تصنيفات مسرحية

الأربعاء، 6 يونيو 2018

الدائرة الجهنمية المقفلة

مجلة الفنون المسرحية

الدائرة الجهنمية المقفلة


 د . عقيل مهدي يوسف - المدى 


في محاولة قصدية ينزاح فيها العرض عن المعيارية الجمالية التقليدية في اعتماده اسلوب (فن الفكرة) conceptual art الذي يكرس مفاهيم ما بعد الحداثة التي انجز فيها المخرج (سنان) رسالته الاكاديمية ، متبنيناً في خطته أيضاً ما اعتمده (دوشامب) من معدات جاهزة الصنع بشكل مسبق قبل الولوج الى (البروفة) التي تأتي لاحقاً لاستكمال تدريب الممثل على اداء دوره فوق الخشبة ، وما تستلزمه الضرورة التقنية الخارجية ، التي باتت أشبه (بالواسطة) منها (بالهدف) الذي كان لدى سواه من المخرجين السابقين حيث ينبع من معطيات (البروفة) ومعاناتها اليومية . لقد انفرد المخرج في اقتراح انسقة العرض وتجميع مكوناته النابعة من رؤيته المتعالية عن المسار الاخراجي المألوف .. في مشهد استهلالي تتلاحق صور إعلانية لنسوة غربيات ورجال في شرائح فلمية على خلفية المسرح وتجلس مجموعة تعدادها سبعة من البشر على كراسٍ بخطوط مستقيمة متراتبة الواحد بعد الآخر ، ولكن سرعان ما يدهمها التشظي ، لتعاود ثانية وثالثة ..في ترتيب نسقها ، بدائرية تكرارية للرجوع الى نقطة ثبات البداية الأزلية في محورها البصري التأسيسي الواحد ، نرى السكون والصمت المطبق يريم على وضعيات المجموعة الجامدة التي تلتفت بأيقاع بطيء الى الجمهور وتتكرر الحالة نفسها لمرات ومرات ، فالعرض يتبنى أنسقة مكانية وزمانية متضافرة تراهن على حركات مجسدة وتحيلنا الى تجريدات زمنية ذاكرة الشخوص كل على انفراد ، إذ تتحرك الكراسي في داخل القطار فيتزحزح المكان المغلق منفتحا على سيولة من التشكلات التي تختار لنفسها مواقع توظفها الشخصيات بطرائق متنوعة الاستخدام ، ويتصدر رنين التلفون وهو حجر الزاوية في جذب الشخصيات التي يدمغها تباعاً ، بجريمة الارهاب بكلمة :((مطلوب) وكأن شرطة (الانتربول) تترصدهم لتقدمهم الى العدالة وهنا وعبر مشاهد مختلفة تنشطر ذات الممثل الى شخصيتين ، فهذا او هذه التي تجلس كما يفعل البشر الاسوياء يضمرون في بواطنهم شخصيات ثانية سرعان ما تنفجر صواعقها بكل ما تحمله من حمولات لا شعورية ، وكأنها اشبه بشواظ بركانية لترتد على نفسها او تطال الاخرين من غير رحمة او منطق مقبول ، بمثل هذه العجائبية وبغية إثارة المتفرج وجذب اهتمامه ، تتراكم الغرائب غير المتوقعة ، وتصبح بمثابة (لغز) يحفز المتلقي على ايجاد دليل لحله او الاجابة عنه ..، هنا تتدفق الحركة في وحدة تصميمية في نسق من ثنائية الانفتاح والانغلاق ، وبرتابة بنائية تمهد لطوفان قادم يكتسح الحواجز والسدود. هذا التنوع الحركي يضفي حيوية للشكل في تكرار التكوين والحفاظ على الحجوم والازياء وما تلعبه السينوغرافيا من تاتيرات بصرية صادمة تارة وسلسة تارة اخرى .حيث تنحصر الحركة بأتجاه( كابينة التلفون) او موقع (المرحاض) او (الشاشة) تؤديها المجموعة والافراد ويتم تحريكها بهياج هستيري مرتعش ومروع ، أب مع ابنه(الداعشي) الذي يحمل جنسية عراقية يشكو من مركب نقص جراء سفالته في قتل ابناء جلدته ، فيشعر بعفن فعلته الشنيعة التي تلاحقه ، ويريد التطهر بالماء لكن من دون جدوى ، واخرى فرنسية ترسم دون قيد من رقابة ، وآخر يتلو آيات قرآنية وهو مصري وتونسي ليبرالي ، ومغربي صوفي ، وسورية وهي فتاة مستباحة من قبل الدواعش، وبمثل هذه الصورة (البانورامية ) يجتمع مشرق العرب بمغربه ، يحاول العرض تعريتهم ليفضح السرائر وما يختفي فيها ، من وراء المظاهر ، وما يحملونه من أدوات كالحقائب والآلات وما يكتسون به من ملابس ثقيلة حالما يتجردون منها تظهر عوراتهم ، سيما ما يخص المراة المستباحة ، التي تتعرى بصخب وعنف لتقدم مشهد الاغتصاب بجرأة نادرة في مسرحنا وهي تصد مجاميع ضارية من وحوش الارهاب الداعشي . تزامنية احداث العرض تنبع من بقعة في قطار مهتز تنبثق منه مثل فقاعات ، ذكريات المسافرين بعيداً عن أوطانهم الغائبة ، والمغيبة في توهان مستمر ، ومواقف ملتبسة ، وحرائق منبعثة من ربيع عربي مغدور هنا ، ومؤمل هناك ، لذلك باتت حبكة العرض البنائية ، تستمد نسغها من موقف ايديولوجي صارخ يدمغ طبائع الشخصيات ويحدد مواقفها من الحدث المسرحي ومثل هذا الطرح يثير اشكالات فكرية (راديكالية)تبعا لانماط التلقي لاختلاف المنطلقات ، ووجهات النظر، والاهداف بينها، ولكن يبقى القطار منقطعاً عن الشارع في هذا الفضاء الخاص بلا أدنى اتصال بفضاء عام بصري او حركي مع المدنية التي يطمح الناس في بلداننا العربية الى تكريسها بلا رهانات أجنبية خاسرة وحواضن مريبة هدامة ، لذا يحاول العرض من داخل مكوناته أن يلوي الخطوط وتنتفض على سكونيتها بأتجاهات عمودية وخطية مائلة وصاعدة ونازلة، ومتراكبة ومتداخلة تتقافز عليها ، كائنات متروكة في أرض يباب أو في غابة وحشية معتمة لتفضح الاحتشام بالعري في زمن القتلة الدمويين المستترين، لتمتد السلالم الى الجدار الحاجز أمام أنظار المتفرجين ، بأسلوب (مايرهولد) الذي يركز على (بايوميكانيكية) الجسد في المشي على جدران عمودية ، وليست أفقية منبسطة ،هذا ماأسسه العرض ، سواء في تحول وضعيات الممثلين او اختلاف مواضعهم وترددهم ما بين الاحتشام والعري وهم يعيشون في حالات قلقة مضطربة متزامنة ومتسلسلة ما بين خط ارضي واخر سماوي وهم يفقدون سويتهم في جو هستيري وتشنج مقصود مابين كائنات حرة معاصرة ووحوش سلفية سرقت الحرية من بين يدي الانسان ، لتحوله الى (شئ) فاقدا لخصائصه البشرية ، وتعزله رهن عبودية دائمة وتقذفه في عوالم من العتمة والظلال الأبدية ، راهن العرض على أن يخلق انطباعاً هستيرياً لدى الممثل وبالتالي يكرسه لدى المتفرج عسى أن يهز سكونه وعجزه السلبي هزاً ، ويفتح له ثغرة مشرقة في مخاضات مستقبل منظور ، من خلال وريقات نظرة يانعة وعطرة في فن التمثيل كما في وطنية (نظيرجواد) أو في تقمص ليبرالي معمق بأداء (علاء قحطان)، أو الورع الديني لدى (ياسر قاسم) أو في لغة (اشتي حديد) الفرنسية ورائحة الاداء الزكي (وسام عدنان) وبالأخص في جرأة ابداعية عند (اسراء العبيدي) الممثلة الواعدة ، هذا الأثر هو ما حاكته أنامل المخرج سنان من خيوط نص د.عواطف ،بأحتدام انفعالي واهتياج فني في لعبة أخراجية تسعى لان تترك انطباعاً خاصاً ، ومعادلاً موضوعياً ، مع واقع ينهد الى تغيير تضاريسه الجامدة ، في نسق حركي بناء يتنفس هواء العصر وروح الحداثة ، ويخرج من سبات القرون الآفلة .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق