يبدع عبر حركات اليد ونظرات عينيه وتحركاته فوق الخشبة، مع صوت مرتفع جذاب ومرافقة صوت البندير (الدف) في بعض عروضه.
وقال ماحي صديق في لقاء مع مجلة “ميم”: “أمارس فن الحكاية، أحكيها وأسردها على الجمهور بطريقة ذكية تجعله يتفاعل معه، لا أعرف بشكل أو بآخر ما هو سرّها، ولكن تجذب تحركاتي وصوتي وطريقة الإلقاء الجمهور مهما كان سواء عربيا أو أجنبيا، سواء كان يفهم اللغة العربية أو الفرنسية التي ألقي بها حكاياتي أم لا.. المهم أنّه يستمتع وهو ما لامسته عنده بعد كل عرض”.
ردّ الإعتبار لفن الحكاية شغفي
وأردف ماحي: “أريد رد الاعتبار لفن الحكاية الشعبية، فهذا الفن لا يتعلق بنشاط أو فعالية معينة، بل هو فن قائم بذاته عندي وعمل مستمر ودائم، أقوم بإعادة كتابة لبعض القصص التراثية والأساطير بطريقتي الخاصة وأدعو السلطات للإهتمام به”.
وأشار صاحب رائعة “بقرة اليتامى” أنّ عمله يقوم على دغدغة الجمهور من خلال حكاية شعبية تجعله يبحث ويسأل عن حقيقتها في التاريخ، الذي يشتغل عليه وفق هذا الجانب.
وأكدّ المتحدث أنّ حكاياه لا تقتصر على سرد قصة تاريخية وتراثية نابعة من تراثنا العميق وحضارتنا، وإنّ “ما تحمل في طياتها رسائل سلام ومحبة لتبرز للعالم أنّ الإنسان الجزائري خاصة والمغاربي عامة لديه تاريخ وحضارة وأصول ولم يأت من العدم، وتقدم بأسلوب حضاري جميل يحقق تفاعل الحضور معه”.
حكايات ماحي أشبه بلوحات بيكاسو ودافينشي
ماحي صديق مسلم، جذوره من قبيلة بني عامر، ولد في سيدي بلعباس سنة 1960، عاش طفولته على ضفاف وادي المكرة بمحاذاة تسالة، عشق الفن الرابع في بداياته، قبل أن يختار طريق التجول عبر الحكاية ويلقب في الجزائر بالراوي المتجول، تشبع منذ طفلوته بالقصص والأساطير التي كانت تحكى له على لسان والدته رحمها الله، فحفظ ما حفظ منها، واليوم يكتب ويقص ويعود بجماهيره إلى الذاكرة، إلى عمق التاريخ، مسافرا به عبر العصور والقرون بلا تأشيرة، بل بحكاية بسيطة عميقة محبوكة بدقة يبدع في رسمها كما لو أنّها لوحة لليوناردو دافينشي أو بابلو بيكاسو.
وساهمت قصص المرحومة والدته، في تكوينه وتحضيره قبل أن يصير شابا، يبحث ويطالع ويكتشف، فعشرات القصص التي مرّت على أذنيه، مكنته اليوم من أن يكون راويا مهمّا، بدأت مسيرته بما يسمى بـ”الطحطاحة” بمدينته سيدي بلعباس (450 كلم غرب الجزائر)، التي كانت تحتضن حلقات “القوال” الذي لم يكن واحدا فقط، بل كانوا عشرات، حيث يتناوبون على “الطحطاحة” لتقديم ما جادت به قريحتهم من قصص وأساطير، فهذه النشاطات الفنية جذبت ماحي الذي أصبح فيما بعد “قوالا” في طحطاحة سيدي بلعباس.
صوت سيدي بلعباس والطحطاحة
نابوليون في سيدي بلعباس مدينة الراوي المتجول
يقول ماحي صديق عن مدينته بلعباس: “بلعباس ملهمتي، ما يذكره التاريخ أنّه ذات مرّة مرّ بها إمبراطور فرنسا نابوليون بونابرت، فقضى فيها ليلة من أجل أن يدشنها وتصبح المدينة مسماة بإسمه، ولكن لا أدري كيف غيّر بونابرت رأيه تلك الليلة، وقال يجب أنّ تبقى المدينة بإسمها الحالي نسبة إلى الولي الصالح سيدي بلعباس، وهو ما تم”.
طاف ماحي بالقارات، بغية ترقية وإعادة احياء التراث الشفوي المندثر للقوال (الحكواتي)، فحط الرحال بالشارقة (مهرجان المسرح العربي وملتقى الشارقة للراوي)، وشارك بباريس العاصمة الفرنسية وبلندن ضمن “الأيام الثقافية الجزائرية” وبلجيكا (مهرجان الفنون المتعددة)، ولبنان وتونس (مهرجان توزر للحلقة الشعبية) والمغرب بساحة لنا بمراكش..، واقتحم أدغال إفريقيا من بوابة “الكونغو” من خلال مهرجان الحكاية الشفهية الدولي سنة 2014، كما سجل تواجده في عديد الفعاليات بالجزائر منها مهرجان الحكاية الدولي بوهران (غرب)، والمسرح الوطني المحترف.. وغيرها.
بين “بقرة اليتامى” و”مرايا الماء” .. “تنيهينان”
يسرد ماحي على الجمهور حكايات بنكهة ألف ليلة وليلة، أبرزها “بقرة اليتامى” المتجذرة في التراث الجزائري، و”تنيهينان” المرأة الأسطورية والأم الروحية للتوارق، والتي قدمت من المغرب واستقرت بمنطقة الأهقار على بعد نحو ألفي كيلومتر جنوب العاصمة الجزائرية، و”واش قالوا ناس زمان” و”ألف ليلة وليلة”، و”طويل منقاره أخضر”.. وغيرها من القصص التي ألّفها واستلهمها من الأساطير الشعبية، وبعضها صدرت له في مجموعة قصصية عن منشورات “هارماتون” بعنوان “حجرة القمرة” وتضم “لبنادم لي كان ايشوف في الليل” و”مرايا الماء” التي كتبها بمعية دانيال لودوك.
مشاريع ثقيلة
ومن مشاريع حكواتي الجزائر، كشف ماحي صديق أنّه يعكف حاليا على كتابة قصص متعلقة بالشخصيات التاريخية والثقافية التي أنجبتها الجزائر، منها مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر بن محيي الدين وشاعر الملحون مصطفى بن ابراهيم والولي الصالح سيدي بلعباس الذي تحمل مدينة سيدي بلعباس اسمه إضافة إلى أعمال أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق