تصنيفات مسرحية

الأربعاء، 8 مايو 2019

قراءة في العرض المسرحي: "كل شيء عن أبي" مَسْرَحَةُ السَّرْدِ الْحِكائي في قالَبٍ فُرْجَوي اقتباس وإعداد الفنان بوسلهام الضعيف

مجلة الفنون المسرحية 


               د. عبد الرحمن بن إبراهيم

قراءة في العنوان: "كل شيء عن أبي" جملة إسمية، يقترن الاسم "أبي" بياء المتكلم. المسرحية مقتبسة من النص الروائي "بعيداً من الضوضاء قريبًا من السكات" لمحمد برادة. وإذا علمنا أن موضوع الرواية – أية رواية- هو المعيش اليومي لجماعة بشرية، وأن مادتها هي الحياة بآلامها وآمالها. وإذا أخذنا في الاعتبار قدرة الرواية على التقاط التفاصيل البسيطة والمركبة في تمظهراتها الاجتماعية والنفسية والعاطفية واللاشعورية لإيقاع الزمان والمكان، وذلك بواسطة الطبيعة البوليفونية التي يتسم بها النسيج الروائي، والخاصية الحوارية التي تجمع بين المؤتلف والمختلف التي يتضافر فيها السرد والوصف والأحداث والشخصيات؛ فإن اختزال عالم روائي في شخصية مفردة فيه مدعاة إلى التساؤل: من هو هذا "المتكلم" الذي تربطه بهذا "الأب" رابطة الدم.؟ نحن إذن بصدد شخصيتين، ظاهرة التي هي موضوع "الرسالة": الأب. و"المُرْسِل" شخصية مُضمرة: الإبن. 
      للكلمتين "كل شيء" مؤشران اثنان: الأول: أننا بصدد بوح يعري المكبوت، ويفضح المستور في إطار فرجة مسرحية. والثاني أن الشخصية المركزية "الأب" تمثل بؤرة العرض باعتبار حضورها المؤثر في كل مراحل العرض. وهي ذات دلالات رمزية تتبدى في الوطن الذي سعى كل أبنائه في سبيل إعلاء شأنه، وصون كرامته. وهو أيضا رمز لرواد الحركة الوطنية الذين عُوِّل عليهم في تحقيق الأماني وبلوغ الآمال المعقودة، وفي ذلك إحالة على الذهنية المغربية التي ترى في الأب رمزاً للأمن والأمان وفي حضوره سنداً وقوّةً، وتعكس حالةً شعوريةً ولاشعوريةً إلى الزعامة الفردية.   وتبعاً لذلك، فإن سقف انتظارات  جمهور المتفرجين سيكون عاليا لأن الأمر يتعلق بشخصية مسرحية مركبة جعلت من مسار حياتها، ومن خصوصياتها، حتى الحميمية منها مادة للعرض، وموضوعاً لمتعة بصرية على قدر من الإثارة. إن الأمر يتعلق بـ "كل شيء" بدون استثناء. 
تيمة المسرحية: أخطر مرحلة زمنية في تاريخ المغرب الحديث: الحماية الفرنسية في النصف الأول من القرن العشرين، تلاحم الحركة الوطنية والقصر في المقاومة الذي انتهى بإعلان الاستقلال في الخمسينيات. الإطاحة بحكومة عبدالله إبراهيم في الستينيات، وما صاحب ذلك من تقلبات سياسية، واضطرابات اجتماعية، وما أفرزته من أحداث يصطلح عليه في القاموس السياسي المغربي بـ "سنوات الرصاص" في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. وستتأزم الأوضاع في التسعينيات لتبلغ درجة الخطر المتمثل فيما عُرف بـ "السكتة القلبية"، جراء الاحتباس الحزبي والصراع السياسي مع القصر الذي أفضى إلى حكومة التناوب بقيادة اليسار المغربي المعارض. وهو التوجه الذي صعقه مَدُّ الربيع العربي الذي فاجأ  راهنية المشهد السياسي؛ فجرف الأحزاب، وعصف بالرفاق. وكانت فرصة العمر للإخوان .
     استفاق الأب من أحلام اليقظة التي راودته ودغدغت آماله في قطف ثمار الاستقلال التي أينعت، وحان قطافها، وزين له تهافته أنه صاحبها. حلقت به بعيدا في الأعالي ليهوي إلى قاعِ بلا قرار أحال طموحاتِه سراباً.... نظر حواليه: نفس الوسادة، نفس الحلم، أثقل مخيلته بآمال تبدَّدت أوهاماً. بدا أعجز من أن يتلمَّس أجوبة شافية لأسئلة حارقة عن وقائع صادمة؛ غير أنه صاغ سؤالا مكشوفاً جوابه في ذاته:
ماذا تغير؟ لا شيء تغير !.
يتغير الأشخاص ولم تتغير العقليات !.
الشخصيات: أربع شخصيات مسرحية تقاسمت الأدوار في العرض الممتد على مساحة زمنية مقدارها ساعة واثنان وعشرون دقيقة، وثمانية مشاهد.
توفيق الصادقي: ابن مدينة الرباط، والده يعمل في الإدارة الترابية بصفة قائد في ظل الحماية الفرنسية. كان محل شك وريبة في وطنيته من طرف رجالات الحركة الوطنية، إِنْ كان وطنيا أو  خائنا ومُخبِرا مُتعاونا مع الفرنسيين. لكن المعلوم أنه محل ثقة الفرنسيين بحكم أنه كان حافظا للقرآن وذا مستوى محترم من الكتابة والقراءة.
 توفيق الصادقي مستهتر، أناني، إنتهازي ووصولي. تابع دراسته في الثانوية الفرنسية. يعترف بفضل فرنسا على المغرب باعتبارها مصدر الأنوار والحضارةles Lumières et la civilisation  ، كان موظفا في إدارة مصلحة الضرائب التي أتاحت له فرصة ربط علاقات إنسانية كثيرة. وبموازاة بذلك كان يتابع دراسته العليا في القانون، بعد أن نال شهادة اللسانس في القانون من جامعة Bordeaux بفرنسا عن طريق المراسلة، كان ذلك قبيل الاستقلال بقليل (1953)، أي السنة التي نُفي فيها السلطان محمد الخامس، واشتعلت المقاومة المسلحة، وتعبأت الحركة الوطنية ضد سلطات الحماية في جل المدن المغربية الدار البيضاء وفاس والرباط. استقال من العمل الإداري في مصلحة الضرائب ليمارس المحاماة. يعترف بفضل فرنسا على المغرب، على الرغم مما عاناه المغاربة من قتل وسلب قمع ونفي وقهر ونهب لثروات البلاد. لقد أبان توفيق الصادقي عن دناءة فجَّةٍ وهو يدافع عن فرنسا. إنه انتهازي أناني، يضع مصلحته الفردية في الاعتبار الأول. توفيق الصادقي يعاني من صراع داخلي. المحامي الفرنسي شرح له بأن الأمر يتعلق بالهوية problème d’Identité. يساوره إحساس بأن فترة الاستقلال ستخلق له مشاكل: <<خايف على راسي، خايف من اللي جاي، الاستقلال شنو غادي يجيب معاه>>. 
بـ- علي الصادقي الأصغر: ثائر ومناضل، ورافض للتخلي عن السلاح حتى التحرير التام لكل شبر من الوطن وتحرير الجزائر، متشكك في نوايا قيادة الحركة الوطنية.  ولا يتردد في فضح عمالة أبيه  للمستعمر الذي عمل قائدا في منطقة زعير أيام الحماية. مواقفه اليسارية تتناقض مع أفكار أخيه المهادنة التي يرى فيها استسلاما وقبولا بالأمر الواقع. لذلك، فهو في حرب كلامية دائمة مع أخيه. يعتبر أن الاستقلال ناقص، وأن فرنسا هي الرابحة والمستفيدة. كان مبحوثا عنه من طرف أجهزة الاستعلامات، ومهددا بالاعتقال. توارى عن الأنظار خوفا من عيون المخبرين. لم يعد له أثر. كتب رسالة إلى أخيه توفيق الصادقي يقول فيها: <<سلم على الوالدة، وأخبرها أني بخير. لا مكان لي في المغرب، أرض الله واسعة>>.
جـ- فدوى الصادقي: انتقلت إلى فرنسا لمتابعة دراستها بعد حصولها على البكالوريا بميزة حسن جداً. تعرفت على زميل لها في الدراسة، فرنسي الجنسية مسيحي الديانة. تزوجت به زواجا مدنيا ضدا على التقاليد والأعراف التي تراها متخلفة ومتجاوزة. ودون اعتبار لأبيها الذي أصر على أن يتم الزواج وفق الشريعة الإسلامية. 
د- نبيهة سمعان: طبيبة متخصصة في الطب النفسي. التحقت بكلية الآداب في الرباط في سبعينيات القرن الماضي. كانت مهووسة باكتشاف أنوثتها، والرُّضوخ لرغبات الجسد المُلحة. انتقلت إلى فرنسا لمتابعة دراستها في علم النفس. تخلصت من بكارتها وفعلت بجسدها ما تمليه عليها غرائزها. كان فضاء الجامعة بالنسبة إليها فرصةً لتأكيد شخصيتها كأنثى متحررة من زيف فكرة الحفاظ على طهارة الجسد حتى ليلة الزفاف. 

الأحداث: 
اختفاء  الطالب الراجي صالح. شخصية غامضة وغائبة، من جيل الاستقلال. ولد سنة 1975، مجاز في التاريخ من كلية آداب فاس. عاطل، يرتبط بعلاقة عشق وغرام بالأرملة رقية التي تعيش من معاش زوجها المتوفى. يتردد عليها مرة كل أسبوع. لا يهتم بالتاريخ القديم. التاريخ بالنسبة إليه هو الحاضر. لا أحد يعرف وجهته، هل تعرض لعملية اختطاف؟ أو فرَّ هارباً إلى وجهة مجهولة؟ أم امتطى قوارب الهجرة السرية.؟ 
بـ- حل منظمة اتحاد طلبة المغرب. أصبحت أثراً يُستشهد بها عن تفاقم أزمنة الرصاص. مواجهات دامية بين القاعديين المتمركسين، والأصوليين المتأسلمين  في ظهر المهراز بفاس. وسهرات ليلية مختلطة وراقصة في جامعة الرباط. وكانت الفرصة للإناث للتحرر من القبضة الحديدية للأسرة، والتمرد على طهارة الجسد.
 جـ- استقلال المغرب ناقص. وفرنسا هي الرابحة، لأن الموالين لها من المغاربة هم من يتولى المناصب العليا، وهم أصحاب القرار، وأصحاب العقد والحل. أما الاعتقاد بأن مصير المغاربة قد بات في أيديهم فذلك َوهْمٌ. <<الكبير: القرار بيدي وبيدك. الصغير: فيديك الخوا.. الكارطا تايْتِيْكوها وتَايْلَعْبُو بها غير بيناتهم>>(المشهد الرابع) أولئك الأشباح    Les Fantômes . وفي تصور علي الصاقي فالأمر يتعلق فقط بالقصر والحركة الوطنية وقليل من الإقطاعيين الذين اشتغلوا في فترة الحماية مع فرنسا. سيظلون يدافعون عن مصالحها في المغرب. والرابح والمستفيد الأكبر هو المخزن، ونحن عرضة للضياع. التشكيك في نوايا الماسكين بزمام القرارات المصيرية الذين أسقطوا أول حكومة في عهد الاستقلال، حكومة عبد الله إبراهيم. والأخبار الرائجة تتحدث عن اعتقالات ومحاولة انقلابية. الخوف هو سيد الميدان. 
د-  فشل توفيق الصادقي الذي ربط تحقيق أحلامه الوردية بالاستقلال، وَعَمَّهُ إحباط شديد حين اكتشف  أنه كان مخدوعا، وأنه كان يبني قصورا من الأوهام. كانت الصدمة كبيرة، تذكر بالضبط ما قاله يوماً Monsieur Claude المحامي الفرنسي الذي اشتغل عنده. <<لقد استوعب بالتحديد ما كان يدور في ذهني: حرب بين القلب والعقل، تناقض بين ما هو فرنسي عصري حداثي وبين ما هو مغربي تقليدي محافظ. لقد قررتُ أن أصير شخصا آخر رغم  قناعتي الراسخة أني لن أتغير أبداً. إيماناً بالمقولة المأثورة: قطعة الخشب لن تتحول إلى تمساح ولو بقيت ما بقيت في النهر.>> 
هـ- توفيق الصادقي يرسل ابنته إلى فرنسا فدوى لمتابعة دراستها بعد حصولها على البكالوريا. هناك حيث سيلتقي بأخية الصغير علي الصادقي الهارب من المغرب.
و- عودة فدوى بنت توفيق الصادقي من فرنسا، بعد إصابتها بشرخ نفسي خطير في كيانها المعنوي. أصيبت بالأرق، ولا تنام سوى بالمهدئات. تعاني من عزلة قاسية وآلام مُبَرٍّحة، مطلقة بعد زواج دام ثلاثة أعوام. لا تقيم اعتباراً لشيء اسمه سلطة الأب، العائلة، التقاليد والمجتمع: <<العائلة كذوب ونفاق، بزاف ديال النفاق، بزاف ديال الكذوب>>. علاقتها بأمها مريم عادية، أما أبوها المحامي الكبير فهي على خلاف كبير معه. تصدى لمحاولتها الزواج من الفرنسي ميشيل Michel المسيحي. 
ز-   افتتاح الدكتورة نبيهة سمعان لعيادة للطب النفسي في الدار البيضاء بعد عودتها من فرنسا. وسبب اختيارها هذا التخصص عائد إلى اصطدامها بوضعيتها كأنثى في مجتمع ذكوري يعاملها بدونية فظيعة. 
حـ- بؤس الممارسة السياسية في الأحزاب التي خرجت من رحم الحركة الوطنية، وفشلها في تولّي زمام الأمور.  
الحوار: إذا كان الحوار يمثل الحجر الأساس في البنية الدرامية لأي عرض، وبه يتمز الفعل المسرحي عن سائر الأشكال التعبيرية الأخرى؛ فإنه في مسرحية "كل شيء عن أبي" ينفرد بحضوره المؤثر في تطور الأحداث. ومن خلاله يمكن للمشاهد أن يتعرف على البنية الذهنية للشخصيات المسرحية، وعن ماضيها وتطلعاتها المستقبلية. وقد نَحَتَ المخرج لغة محكية ساهمت في مسرحة الحوار، وفي تفجير الطاقة التعبيرية للشخصيات المسرحية سَمْعِيّاً في الملفوظ الكلامي الذي تمثل في البوح الذي خلق الحدث على الركح المفترض في مخيلة المتلقي. وَبَصَرِيّاً في التعبير الجسدي الذي تجسد في الرقص،   والحركة، والأزياء. وهو ما خلق أجواءً مشحونةً بالإثارة والإدهاش على مدى كل العرض. وقد تمثل- بحكم المادة التاريخية-  في ثلاث مستويات:
مستوى أول: حوار مباشر وصريح في سبعة مشاهد: (الأول) حوار بين الممثلين الأربعة في موضوع الراجي صالح، (الثالث) حوار ثنائي بين الأخوين الصادقي عن عمالة أبيهما للمستعمر الفرنسي، (الخامس)  حوار بين الأخوين الصادقي بخصوص الموقف من المقاومة المسلحة، وصراع الحركة الوطنية مع القصر، (السابع) حوار ثنائي بين الأخوين الصادقي في باريس في موضوع الموقف من فرنسا)،  (العاشر) حوار ثنائي بين فدوى ونبيهة سمعان في موضوع معاناة الأنثي من القيم الاجتماعية الذكورية السائدة،  (الحادي عشر) حوار فدوى مع أبيها في موضوع الزواج من ميشيل الفرنسي)،  (الثاني عشر) حوار فالح الحمزاوي وحفيظ السدراتي عن القيم الحزبية والنضالية.
بـ- مستوى ثان: سردٌ لِحكايةٍ ذاتيةٍ:  (الثاني) الممثلون الأربعة يسردون قصة طفولتهم، (الرابع) توفيق الصادقي يتحدث عن موقفه من مراحل دراسته بالمراسلة من جامعة بوردو الفرنسية، ووظيفته الأولى في مصلحة الضرائب وكمحامي، (السادس) توفيق الصادقي يسرد قصة زواجه   من مريم، وحصول بِنْتِهِ على البكالوريا وانتقالها إلى فرنسا)، (التاسع) نبيهة سمعان تتحدث عن تجربتها في تخصصها الجامعي في الطب النفسي، (الثالث عشر) نبيهة سمعان تسرد وقائع مراهقتها، ودراستها الجامعية، وتعرفها على رجياني الطالب الإيطالي في فرنسا.
جـ- مستوى ثالث: الحوار الذاتي (الاستبطان الداخلي): (الثامن) آمال توفيق الصادقي وأخيه في تحقيق تطلعاتهما الانتهازية بعد الاستقلال. 
البنية الدرامية: الحديث عن البنية الدرامية يقتضي بالضرورة تحديد نوع العرض المسرحي. وبناءً عليه، أين يمكن تصنيف مسرحية "كل شيء عن أبي".؟ وإذا كان الأصل في الدراما أنها <<لا تتوقف على نقل ما في الحياة ، بل ما يمكن أن يحدث في الحياة،>>1 فإننا بصدد ما يمكن اعتباره "دراما المواقف" مندرجة في إطار الترجيكوميديا. فالنَّفَسُ التراجيدي في المسرحية يتمثل في كونها تناولت وقائع حقيقية، وأحداثاً جادة: الصراع على السلطة. وهي التي تأسَّسَ عليها المعمار الدرامي:
البداية: المقاومة المسلحة، وتحالف الحركة الوطنية مع القصر .
بـ-  الوسط: سقوط  حكومة عبد الله إبراهيم بفعل مكائد عملاء الاستعمار، وتداعيات ذلك المتمثلة في سنوات الرصاص، الاعتقال، الإختفاء القسري وانتهاءً بالسكتة القلبية.
جـ- النهاية: الربيع العربي وإفرازاته، دستور 2011، أفول الرفاق وصعود الإخوان.
أما النَّفَس الكوميدي فيتبدى في المواقف الهزلية التي تُكسِّرُ الحدث الجاد، وتعرقل استمراريته في اتجاه تصاعدي. وإحلال الكوميدي الملهاوي في صلب الحدث الجاد لبعثرته:
<< - أنا أهتم بما يعيشه مجتمعي، ومحتاطاً من التورط في موقف متحيز
وأنا أهتم بعلاقات نسائية من دون عواقب، مع الحرص على التعددية العواطفية، مستحضراً المثل: أنقب واهرب>>.(الحدث الثاني) 
وغالبا ما يتم حشر الحدث الكوميدي بالحدث التراجيدي أو العكس حسب تطور الحبكة المسرحية بغية استهادف المتفرج في المقام الأول: 
<< - خَطَبَ الملك وقال لهم خرجنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
المقاومة ما بغاوش يحطو السلاح
عندهم الصح، البلاد خصها تحرر كاملة، ونكملوا حتى الجزائر
L’indépendance الاستقلال
البلاد ولات Atelier كبيرة
خَطَبَ وزير الإقتصاد وقال للمغاربة كولوا الحوت، باركا من اللحم.. اللحم كيدير الكوريسطيرول.. كولوا السردين، الميرلا، وبوزروك...>> (الحدث الخامس)
إن الفعل النبيل والفعل الهزلي في التصور الأرسطي للتراجيديا والكوميديا يقابله في التراجيكوميديا الفعل الخيِّرُ والفعل الشِّرٍّير. وتبعاً لذلك، فالشخصيات المسرحية إما أن تكون محل رضًى وإعجاباً، أو مبعث سخط واستنكار بالنظر إلى علاقتها بالحدث. وبناءً على ذلك، فهل كانت الشخصيات المسرحية في "كل شيء عن أبي" محل إثارة وإعجاب أو مبعث استهجان واستصغار.؟
لا يمكن الحديث عن الشخصية المسرحية إلا في اقترانها بمن يشخصها. فقد أبان الممثلون عن تفنن في الأداء يتبدّى في كونهم حافظوا على مسافة معينة تجاه الشخصية الممَثَّلَةِ، ولم يتيحوا لها أن تلبسهم، بل إنهم أثبتوا قدرتهم على التخلص منها بسلاسة مما أتاح للحوار ومن خلاله الأحداث أن تتطور أفقيّاً عبر الزمن المادي، وعموديّاً عبر الزمن النفسي عبر الاسترجاع الذاتي والسرد الحكائي. وهو ما سمح للمتفرج بالتمييز بين الممثل والشخصية المسرحية، وفي ذلك يكمن سر الفرجة المسرحية التي حققت المتعة البصرية. 
   لقد اعتمد المخرج بوسلهام الضعيف على تقنية الحوار مقترنة بعتبير جسدي موازِ في المقام الأول. ولا يمكن الحديث عن حدث/أحداث مقرونة بالفعل بالمفهوم الأرسطي الذي يراد به <<محاكاة لفعل نبيل، جاد وتام في ذاته>>2؛ بل إننا نؤكد على أن خصوصية عرض "كل شيء عن أبي" تتأسس على المنطوق الكلامي المشبع بالمونولوجات، وبالحكي المسترسل لأن الأمر يتعلق بأحداث تاريخية وبسرد وقائع اجتماعية و تعرية حالات نفسية، لا يمكن تخيلها كفعل/أفعال عدا في مخيلة المتفرج. وكذلك اقتضت الرؤية الإخراجية للمخرج الذي وزع اللعب المسرحي بين فضاءين اثنين:  فضاء سينوغرافي بصري سمعي أمام الجمهور : الشخصيات والحوار، وفضاء تخييلي تجري فيه الأحداث: ذهن المتفرج. وإذا كان الأصل في الحوار هو الكشف عن الشخصيات والتعريف بها، وتحديد مسار الأحداث؛  فإن المخرج لم يستهدف الأحداث في حد ذاتها؛ بل إن وظيفة الإخراج تحددت أساساً في استدراج المتفرج باعتباره طرفاً معنياًّ. وبذلك اكتسب الحوار خاصيته الدرامية،  وارتقت الأحداث الجارية في مخيلة المشاهدين إلى مستوى الفعل الدرامي. 
  من الجائز أن نقر في مسرحية "كل شيء عن أبي" بما يمكن أن نصطلح عليه بـ "الحتمية الدرامية" التي تقتضي تسلسل الأحداث في إطار علاقة عضوية ومنطقية بينها؛ غير أن النَّفَسَ التراجيكوميدي خلَّفَ ظلاله على  الحوار، ومن خلاله على الأحداث التي  تطورت – نتيجة لذلك- في غير أفق انتظار المشاهد. وفي ذلك يكمن البعد الفرجوي  الذي يقتضية النَّفَسُ الترجيكوميدي. فقد حصل انشطار في الحوار الذي تناول ثلاثة مواضيع لا رابط بينها أفقيّاً:  الزواج، السياسة، الجنس 
الزواج: (بين فدوى وأبيها)
<< - فدوى: الوليد بغيت نتزوج
مزيان الزواج نصف الدين، وشكون هاد العريس؟
ميشيل
شكون هاد ميشيل
تيقرا معايا في فرنسا
فرنساوي؟
Oui
مسلم؟
لا
وغادي يسلم
 Je ne lui pas posé la question.>>
بـ- السياسية (بين فالح الحمزاوي وحفيظ السدراتي في مقر الحزب الاشتراكي)
<< - يجب الحفاظ على المكتسبات انطلاقا من موقع المعارضة لمواجهة المخزن الذي يعانق الاستبداد إلى آخر رمق يا رفيق
أنا ما بقيتش رفيق، أنا أخ>>.
من فضلكم، نقطة نظام.. نقطة نظام.. نديروا نقطة نظام  باش نديروا نقطة نظام..>>
جـ- الجنس: نبيهة سمعان تتحدث عن فترة الحياة الجامعية) 
<< لم أكن بتولاً عذراء.. في سبعينيات القرن الماضي.. خلال دراستي الجامعية بالرباط كانت جرأة الطالبات على اكتشاف مكنونات جسدهن، والبحث عن الحب من مناخ التمرد والتطلع إلى التغيير. منظمة الطلاب تنظم سهرات راقصة للتعارف، وتثبيت الاختلاط. والحلم بقصص الحب في ظلال الجامعة يدفعنا إلى التمرد على التقاليد التي تحث على صيانة الجسد طاهراً قبل الزواج.>>
يكشف مضمون الحوار في المقاطع الثلاثة أن الشخصيات المتحاورة عاجزة عموديّاً كذلك على التواصل مع الآخر أو مع الذات سواء في الحاضر أو الماضي.. فقد بدت عاجزة عن صنع "الفعل". وكان طبيعيا أن ينتهي الأمر بالأخوين نهاية مأساوية علامتها الخذلان والاستسلام والتنكر فجأةً للمبادئ التي آمنا بها وحاربا من أجلها:
علي الصادقي المقيم في فرنسا: <<الجُمُعَة نصليها في الصف الأول حْدا الناس المهمين. كلشي تيحترمني، وتيبندق لي. ما سوقيش في الحرية، وفي هموم البشرية..>>
توفيق الصادقي: <<تمنيت كن كنت فبلاصتو، عايش بويهمي مع راسي في فرنسا. نشرب البيرة في الصباح، ونكملها بقرعة فالعشية. أسُبُّ العالم، وباسم عالمية الثورة نتصاحب مع كاع البنات من كل الجنسيات...>>
اللغة المسرحية في "كل شيء عن أبي": حين نتحدث عن اللغة المسرحية فالمقصود هو أشكال العلاقات التواصيلة التي يوظفها المخرج لتبليغ رسالة العرض. فالتواصل بين الممثلين في فضاء اللعب على مستوى الكلام الملفوظ يأخذ أبعاداً مركبة في اتجاه الفضاء الدرامي. فالمتلقون يستقبلون الرسالة من خلال لغة سينوغرافية مركبة قوامها علامات سيميائية سمعية بصرية غير متجانسة. وعليهم محاولة الربط بين المكونات السينوغرافية بحثاً عن خيط ناظم يفك شفرات العلامات المرسلة بكثافة، ويوصل إلى معنى الأحداث الجارية أمامه. ويمثل المكان (الركح) بؤرة سيميائية بامتياز. ففيه تتناسل المكونات السينوغرافية باستمرار إلى الدرجة التي قد يصعب  ذهنيا على المتلقي أن يستوعبها ويعيد صياغتها أفكاراً. الدوائر الأربعة المتحركة شكلت مركز انشغال اعتباراً لحضورها المؤثر في كل مشاهد العرض. وهو ما شكل بكل تأكيد استفزازاً ذهنيا على مستوى التلقي: لماذا الرقم أربعة بالضبط وما دلالته،؟ أربعة ممثلين،؟ أربعة كراسي ثابتة على ضفة دائرة الضوء وسط الركح ثابتة في مكانها؛ بينما لا تكاد الدوائر تَثُبُتُ على حالة إلا لتأخذ وضعية مغايرة تبعا لتحول المشاهد.؟ 
   أربعة أحداث: أوّلاً المقاومة في مرحلة المقاومة والاستقلال وسقوط حكومة عبد الله إبراهيم في الخمسينيات والستينيات. سنوات الرصاص خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات ثانيا. والسكتة القلبية وحكومة التناوب التوافقي في التسعينيات ثالثاً. ورابعاً، الربيع العربي وخروج قمقم الإسلاميين من رحم 20 فبراير. 
   كان الخروج من الدوائر ودخولها من جديد دلالة على الأزمنة الدائرية التي تنم على مراوحة الأشياء لمكانها وزمانها. وأن الزمن المغربي في دورانه الذي تكرر أكثر من مرة دلالة على أن الإنسان المغربي لم يتمكن بعدُ من الدخول إلى التاريخ، وصناعة الحدث في التاريخ. وفي كل حدث من الحوادث الأربعة الحاسمة في تاريخ المغرب الحديث كان المغاربة ينطلقون ليعودوا إلى نقطة الصفر. وكان للأنساق البصرية والسمعية دور في رسم معالم المشاهد. ، فالإضاءة ظلت باهتة ثابتة على حال واحدة على مدى كل مشهد كامل، كما أنها لم تشمل إلا حيزاً محدوداً من فضاء اللعب. وفي هذه العتمة المهيمنة دلالة على أن المشهد السياسي المغربي يفتقر إلى الشفافية والوضوح التامَّين. إن سعي المتفرج إلى بذل مجهود بصري أكبر من أجل تَبَيُّنِ مكونات الفضاء السينوغرافي ما يعكس حال المواطن المغربي الذي سعى بكل ما أوتي من طاقة إلى فهم ما يجري لينتهي به الأمر إلى ضبابية أكبر.    
   أما المؤثرات الموسيقية فقد حضرت من خلال مقاطع من موسيقى تراثية مغربية؛ وفي اختيارها دلالة على حس معرفي وجمالي في ذات الآن. معرفي لأن في الإيقاع الكناوي تعبيراً عن أصالة الإنسان المغربي، واستحضاراً لهويته السوسيوثقافية، واعتباراً للبعد السيكولوجي للمتفرج. وجمالي لأن توظيفها في وضعيات ركحية معينة زاد من حمولتها الدرامية خصوصاً في المشاهد التي ساد فيها الحوار الثنائي والاستبطان الذاتي (المونولوج)، وفي المساحات البيضاء بين مشهد وآخر.
                    المخرج بوسلهام الضعيف رئيس فرقة الشامات - مكناس

                                            الناقد والروائي محمد برادة مع المخرج المسرحي بوسلهام الضعيف.

هوامش:
- عادل النادي، مدخل إلى فن كتابة الدراما، نشر وتوزيع مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله – تونس، ط1-1987، ص62  
2 - أرسطو طاليس، فن الشعر، ترجمة وتعليق إبراهيم حمادة، هَلَا للنشر والتوزيع- الجيزة، مصر، ط1-2014، ص111


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق