تصنيفات مسرحية

الاثنين، 14 يناير 2019

مأساة الأم السورية في عمل مسرحي بطقوس خارج المألوف

مجلة الفنون المسرحية

مأساة الأم السورية في عمل مسرحي بطقوس خارج المألوف

منى مرعي - العرب


مسرحية "الجانب الآخر من الحديقة" مكونة من عدة طبقات تتطرق إلى علاقة الفرد مع الذاكرة والصورة واستهلاكها ومعنى الخوف أو انعدامه.

نحن نعيش في عالم الصورة اليوم، وإن كانت الصور لغة تفوق كل اللغات الأخرى في قدرتها على التواصل، فإن الصور كذلك خلقت عالما مظلما ونمطيا هو عالم يحبس الأفراد ويجمدهم خارج ذواتهم، فمثلا صور الأخبار وخاصة تلك المتعلقة بالحروب، أفقدت الضحايا كرامتهم البشرية، وهذا تحديدا ما يخوض فيه العرض المسرحي السوري “الجانب الآخر من الحديقة”.

بيروت- تستند مسرحية “الجانب الآخر من الحديقة” على نص “حكاية أم”، لهانز كريستيان أندرسون، بوصفها نقطة انطلاق اعتمدها المخرج أسامة حلال وفرقة “كون” المسرحية كركيزة جماليّة لفعل المقاومة التي يدور حولها العرض. إذ تصوّر حكاية أندرسون رحلة أم للقاء ملك الموت سعيا منها لاسترداد ابنها، ولم تتوان عن إعطاء صوتها، كما حضنت شجرة شوك غرز في صدرها، حيث نفرت منه الدماء ونبتت ورودٌ مكان الشوك ثم منحت عينيها وشعرها كي تسترد ولدها، لكنها في النهاية لم تتمكن من الوصول إلى هدفها.

الأم المكلومة
أضافت فرقة كون؛ التي تتألف من كل من حمزة حمادة، سارة مشموشي، ستيفاني كيال، سارة زين، صبا كوراني وشادي مقرش؛ طبقات متعددة تناولت فيها سرديات الفقدان والخسارة للأم السورية في طقوس طوطمية الطابع. تلك الطبقات تطرّقت إلى علاقة الفرد مع الذاكرة والصورة واستهلاكها ومعنى الخوف أو انعدامه. والأهم أن الصورة ليست فائضا أو عنصرا مجانيا ضمن موضوعة فقدان الأم لابنها بل أصبحت في يومنا هذا واحدة من الأدوات التي تغذي حالة الفقدان وتضاعف تأثيرها.

بدأت فرقة كون حكايتها من حيث انتهى أندرسون في حديقة الموت. الابن على هيئة ملاك يطلب من والدته ألا تبكي. من هنا يتم التعاطي مع فكرة الموت على نحو مغاير في عرض لا نجد فيه رفضا لفكرة حدوثه ولا قبولا لها، والأمر أشبه بتقديم أضحية، بكل ما يحتمل هذا التقديم من لحظات متناقضة تجاور بعضها بعضا، القوة المعطوفة على الحزن المعطوف على الرفض ثم القبول.

حكاية الأم السورية اعتمدت على ثلاثة أركان أساسية في العرض وهي، السينوغرافيا التي صممها المخرج نفسه، الدراماتورجيا التي بناها فريق الدراماتورج علاءالدين وهشام حميدان بالمشاركة مع الممثلين، والموسيقى الحية التي ألفها بعناية سينغيو بنايا. سعى المخرج أسامة حلال عبر العناصر السابقة إلى تحويل العيش السوري بما يحمله من آلام وأوجاع ومظلوميات إلى فعل تسام وتعال على الخشبة، ما يجعل اللجوء إلى القناع مُعظم الوقت وسيلة لتجسيد دور الأم في الكثير من الأوقات. فهو ليس خيارا استيطيقيا فحسب بل محاولة لإخفاء ملامح خاصة لأم معينة يطغى عليها الرمز الذي يتمّ تناقله وتقمّصه في وجوه متعدّدة دون أن تمسه لوثة استهلاك الصورة.

فرقة كون تبدأ حكايتها من حيث انتهى أندرسون في حديقة الموت
فرقة كون تبدأ حكايتها من حيث انتهى أندرسون في حديقة الموت
وتحيل فكرة الأم كقناع أيضا إلى محاولة إخفاء الألم الذي إن ظهر في “الجانب الآخر من الحديقة”، فهو يتأتى كنقيض لكل بورنوغرافيا الحزن التي يجنح نحوها عدد من المسرحيين عند تجسيدهم لأي مأساة راهنة. فالأمّ في فرقة كون حين تتألم تغنّي بنبرة طفولية “ربيتك زغيرون حسن”، وتحاكي في رقصها إيماءات الغرق. تبتسم دون أن تبتسم. وحين تصرخ، يصرخ عنها القناع دون أن يصدر صوتا حتى في الأماكن القليلة التي ظهرت فيها الأم بملمح بشري ملموس كما في المشهد الأول على سبيل المثال، وبعد تعدادها بعض الأقوال الشعبية التي ترثي فيها ابنها، تقول وهي تمشي في فضاء الجمهور “ما رح علمك حساب لإن لحالك رح تعرف انو قطعتين خبز أكتر من وحدة…ورح قلك بس تجوع حط إيدك على بطنك وصراخ…وادعي لربك إنك تنجى”. هذا الانتقال من جمل رثائية كـ”يا رفة العين، يا حبيب إمك لا تتركني، فراقك بيذلني” إلى جمل تشي بشيء من القسوة يعيد تعريف موقع الأم بمواجهة مأساتها في محاولة لتجاوز الألم عبر استرجاع الزمن.

الخروج من الصور
تعاطى العرض مع فكرة الزمن بطريقة تفتت حالة الفقدان القصوى وتحولها إلى جرعات، بحيث لا تحصرها بمأساة فقدان الأم لابنها: هنالك عودة للحظات بناها الممثلون من ذاكرة طفولتهم، حين ولدوا، دخلوا المدرسة، ارتادوا الجامعة… مسترجعين الحدث العام كاحتلال أميركا للعراق، وانتفاضة أطفال الحجارة وسيطرة هاني شاكر على سوق الكاسيت، ثم اختيار لحظات الاحتفال بأعياد الميلاد وتقاطع هذه الأزمنة مع أهم اللحظات في حكاية أندرسن في سعي لبناء سردية لربط الراهن السوري بكل ما سبق، وفي محاولة للابتعاد عن كل الآنية التي تفرضها فظاعة نقل الصورة اليوم. والفظاعة هنا  تكمن في فعل استهلاك الصورة وليس في الصورة بحد ذاتها، ما ينفي معنى الخوف.

مشاهد أعياد الميلاد والفتاة التي تتحدث عن أنماط الصور (صور ما قبل الحرب وصور الأحداث..)، ومشهد الأم وهي تمنح عينيها فتنبت عيون أخرى، ومشهد الخوف المضحك لشادي مقرش، والفتاة التي تطلب عدم تصويرها… كلها ليست سوى أشكال تحيل إلى دور الصورة والخبر في نزع الكرامة عن هذا الفرد الذي مات ونفي للحزن كفعل جماعي. في أحد المقاطع تقول فتاة “أنا ما بعرف أنا وين بس بعرف أني شفتو وصورتو وبعرف إنو الموت قتل الولد بالكاميرا أو الكاميرا قتلت الولد بالصورة أو الولد مات قدام الكاميرا. ما بدي كون هيدا الولد ولا الموت أكيد ولا حتى الكاميرا…أنا بس ما بدي حدا يصورني”.

وفي المشاهد ما قبل الأخيرة للعرض يصرخ شادي مقرش محاولا استرداد ذاكرته ويقوم الممثلون جميعا بمحاولة استرداد الابن قبل أن يقوموا برمي صور بالأسود والأبيض وخلع أزيائهم ضمن دوامة تكثفها الموسيقى الحية، ولا يبقى من كل تلك الصور البديلة التي قدمها هذ العرض إلا ممثلون مدركون أن كل ما حدث مجرد “تمثيل” على الخشبة. وهنا يبرز كيف لعب المخرج طوال العرض على هذا التذكير بأن ما يحدث ليس سوى “تمثيل”، عبر اعتذارات وتلعثمات مقصودة، وسعى أن يبني صورة نقيضة لكل صور الموت، فحضرت عناصر السينوغرافيا التي تحيلنا إلى الفانتازيا كعالم بديل تتشكل فيه الصور بعناية وبحب وبجمال بموازاة كل فصول الألم، كما لو أن هذا العرض ليس إلا حكاية عن الموت والذاكرة والصورة وقتل الكاميرا بما لن تستطيع التقاطه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق