مجلة الفنون المسرحية
العرض المسرحي العراقي “سبايا بغداد”: كثافة الدلالة الايحائية للذات النسوية المقهورة
مروان ياسين الدليمي - القدس
مع مطلع العام الجاري استقبلت خشبة المسرح الوطني في العاصمة العراقية بغداد عرضا مسرحيا بعنوان “سبايا بغداد” من تاليف وإخراج عواطف نعيم، وأقدم على إنتاجه محترف بغداد المسرحي بالتعاون مع دائرة السينما والمسرح في وزارة الثقافة العراقية.
إن المتابع للحركة المسرحية في العراق يدرك جيدا ان مسيرة المخرجة عواطف نعيم تحمل نسقا فنيا قائما على التواصل الحيوي مع البيئة العراقية في مجمل أعمالها التي قدمتها بما تحمله من علامات إنسانية تنتمي إلى نماذج دالة في الحياة اليومية، ولعل نسق تجربتها يرتبط بشكل وثيق مع توليفة فنية كان يحرص على تقديمها عدد من الفنانين الرواد في أعمالهم مثل يوسف العاني وقاسم محمد وابراهيم جلال وسامي عبد الحميد، وذلك من خلال الالتزام بمعطيات الحياة الشعبية وابراز شخصياتها، والمتابع لتجربتها لابد ان يتوصل إلى نتيجة مفادها أنها قد تموضعت في افقها الفني ضمن خصوصية تجارب اولئك الرواد ومعاييرهم الفنية، لأنها عملت معهم كممثلة منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي.
حكاية العرض
العرض في متنه الحكائي يتحدث عن نماذج من النساء العراقيات، لكل واحدة منهن حكايتها الخاصة والمؤلمة من بعد ان وقعت ضحية في أيدي تنظيم “داعش” الإرهابي، فأصبحن جميعا سبايا يبحثن عن فرصة الخلاص واسترداد حريتهن وكرامتهن وشرفهن. واختيار عواطف نعيم لموضوع السبي، بما يتركه من وقع قاس على الذات العراقية يأتي في إطار التزامها كفنانة ازاء القضايا التي توشم مجتمعها بآثار بليغة ليس من السهل محوها وتجاوز أبعادها سواء على المستوى النفسي أو من ناحية ما تفرزه من مخلفات فكرية على الأجيال اللاحقة. فجاءت محاولتها في إطار الكشف عن تداعيات هذه التجربة التي عاشتها المرأة عموما أثناء سيطرة “داعش” على مناطق واسعة من العراق.
المرتكز الفني الرصين الذي تشكلت على أسسه شخصية الفنانة عواطف نعيم منحها الأدوات الفنية التي تستطيع من خلالها اقتحام عوالم غريبة وموحشة تتبلور في ثناياها مناطق معتمة في الذات الإنسانية، وهنا يتجلى محور الفن المسرحي وجوهره حيث يعتمد في منظومته المرئية والسمعية على بناء مشهدية قائمة على ما تسرده لغة الفعل الجسدي بما يحمله من ايحاءات وطاقات تشفيرية قبل الكلمات، بذلك تكتسب التجربة المسرحية حضورها من حضور الشخصية وفعاليتها الدرامية على الخشبة، وكل ذلك في سبيل الأخذ بها إلى منطقة جمالية تخضع فيها إلى التفكيك والتركيب والتأويل ضمن إطار تجربة فنية تتجلى بايحاءاتها ودلالاتها على الخشبة.
الحديث عن هذا العرض لابد ان يقودنا للتوقف أمام عنوانه، فقد جاء اختيار العنوان “سبايا بغداد” في إطار الأخذ بموضوعة المسرحية إلى دلالة وطنية، تأكيدا على ان تجربة السبي لم تكن مقصورة بنتائجها وقسوتها وبشاعتها على النساء الإيزيديات اللواتي وقع عليهن الشطر الأعظم من هذه الجريمة، بذلك شاءت عواطف نعيم ان تكون مسألة النساء المسبيات قضية عراقية،لانها تمتد بتأثيرها الكارثي على المجتمع العراقي برمته، وهنا تتجلى أهمية العمل الفني لانه يحيل الخاص إلى العام.
المعالجة الفنية
في مثل هذه الأعمال التي تتناول حدثا راهنا عادة ما تسقط المعالجة الفنية في ملفوظات التناول السطحي، إذ غالبا ما يعجز المؤلف في التوغل عميقا خلف واجهة الأحداث وسطورها الظاهرة بالشكل الذي يصبح فيه عمله عاجزا عن الالمام بكافة أوجه الحدث من كافة الزوايا، بذلك يفقد موضوعيته في التناول، إلاّ ان عواطف نعيم بما تمتلكه من خبرة سواء في التأليف أو الإخراج توفقت كثيرا في النأي عن منطقة الخطاب الفني المباشر، وانزاحت معالجتها باتجاه التركيز على المشاعر والأحساسيس الذاتية التي تترسب في داخل الضحية من بعد ان تقع في اشتباكات تجربة السبي بكل مرارتها وتوحشها، وهذا الاقتراب من شحنة العواطف دفع بالعرض المسرحي إلى ان يختزل المسافة ما بينه وبين المتلقي وربما حمَّلهُ جرعة قوية من مشاعر التعاطف والتفاعل مع الشخصيات.
من حيث البناء السينوغرافي للعرض الذي استحوذ على جانب كبير من الرؤية البصرية فقد اعتمد المصصم علي السوداني على مفردات بسيطة ومعدودة، وبذلك لم يثقل الفضاء المسرحي بما ليس ضروريا، وهذا بالتالي منح مساحة واسعة من الحرية أمام المخرجة حتى تملأه بالفعل الجسدي ليكون مفردة تعبيرية طاغية في إيصال كثافة المشاعر. وقد اكتفى مصمم السينوغرافيا في بناء الصورة البصرية لخطاب العرض بالاعتماد على أشرطة من قماش ذات لون أبيض، أوجدت تقاطعات حادة كانت توحي بعالم مسوّر بالقضبان، وبنفس الوقت منحت بعدا لونيا متضادا مع لون السواد الذي خيم على الفضاء المسرحي، فكان لكثافة اللون وحضوره واختزاله باللونين الأسود والأبيض امكانية ان يرسم مناخا عاما مشبعا بخيلط من التوتر والتعارض الحاد بين عالمي متناقضين، عالم السبايا بما يحملنه من ذاكرة معبأة بتفاصيل جميلة تعود إلى ماض مفعم بالحرية وسط الاهل والأولاد، وبين عالم موحش كئيب بعد ان أصبحن سبايا فاستحالت حياتهن إلى بقعة سوداء مثلما هو لون الثياب الذي غطى جميع النساء تحت حكم التنظيم، ولم يستخدم المصمم أي لون آخر سوى ضربات من اللون الأحمر بعد ان يتعرضن النساء المسبيات إلى تجربة الاغتصاب.
حضور الصوت النسوي
الأجمل في هذا العرض المسرحي اعتماده على مجموعة من الممثلات ينتمين إلى أجيال مختلفة تتنوع فيها خبراتهن الأدائية، فعلى سبيل المثال نجد الممثلة سمر محمد وسوسن شكري ويشير تاريخ بدايتهما إلى مطلع سبعينيات القرن الماضي، ووقفت إلى جانبهما بقية الممثلات اللائي ينتمين إلى الأجيال الجديدة بالقياس إليهما، مثل: بيداء رشيد وشيماء جعفر وايمان عبد الحسن وريتا كاسبر، وهذه إشارة جميلة تمنح بصيصا من الأمل تحت وطأة تراجع كبير في الحضور النسوي في المسرح العراقي خلال الأعوام الأخيرة خاصة في العروض الجادة.
ومن الناحية الاخراجية بقدر تعلقها بمهمة المخرج ووظيفته في استثمار الطاقات الأدائية للممثلين، كان من الواضح ان عواطف نعيم ولكونها امرأة إضافة إلى خبرتها الاخراجية المتراكمة، قد وجدت نفسها أمام فرصة كبيرة في ان تستثمر امكانات معطلة في تقنيات الممثلة العراقية خاصة وان خمسة ممثلات يقفن أمامها، وغالبا ما تكون المرأة الأقرب في فهم واستيعاب دواخل المرأة، وبذلك وجدنا عنصر الأداء قد اكتسب حضورا مؤثرا، وهذا يعود بلا شك إلى ان مجس المخرجة قد تمكن من لمس أغصان خضراء في قدرات الممثلات المشاركات. وفي هذا السياق لابد ان نشير إلى مسألة تبدو واضحة في تاريخ المسرح العراقي الحديث، حيث لم تمنح للعنصر النسوي ما يستحقه من فرص، بمعنى لم تعط للممثلات فرصة المشاركة بعروض مسرحية تعتمد بشكل أساسي على الشخصيات النسائية ليسمى العرض بالتالي بأسمائهن، ولعل فضل هذا العرض “سبايا بغداد” انه يعيدنا إلى تجربة مسرحية مهمة حملت عنوان “بيت برناردا البا” للكاتب الاسباني فدريكو لوركا، كان قد أقدم عليها المخرج الرائد سامي عبد الحميد في سبعينيات القرن الماضي وأعادها بطاقم آخر من الممثلات في الثمانينيات، اعتمد في تقديمها على مجموعة من الممثلات العراقيات، وكذلك عرض آخر بعنوان “ترنيمة الكرسي الهزاز” للمخرج عوني كرومي اعتمد فيه على ممثلتين أساسيتين انعام البطاط واقبال نعيم، واكتسب العرض في حينه تألقا وأهمية لدى الوسط الفني والجماهيري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق