مجلة الفنون المسرحية
مجدي بو مطر :النص هو المسرح الإنكليزي والأوروبي المستعمِر
مجدي بو مطر :النص هو المسرح الإنكليزي والأوروبي المستعمِر
منى مرعي
بنى المخرج اللبناني الكندي، مجدي بو مطر، تجربته المسرحية، مستنداً على سلسلة من التجارب، مراكماً ما تعلمّه في معهد الفنون في الجامعة اللبنانية،
وفي الجامعة اللبنانية الأميركية من ناحية، وما اكتسبه من المركز العربي الإفريقي للتكوين والبحوث المسرحية، الذي أسسه المسرحي التونسي الراحل عز الدين قنون من ناحية أخرى. يسعى بو مطر إلى تحويل خشبته وورش عمله الى مساحاتٍ للتساؤل. هذا الرجل العملي، الذي لم يوفر مخرجاً مسرحياً في كتنشنر في كندا إلا وقابله ليأخذ بمشورته وليطلب منه ثلاثة أسماءٍ أخرى كي يقابلها ليقدم لها عمله، مشغول بالصورة وبالمشهدية. تعنيه المسرحة أكثر من أي شيء آخر. أتى الى بيروت ليشارك في مهرجان "ربيع بيروت"، ليقدم مسرحية "الشقف" وهي عبارة بالتونسية تعني الطوافة في إشارة الى قوارب اللجوء. التقت "المدن" بو مطر للإضاءة على مجمل عمله، وكان معه هذا الحوار.
- من أين ينبع شغف مجدي أبو مطر بالمسرح، وكيف اختاره مهنةً له؟
عندما كنت طفلاً أردت أن أصبح طبيباً بيطرياً. كنت أقضي معظم الوقت في القرية أربي الدجاج والأرانب. حين حصلت الحرب، عُزلت غالبية المناطق اللبنانية عن بعضها بعضاً. ثم انطلقت مهرجانات بيت الدين، وكنت في الكشاف التقدمي الاشتراكي، واقتصرت مهمتي كعنصر كشفي، في الثانية عشر من عمره، على التنظيم وإرشاد الحاضرين الى مقاعدهم. شكّل المهرجان أول احتكاك لي بالمسرح والرقص والموسيقى والفنون الشعبية أيضاً... منذ اللحظة الأولى، أصابني الذهول وصرت مغرماً بالمسرح. حينها قرّرت أن هذه هي مهنتي وبت أتابع مسرحيات على شرائط مسجلة، منها مسرحيات دريد لحام منها "غربة" أو "كاسك يا وطن" اللتان حضرتهما أكثر من خمس مرات، كذلك الأمر مع مسرحيات أخوت شانيه، "عرس الأخوت" أو "أخوت حتى الحرية"... وبات لدي شغف أن أصبح كدريد لحام أو كنبيه أبو الحسن. هاتان الشخصيتان الشعبيتان أثرتا فيّ كثيراً. وطبعاً سمعت مسرحيات الرحابنة وحفظت مسرحيات زياد الرحباني، وكان هذا التراث المسجل مرجعاً لي، الى أن عُرضت مسرحية "كاسك يا وطن" في بعقلين على خشبة مسرح فخرالدين الذي تأسس العام 1987 على ما أعتقد. قبل ذلك، لم أكن أعرف المسرح الا من خلال شرائط التسجيل ومهرجانات بيت الدين. ثم لاحقاً قدمت مسرحية "مرسيلييز العربي" التي مثلها وأخرجها أنطوان كرباج. أذكر أن كرباج، قدّم مونولوجاً يحدّث فيه جدته في القرية، أقتبسته وقدمته في امتحان الدخول في معهد الفنون العام 1991 وقُبلت في الامتحان.
- قبل معهد الفنون، بنيتَ رؤيا معينة عن المسرح، مبنية على مشاهداتك وعلى الثقافة الشعبية، بينما كان لمعهد الفنون مقاربة مختلفة ورؤيا مغايرة، فإلى أي مدى تبدل منظورك للمسرح بعد انضمامك الى المعهد، وثم الى الجامعة اللبنانية الأميركية؟
بالتزامن مع انضمامي الى معهد الفنون، فزتُ بمنحة جامعية تتيح لي اختيار أي جامعة أريد على الأراضي اللبنانية. المنحة أتت نتيجة مشاركتي في مسابقة حول فكر كمال جنبلاط، وهي عبارة عن كتيّب يتضمن عشرين سؤالاً فكرياً حول كتب كمال جنبلاط. كنا نأخذ الكتيّب الى البيت، نقرأه ونجيب على تلك الأسئلة. نلتُ المرتبة الثانية في هذه المسابقة، وكنتُ قُبلت في الجامعة اللبنانية. حينها قال لي والدي "لن تفوّت عليك هذه المنحة، يجب أن تنضم الى جامعة خاصة". قدمت على الجامعة اللبنانية الأميركية بعد فترة وجيزة، وصرتُ أدرس في الجامعتين. عندما انضممتُ الى معهد الفنون، وجدتُ أن مشاهداتي كمراهق ليست هي المسرح. في المعهد، هناك نظرة دونية للمسرح الشعبي، لكني في الوقت نفسه، وجدتُ نفسي في بيتي. مع معهد الفنون، بنيت فصلاً جديداً من حياتي، علمني كيف أقف على الخشبة وكيف أتمكن من أدواتي كممثل وبدأت أفهم كيفية العمل على الجسد، والبناء وتركيب الشخصية والعمل الجماعي وكنت أصاب أكثر فأكثر بالذهول. حينها كنت مقتنعاً أنه كلما كان المسرح ذهنياً ومعقّداً واختبارياً كلما كان أكثر أهمية. وكنا نتطلع لعروض مثل "الجيب السري" لسهام ناصر ونقول لأنفسنا "هذا هو المسرح"... وهو المسرح الجدّي، الاختباري، التجريبي الأسود، العنيف، المبني على ملَكات الجسد. في معهد الفنون تعلمت التمثيل، كيف أقف على الخشبة، كيف أفكر... وفي الجامعة اللبنانية الأميركية، كنت أملك الفضاء والتقنيات لاستعمال خبرات معهد الفنون. كان هنالك فرصة لممارسة ولتطبيق ما كنت أتعلمه في المعهد.
- ما الذي دفعك إلى الإخراج تحديداً؟
كنتُ في البداية أرى نفسي ممثلاً، لكني حين قدمتُ مسرحية التخرج "نجنسكي ساعة زواجه بالرب" للكاتب الفلسطيني جليل القيسي، أدركت أني سأكون مُخرجاً. جمعت في هذه المسرحية عمر راجح، باسم مغنية، كارول عبود، رينيه ديك.. كان يهمني كثيراً إدارة حركة جسد الممثلين وعلاقتهم ببعضهم البعض وأهمية الصورة والمشهدية. لاقت المسرحية استحساناً، وطلبت نضال الأشقر أن تُعرض بشكل احترافي في مسرح المدينة. وفي العام 1999، قدَّمتُ مسرحية "الآنسة" مع زي خولي في زيكو هاوس. والمسرحيتان لاقتا استحساناً في الصحف. صرت مصراً أنه علي كل عام، أن أقدّم مسرحية وأن أفرض وجودي في البلد. فقدمت العام 2000 مسرحية "شي متل ماكبث" كتبها، عمر أبي راجح وكنا آنذاك زمن ما قبل التمويل. كنا نقوم بحسابات مالية ونقول هذا هو عدد البطاقات التي وجب بيعها لتغطية تكاليف العرض والممثلون لا يقبضون أو يقبضون مبلغاً رمزياً وكل التكاليف تدفع من بيع البطاقات.
- بمَن تأثرتَ من الناحية الفنية؟
أعتقد أن مشاهدتي لـ"عشاق المقهى المهجور" للفاضل الجعايبي، كان محطة مؤثرة لي. وقلت لنفسي أن هذا هو المسرح الذي أود القيام به. شاهدتها خمس مرات وأحببت إيقاع اللهجة التونسية كثيراً. ثم تعرفت على المخرج التونسي عز الدين قنون في بيروت، وقال لي سنؤسس المركز العربي الأفريقي للتكوين والبحوث المسرحية، وانضممت لورشة عمل الممثلين. أمضيت بين العامين 2001 و2002 في تونس، ثم ذهبت الى كندا العام 2003 وعدتُ خلال هذه السنة لأنهي الدراسة في المركز. العمل مع عز الدين قنون، كان نقطة مفصلية في حياتي. هو يشبه نوعاً ما العمل في معهد الفنون، لكنه عشر مراتٍ أكثر تكثيفاً وصعوبة. الارتجال كان مهماً وأساسياً وصعباً، نذهب الى ورشة العمل في الصباح من دون أن نعرف أي ساعة سننتهي. الأمر الأساسي الذي تعلمته عند قنون هو ما يسمى بالـ"كتابة الركحية": كيف نخلق مسرحية من الخشبة الى النص وليس من النص إلى الخشبة. وهذه الطريقة التي ما زلت أعتمدها حتى اليوم. أمر آخر تعلمته منه هو المسرح العضوي- أي كيف تخرج الحركة بشكل عفوي منك دون أن تمثلها، يجب أن تكون نتيجة رد فعل دون افتعال وادعاء. كان يحثنا قنون أن نثق بأجسادنا... على الحركة أن تأتي من الجسد وليس فعل إملاءٍ من الرأس. أتذكره وهو يقول لنا "جسدكم هو الذي يعرف، هو الذي يتذكر...لا تفكروا". وما هو عظيم عند قنون هو اعتماده هذه التعددية الثقافية في بناء فريق الممثلين بين العرب والأفارقة. كلٌ منا كان يتحدث بلغة، ولم نكن قادرين على التفاهم في ما بيننا في يومياتنا الا على الخشبة. وهذا رائع.
- اعتمدتَ الأسلوب ذاته عندما انتقلت الى كندا وخلقت MT Space العام 2004، وهي مؤسسة تركز على مسرح قائم على إبراز الأصوات المهمشة وعلى التعددية الثقافية؟
المسرح يتعدى اللغة. الاختلاف الثقافي يُعتبر مصدر غنى للمسرح لأن كل ممثل يحمل في جسده حكايات وتاريخ وإيقاعات وأحاسيس خاصة بثقافته، وعندما تحتك عبر ارتجال مع ثقافات أخرى ينتج عنها فعل، ورد الفعل يخلق المسرح. عندما وصلتُ الى كندا، عرفت أني لن أوظف في المسرح الكندي. كنت قد جهزت "بورتفوليو" متقناً وترجمت المقالات التي كتبت عن عروضي في بيروت، وكلما التقيت بمخرج أو مدير فرقة كندي يقول لي "جميل ولكن لا نعمل بهذه الطريقة". كمخرج، لن يثقوا فيّ لأني لا خبرة لدي بالمسرح الكندي، وكممثل كانت لديّ لكنة والمسرح الكندي ما زال متمركزاً حول أوروبا. شاركتُ في برنامج ماستر جامعي في الإخراج وهو برنامج صارم جداً، يُعلن عنه كل سنتين ولا يأخذون فيه الا أربعة طلاب. وصلتني رسالة حينها تفيد بأني الخامس في اللائحة -أي لم أُقبَل- وأنهم يشجعونني على العمل مع مخرجين كنديين كي أتأقلم مع مفردات ولغة الممثلين الأميركيين الشماليين. انتقلتُ من تورونتو الى كتشنر في مقاطعة واترلو. خلال أربعة شهور، تعرفتُ على كل من يعمل في المسرح هناك، واكتشفتُ أن أحداً لن يعطيني وظيفة في المسرح، عليّ أن أخلق فرصتي بيَدي. فلمعت في رأسي فكرة قيام مسرح متعدد الثقافات، وأتى اسم MT Space بالصدفة أثناء محادثة لي مع عمر راجح... وفي تلك التسمية أيضاً تيمناً بكتاب Empty Space "آلفضاء الفارغ" لبيتر بروك. وتأسست المؤسسة العام 2004، في البداية توليت مهام سبع وظائف. هكذا حملت اكتشاف وميزة عزالدين قنون معي الى كندا.
- متى بدأ اسمك يلقى اهتماماً في كندا؟
عبر مسرحية "مواسم الهجرة"، ثاني مسرحية قدمناها كـMT Space وهي تقدّم مشاهد متفرقة عن مواقف كوميدية يواجهها المهاجرون في كندا، وكان بديع بو شقرا أحد ممثلي المسرحية. قدمتُ المسرحية لخمس سنوات. كان واضحاً انه علينا أن نضحك على أنفسنا كمهاجرين وأن نضحك الكنديين معنا. بالنسبة اليّ، كانت هذه التجربة محاولة لفهم أن المسرح الذي تعلمته في بيروت لن ينفع في كندا في المرحلة الأولى، ولا يجب أن يكون سياسياً، يجب أولاً أن أدخل الى قلوب الناس.
- ثم قدمتَ مسرحية "آخر 15 ثانية" (2009-2010)، وهي مسرحية تقارب موضوعة الإرهاب والتطرف الديني، تحديداً عمليات التفجير في عمان التي طاولت المخرج مصطفى العقاد بين عدد كبير من الضحايا... ما الذي دفعك الى هذا التوجه؟
قبل هذا العرض، كنتُ قد قدمتُ مسرحية "Exit Strategy" حول حرب العراق. وفي اليوم الأخير للعرض، كنت أقول لبديع أبو شقرا الذي كان يمثل معي، ما رأيك لو قمنا بمسرحية حول مصطفى العقاد. وهكذا كان. مصطفى العقاد بالنسبة إليّ، كان ملهماً وأول فيلم سينمائي شاهدته في حياتي فيلم "الرسالة" ثم حضرت فيلم "عمر المختار". تأثرت كثيراً عندما قتل مصطفى العقاد العام 2005. والدي كان قد توفي العام 1995 والطريقة التي قتل بها العقاد مع ابنته استفزتني. أعتقد أن هذا ما دفعني لتقديم المسرحية: ما حفزني فعلاً هو خسارة والدي، كنت أرى في مصطفى العقاد صورة الأب الذي خُطف في عز عطائه. والدي أيضاً توفي في عز عطائه... ذهبتُ الى الأردن وقمت ببحث ميداني في الأردن وتحدثت مع أهالي الضحايا وعمال الفنادق الثلاثة، وقابلت أما فقدت كل عائلتها في التفجيرات. بدأنا الاستعداد للعرض في أوائل العام 2008. جعلني هذا العمل محبطاً. لم أكن راضياً عن النتائج وكنت أسأل نفسي دوماً "كيف أستطيع أن أقوم بمسرحية عن الإرهاب وأقدّم مسلماً وأنمطّه كإرهابي؟". ساورتني شكوك كبيرة حول طرح هذا الموضوع: كيف سأتحمّل مسؤولية تقديم حكاية حول الإرهاب وكيف سأقدّم إرهابياً على الخشبة وكيف أطرحه كإنسان؟ حاولنا كثيراً وكلما جربنا، وجدنا أن ما نقوم به خطأ. كما لو أنني أمشي في حقل ألغام. جمعت الممثلين في منتصف مراحل التحضير وقلت لهم لن نكمل هذا العمل. إما أن نلغي العروض أو نطلب من الجمهور أن يحضر العروض بشكل شبه مجاني، ونقول له: لدينا مشكلة في هذا العرض ساعدونا على حلها. لكن الممثلين رفضوا الاقتراحين وهم الذين أنقذوا العرض.
- كيف قاموا بذلك، وكيف تمكنت من الهروب من فكرة تنميط صورة العربي أو المسلم الإرهابي؟
لا أعتقد أنني تمكنت من ذلك بشكلٍ واعٍ. لقد وثقت بمجموعة الممثلين وبمن كان يحضر العروض، وقد دعيت الكثير من الناس والخبراء لآخذ بنصيحتهم. عندما قدمنا عروضاً قيد التطوير كان واضحاً أن خوفي لم يكن مبرراً. بطريقة ما، تمكننا من سرد الحكاية من دون أن نقع في فخ التنميط الغربي. يعدّ هذا العمل الأكثر شهرةً بين أعمالي، وغالباً ما كانت تكون ردود افعال الجمهور عاطفية ومؤثرة جداً أينما ذهبنا. ولكنني قدمت بعدها عرض "Body 13" وهو يتطرق الى الجنسانية وتقاطعها مع شتى أنواع الاختلافات: السن، العرق، الجندرة، المثلية الجنسية الخ... أحببت هذه المسرحية كثيراً وعُرضت كثيراً، لكن بقيت مسرحية "آخر 15 ثانية" الأكثر رواجاً والأكثر طلباً. أحسستُ لأنني أنتمي الى الهوية العربية والمسلمة ولأنني أقدّم حكاية عن الإرهاب، كل الناس تتوق لأن تراها، وأنا العربي المسلم حين أقدّم مسرحية عن الحب ليس الأمر بالأهمية نفسها. بقيت دائماً أكثر فخراً بعرض Body 13 لأنه عبر هذا العرض تحديتُ مجتمعي، تحديتُ واقعي الاجتماعي. تحدثتُ عن الجسد المقموع في ثقافتي، تحدثتُ عن المحرّمات...
- قدمتَ أيضاً عملاً بعنوان "أمل" وهو يتطرق الى الربيع العربي..
استغرقت عملية بناء هذا العمل ست سنوات لأننا توقفنا كثيراً لأجل أعمال أخرى كُلّفتُ بها وحين قررنا تقديم "أمل" العام 2018، كان كل شيء قد تغيّر حول الربيع العربي. لم يعد هنالك من ربيع عربي. كان لدينا ارتباك حول الربيع العربي والارتباك مادة من مواد اشتغالنا كممثلين ومبدعين. هذا ما نعمل به: الإرتباك، التوتر، النزاع.... في كل صباح، قبل التمارين، أجري حواراً مع فريق العمل وأسأل دوماً لماذا نحن هنا؟ ما الذي يجري سياسياً وشخصياً اليوم؟ ونحاول دوماً أن نربط ما نقوم به بما يجري من حولنا في المجتمع وفي العالم على حد سواء. ما مسؤوليتنا ولماذا هذا العمل مهم الآن... الممثلون يحملون حكايا وصراعات إنسانية. كل فرد في العرض يمثل أيضاً نوعاً ما حكاية شعبه وتاريخه وحكايته الشخصية. المسار مسيّس جدا هنا، ومن الإرتباك والتوتر ننطلق لبناء علاقات بين الممثلين مبنية على ارتجال.
- يبدو أنك تتخذ مساراً لعملك وتتبع منهجاً أثناء تحضيرك لأي عمل. ما مكونات هذا المسار؟
نقوم أولاً بورشات عمل متعددة ومقسمة الى مراحل. المرحلة الأولى تتضمن ورش عمل استكشافية، والثانية ورش خلق العرض حيث يتاح للجمهور حضور العرض بصفته عملاً قيد التطوير، ويلي كل عرض في هذه المرحلة نقاش مع الحاضرين لأخذ ردود أفعالهم وآرائهم، ثم نصل الى المرحل النهائية حيث نأخذ بملاحظات المرحلة الثانية، وتعدّ هذه مرحلة التدريب النهائي تحضيراً للعرض النهائي.
- هل اختلفت منهجية العمل في مسرحية "الشقف"، كونها فكرة المخرج الراحل عز الدين قنون، وكونك عملت على إخراج مشترك مع ابنته سيرين قنون؟
أستطيع القول إنني أخذت منهجية قنون في العمل واعتمدتها في أعمالي المسرحية العشرة في كندا. لكن المنهج الذي شرحت بعض تفاصيله منذ قليل هو منهجي أنا. عندما أرسل إلي قنون، قال لي: "أريدك أن تمثل في عملٍ مسرحي، ستقدم لدى افتتاح أيام قرطاج المسرحية العام 2015". تحمستُ للأمر. بعد عشر سنوات، ستتاح لي فرصة أن أعمل معه مرة أخرى. في آذار 2015 توفى قنون. شكّل هذا الأمر صدمة لنا جميعاً وأتى الأمر كالصاعقة على كل الناس. سُميّت آنذاك دورة أيام قرطاج المسرحية العام 2015 بدورة عز الدين قنون، وقدمنا قراءات لمدة عشر دقائق كتكريم له. والتزمت لجنة المهرجان بأن تنتج العمل للعام 2016... حينها وقعت المسؤولية على كاهل سيرين، أن تتولى إخراج العرض في البدء، ثم طلبت مني أن أشاركها الإخراج وزارتني في كندا وتناقشنا. أصرت سيرين على فكرة الإخراج المشترك، وكان مهماً لها ألا تكون هناك تنازلات وأن نصارع بعضنا بعضاً حتى النهاية لصالح جودة العرض. عندما عدتُ الى تونس للتمارين، كنت أحمل خبرة طويلة وطريقة عمل واضحة، وكنت أعرف تماماً الأمور التي يجب القيام بها كي أنجز عملاً مسرحياً في غضون ثمانية أسابيع، وفريق عز الدين قنون أيضاً لديهم طريقتهم في العمل، كانت هناك جلسات أديرها أنا وحين أشعر بالتعب، كنت أخرج وكانت سيرين تكمل العمل عني، والعكس صحيح. كنا نجتمع مسبقاً ونحضّر ماذا سنفعل في الجلسات المقبلة، بينما أنا شخصياً لا أحضّر لجلسات البروفا. كان هنالك الكثير من نقاط التلاقي: فكلانا ينطلق من الإرتجال، كلانا يبحث عن الغير الاعتيادي وعن الغرابة، وكلانا يبحث عن الصورة الجسدية وكلانا لا يحب كثرة الكلام، لكن لسيرين طاقة للعمل على النص وأنا أكره النص. لا يهمني ماذا يقول الممثل من خلال الكلام، بل يهمني ماذا يقول من خلال الفعل المسرحي الذي يقوم به. النص عند سيرين عنصر أساسي بل هي تنحت النص نحتاً. كانت سعاد بن سليمان، التي تولت دراماتورجيا العرض على سبيل المثال، تقدّم اقتراحات والممثلون كذلك وكانت سيرين تعيد نحت النص من جديد. وهذه من عناصر الإختلاف في ما بيننا. بينما الصورة والإيقاع عندي هما أمران أساسيان. لكننا تكاملنا في النهاية.
- لم يمنعك كرهك للنص من القيام بعملين لكاتبين مسرحيين في كندا؟ متى تعود الى النص ولماذا تكرهه أساساً؟
أنا حرَفي وأسعى الى تطوير مهاراتي. اذا طُلب مني أن أعمل كمخرج على نص وإن وجدت أنه لا يتعارض مع مبادئي وقناعاتي أقوم بذلك، لكني لا أقصد أن أبحث عن نصوص مكتوبة مسبقاً. إن طُلب مني أقوم بذلك بكل بساطة. لماذا أكره النص. ليس الأمر عبثياً. لأنني أرى أن النص في كندا هو وسيلة استعمارية وقمعية، لأن النص هو المسرح الإنكليزي، الأوروبي الغربي، المستعمر... ثقافة السكان الأصليين في كندا هي ثقافة شفوية، محيت عن الخريطة. أنا أتعاطف معهم لأن ثقافتي العربية قبل الإسلام أيضاً هي ثقافة محكية، ثقافة الشعر المرتجل، ثقافة الحكواتي. النص المسرحي في كندا هو وسيلة استعمارية قمعية... لربما أكره النص انطلاقاً من هذا المكان وإذا استخدمت النص، أستخدمه كثورة على هذه العقلية الغربية الاستعمارية، وإن أردت أن أدخل النص سأدخله بأوجهه المتعددة. المسرح الإنكليزي السائد في كندا يستخدم النص بصفته العامود الفقري للمسرح بينما تعلمت مع قنون أن النص عنصر مهم كالإضاءة والسينوغرافيا وجسد الممثل هو العامود الفقري للعرض.
- هناك اتجاه، في عدد من أعمالك التي قُدّمت في كندا تحديداً، الى اعتماد أنماط متعددة من السرد، منها الحكواتي والمونولوجات التي تحكي الحكاية وهنالك حضور قوي لتراث المنطقة، في مسرحية "الشقف" هناك مشهد يا ظريف الطول، في مسرحية آخر 15 ثانية، قد يتم تصنيف بعض المشاهد على أنها تنتمي الى المسرح الإثنوغرافي... هنالك حضور قوي لثقافة المنطقة وتراثها. الى أي مدى أصبحت كل هذه العناصر أكثر تجذراً تحديداً لدى انتقالك الى كندا؟
عندما كنتُ في لبنان، ابتعدتُ قدر الإمكان عن التراث والمسرح الشعبي، ومع قنون تعلمتُ أهمية الحكاية، ثم درست مع الفاضل الجعايبي الذي علمنا على المراوحة بين السرد والفعل. عند الجعايبي، تكمن قمة المسرح في الما بين، أي ما بين السرد والفعل، الحكاية ومن يخبر الحكاية. وهذا ما ربطني مجدداً بالحكاية وبالحكواتي وبسوق عكاظ والشعر العربي والكربلائيات... أذكر أن جليلة بكار قالت لي: "مجدي، أنت تعرف كيف تحكي حكاية"، وهذا أجمل الاطراءات بالنسبة اليّ، رغم أنه كان لديها بعض التحفظات على مسرحية الشقف. هذه هي محطة وصول بالنسبة اليّ. لم أكن أعرف أنني سأعود الى المراوحة بين هذا السرد... ما أقوم به الآن هو أبعد ما يكون عن الواقعية النفسية. لا يعنيني تحليل الشخصية نفسياً ولا يعنيني ما يفكر به وما يحس الممثل من الناحية النفسية. ما يعنيني هو المسرحة.
- هل من الممكن أن تنتقل الى محطة وصول أخرى مغايرة؟
ليس لدي ثوابت في المسرح. لدي طريقة تخدمني وأستعملها طالما هي تخدمني. أنا أملّ بسرعة وأنا من الناس الذين لا يحبون بعض مشاهد مسرحياتهم كمُشاهد ولا أغيرها لأنني أعلم أنها تخدم العمل ولا أملك حلاً آخر.
---------------------
المصدر:المدن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق