تصنيفات مسرحية

الأربعاء، 13 نوفمبر 2019

عرض " المـــاتش " في الحاجة إلى أسطرة الواقع لتعرية غرائز النفس البشرية

مجلة الفنون المسرحية

      


 د. عبد الرحمن بن إبراهيم :

خصوصية التواصل المسرحي
    العرض المسرحي فعل تخييلي يعيد تشكيل الواقع المعيش استنادا إلى رؤية فنية سينوغرافية، واعتمادا على خلفية معرفية تعكس المنظور الفلسفي للمخرج. رؤيةٌ وخلفيةٌ تعكسان القناة التواصلية التي يتم من خلالها تمرير رسالة العرض. إن الأمر إذن، يتعلق بحدث ثقافي مركب، تتقاطع فيه علامات بصرية وسمعية وربما شميَّة، ثابتة ومتحركة، ضوئية وظلامية، ويتشابك فيه سيل من الدلالات شديدة الكثافة مُرسَلة من فضاء اللعب في اتجاه الفضاء الدرامي. وبذلك، يعتبر المتفرج طرفا متواطئا عن قصد لمجرد حضوره، ومشاركا بالضرورة في صناعة العرض. ويصير بالنتيجة عنصرا فاعلا في تشكيل رسالة التلقي، على أساس أن فعل التواصل لا يمكن أن يتحقق بدونه. 
    وعلى الرغم من أن هذه الرسالة تأخذ صيغتها المصطنعة بين الممثلين بشكل مباشر وفق تصور المخرج وأداء الممثلين، إلا أن صيغتها النهائية تنتهي في فضاء الجمهور الذي يعتبر بحق الفضاء الدرامي الذي تجري فيه الأحداث. ويتحول الحوار الجارية أطواره على الخشبة الحقيقية إلى فعل درامي تخييلي كثيف في الخشبة المفترضة في ذهن المتفرج. وبناء عليه، فالتواصل المسرحي بحكم طبيعته يتأسس على تواصليين يتقاطعان في ذات الآن: تواصل بصري سمعي على مستوى فضاء اللعب  باعتباره مصدر الإرسال، وتواصل من الممثل إلى المشاهد باعتباره المعني برسالة العرض. 
   من المعلوم أن العرض المشهدي يتسم بسمة ثابتة: الغموض. وهو ما يورط المتلقي بداهةً في دوامة من التساؤلات والفرضيات. ولعل أولها علاقة النص بالعرض، وعلاقة العرض بالنص. ونحن بصدد عرض مسرحي نسأل ونتساءل: هل كتب النص الدرامي حصريا من أجل العرض،؟ وهل يمكن إنتاج نص درامي من دون استحضار شرط العرض الذي يتمثل في مجموع المكونات التي يتأسس عليها الخطاب المسرحي: التمسرح – La théâtralité.؟ والمخرج من جهته في هذه الحالة – وهو بصدد عملية إخراج مسرحي- يسعى باحثا ومنقبا عن فكرة العرض التي أوحت للمؤلف بكتابة النص. وعلى أساس العلامات الدرامية ينهض معمار العرض في صياغة تعبيرات مسرحية مشهدية، غايتها خلق المتعة البصرية Le plaisir de voir. غير أن هذه المتعة الآنية لا تمنع المتلقي، من السعي إلى معرفة أنماط وأنواع العلامات المسرحية الموظفة في العرض، وضبط دلالاتها. بله، إنها غالبا ما تكون محفّزاً له على قراءة العرض انطلاقا من زاوية نقدية معينة.
   كما لا يمكن تصور عرض مسرحي من دون نص درامي حتى ولو تعلق الأمر بمشاهد يغيب فيها الكلام الملفوظ، ويطغى فيها الرقص التعبيري la chorégraphie، وتسود فيه الحركة والإيماء Le mime، لأن الفضول الذهني لدى المتفرج يقوم تلقائيا بتحويل المشاهد البصرية والإيقاعات السمعية إلى أفكار، تماماً كما تتحول الإرشادات المسرحية المبثوثة في ثنايا النص الدرامي إلى حدث في ركح ذهن القارئ.  


 مستويات قراءة العرض المسرحي
   وإذا كان التواصل المسرحي يعتمد على الممثل بتعبيراته الكلامية والجسدية والميمية في المقام الأول باعتباره التجسيد الفعلي لرؤية المخرج؛ فإن التلقي المسرحي من جهته – وبحكم طبيعته- يقوم على تحويل اللغة المسرحية ذات الكثافة في العلامات البصرية والسمعية والشمية المتداخلة والمتنافرة في غالب الأحيان إلى لغة نقدية لسانية قوامها المصطلح النقدي، وجهاز مفاهيمي كفيل بفك شفرات علامات الرسالة العَرْضية (نسبة إلى العرض). وهو ما يقتضي من المتلقي قراءة مركبة ذات أربع مستويات: 
مستوى أول: نص المؤلف الذي يمثل منطلق الفعل المسرحي. فالمؤلف – وهو يكتب النص- يفعل انطلاقا من دوافع إبداعية تتضمن رؤية إخراجية مفترضة، وموقف فكري يعكس بالضرورة الخلفية الإيديولوجية. ومما لا ريب فيه أن المخرج الذي يقع اختياره على نص معين لكاتب محدد يستحضر تلقائيا ثقافة المؤلف، ويراعي الخصوصية الإبداعية للنص. 
مستوى ثان: نص المخرج الذي يتمثل في تحويل النص اللغوي اللساني الأدبي إلى لغة مسرحية سينوغرافية ، من دون أن يعني ذلك النقل الحرفي المباشر للمعجم اللساني إلى نماذج بصرية سمعية، ومن دون أن يُقصد بذلك إقامة حدود فاصلة بين "لغة الصور" و"لغة الكلمات"؛ <<إذ لا يصح أن نغلق الصورة على نفسها في استقلال عن باقي الأنظمة الدالة نتيجة خاصية المماثلة، التي ليست سوى جزء من مكوناتها العامة.>>1 وعلى خلاف اللوحة التشكيلية - على سبيل المثال- التي لا فائدة ترجى من خاصية المماثلة، بسبب غيابها عن بعض اللوحات، وخصوصاً التجريدية منه، ممّا يضطر معه الباحث عن معنى الرسم إلى البحث عن طرائق أخرى تفتح باب الاعتباطية: الاحتمال، التأويل والنسبية؛ فإن المشهد المسرحي يستحضر خاصية المماثلة بين اللساني اللفظي والبصري السمعي، فيكون ذلك مدخلا إلى قراءة المشهد/العرض، مع ما تتسم القراءة المسرحية من سمات التعددية والنسبية والتأويلية والاحتمالية. <<وأهمية المماثلة تتجسد في كونها وسيلة لتحويل الأسنن codes. فعن طريق تشابه الصورة بموضوعها "الواقعي" يقوم إمكان قراءة الصورة أو فك رموزها. وهي القراءة التي تستفيد هي نفسها من الأسنن الداخلة في قراءة الموضوع نفسه.>>2  
مستوى ثالث: نص الممثل، هو التجسيد العملي لرؤية المخرج، والحامل للخطاب المسرحي. وهما نصان يتقابلان ويتداخلان في ذات الآن.  إن جسد الممثل، هذا الجسد الحي، الفاعل، المتوتر والمتحرك في كل الاتجاهات، والمُرسل لرسالة مشفرة من خلال الفعل، يمثل عالما مغلقاً وغامضاً تتفاعل فيه داخلياً عواطف وانفعالات وأفكار شديدة الارتباط بالجسد، لدرجة يصعب رسم حدود فاصلة بين الذاتي والموضوعي، بين الثابت والمتحول، بين الآني والمحتمل...                  فالممثل يمسك بنص المؤلف وهو بصدد الأداء الركحي من خلال جسده، ويتماهى به                لاختراق عوالم الشخصية المسرحية من خلال استحضار مواصفاتها الجسدية، وانفعالاتها السيكولوجية. إن الأمر يتعلق بجسد مركب: جسد الممثل وجسد الشخصية. وعبقرية الممثل تكمن في الاحتفاظ بمسافة معينة بين الجسدين. إن الرأي القائل <<بأن الجسد هو               الممثل، والممثل هو الجسد>>3 يضع الممثل أمام إشكالية الفصل بين الممثل والشخصية المسرحية. وهي عملية لا ينجح فيها سوى ممثل صاحب براعة في التماهي مع الشخصية المسرحية، ومالك لقدرة على اختزال نَصَّيْ المؤلف والمخرج في نص الجسد. 


مستوى رابع: نص المتلقي، والتلقي المسرحي يقترن بالاستقبال والتبادل معاً على الرغم من أن الارسال لا يكون سوى في اتجاه واحد. والاقرار بــ "التبادل" يراد به الحضور الفعلي للجمهور؛ إذ لا                يمكن تصور عرض بدون مشاهدين. وهنا يتحقق البعد الجدلي في الفعل المسرحي، لأن المؤلف والمخرج والممثل يأخذون بعين الاعتبار مسألة التلقي، ويستحضرون شكل القراءة/القراءات المحتملة من لدن القارئ/المتفرج، ويضعون في الاعتبار أفق التوقع ووظيفة التواصل اللذين يسمحان بقراءة تجربة معينة. إن نص التلقي في نهاية المطاف ليس سوى حصيلة وقع العرض المسرحي في ذهن المتفرج، ثم فعل تلقيه. نحن إذن أمام نصين اثنين:               <<النص الأول، أي الأثر، يحدده نص العرض المسرحي، والنص الثاني الذي يراد به نص التلقّي يحدده المرسَل إليه. ويفترض الأثر نداءً أو إشعاعاً آتياً من النص، وكذا قابلية المرسَل إليه لتلقّي هذا النداء أو الإشعاع الذي يتملكه.>>4  إن قراءة العرض المسرحي تطرح إشكالية العلاقة بين السيميولوجيا واللسانيات باعتبارهما قطبين كبيرين في غياب أي علاقة بينهما. وهو ما يجعل كل محاولة التوفيق بين الدوال اللفظية الكلامية والدوال المسرحية البصرية بالغة التعقيد. 
وتيرة المنجز المسرحي للمخرج الضعيف بوسلهام (مسرح الشامات- مكناس)
"ليلة القدر" عن رواية الطاهر بنجلون (اقتباس وإخراج) 1996
"قبل لفطور" (كتابة النص)إخراج نعيمة زيطان 1997 قدم بالمغرب وإسبانيا
"مشاحنات" (ممثل) نص كاترين هيز- إخراج نعيمة زيطان 1997
"الخادمات" نص جان جينيه (اقتباس وإخراج) 1998 قدم بالمغرب وإسبانيا
"رأس الحانوت" (تأليف وإخراج). قدم بالمغرب وبفرنسا، ومثل المغرب في مهرجان قرطاج بتونس 1999
"نعال الريح" نص بيرنارد ماري كولتيس، (اقتباس وإخراج)، قدم بالمغرب وبفرنسا(باستيا) 2000
"مسك الليل" (تأليف وإخراج). قدم بالمغرب، ومثل المغرب في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي مصر 2001
"الكمنجة" نص الميلودي شغموم (قتباس وإخراج) 2002
"العوادة" نص  لويجي بيراندلو (اقتباس وإخراج) 2003
"ترجمان الأشواق" "نصوص صوفية" (إخراج) ...2004
"أجاكس" لسوفوكل " (ترجمة وإخراج) ترجمة المشاهد المقدمة باللغة العربية" لفرقة Monkezy ex machina 2005
"ليل ونهار" عن نص لـ دورانجييه، (ترجمة وإخراج)، بشراكة مع المعهد الثقافي الفرنسي بمكناس. 2006
الموسيقى: عن نص  لـ يوكيو ميشيما، (اقتباس وإخراج) بشراكة مع المعهد الفرنسي بمكناس. 2007
"حياة، حلم وشعب في تيه دائم"، (تأليف وإخراج)، بشراكة المعهد الفرنسي بمكناس، وبدعم من وزارة الثقافة. مثل المغرب في مهرجان دمشق الدولي للمسرح. الدورة 13- 2008



"تغريبة ليون الإفريقي" حسن الوزان (إخراج) مثل المغرب في مهرجان المسرح العربي بالأردن المنظم من طرف وزارة الثقافة. دجنبر 2011
"فويتزيك" (اقتباس وإخراج). بدعم من وزارة الثقافة 2015. قدم في مهرجان قرطاج الدولي للمسرح بتونس
"كل شيء عن أبي"  عن رواية "بعيداً عن الضوضاء قريبا من السكات" لمحمد برادة (اقتباس وإخراج). بدعم من وزارة الثقافة 2016
        18- "الماتش" عن نص لإدريس كسيكس (ترجمة وإخراج). بدعم من وزارة الثقافة 2017.

جدلية التماثل بين أدويب وعَلِيّ في مسرحية الماتش:
    لم يكن يُكدِّرُ صفو حياة الملك لايوس Laïus وزوجته جوكاست Jocaste منذ أن ارتقى عرش طيبة Thèbes سوى أنهما لم يرزقا بمولود، وكانت فاجعته أكبر حين أخبره الإله أبولون Apollon أنه إن رُزق بولد فسوف يكون سببا في قلته ودمار ملكه. فكان أن تجرَّع الملك لايوس مرارة العقم على الرغبة في انتقال الملك منه إلى ذريته. غير أن الأقدار تمضي صوب غايتها دائماً، فقد فوجئ الملك لايوس LaÏus بأن زوجته جوكاس Jocaste  حامل، وأنه سيرزق بالمولود الذي أنذره أبولون بأنه سيذيقه طعم الموت. انتهى قرار الملك بقتل الابن قبل أن يقتله، كلَّف أحد رعاته بإلقائه من أعلى جبل، وهو ما لم يفعله الراعي الذي سلمه إلى ملك كورنت بوليت Corinthe Polybe  الذي شقيّ بسبب عقم زوجته الملكة ميروب Mérope، فرباه وأنبته النبات الحسن، غير أن الصبي وعى مع كرور الأيام أنه ليس ابناً للملك، وأنه مجهول الأصل. قَصَدَ معبد أبولون لاستجلاء الحقيقة من وحي الإله، لكنه لم ينل مراده، وإنما أُنبئ بأنه سيقترف خطيئتين كبيرتين: سيتقتل أباه، وسيتزوج من أمه، وهو لا يعرف سوى الملك كورنت أباً ، والملكة ميروب أمّاً. فقرَّر مغادرة المدينة تجنُّباً لقتل من يعتبرهما أبوين. اعترضت طريقه عربة وهو ماض بعيدا عن مدينته، فأبان عن صلابة وقوة وبأس شديد، ولم يَدُرْ بخلده أنه قتل أباه. وبِدُنُوِّه من مدينة طيبة Thèbes علم بكائن غريب هبط من السماء، يستفسر الناس عن لغز غريب، ومن عجز عن حله يكون مآله الموت. وحيال البلاء الذي عَمَّ طيبة، اضطر كريون Créon أخو الملكة Jocaste، والقائم بأمر أعباء الملك بعد قتل Laïus إلى الإعلان على عموم الناس أن مَنْ أراح طيبة من محنتها فله مُلْكُها، وله أن يتزوّج الملكة جوكاست. تقدم الفتي أدويب للامتحان، وكان أول اختبار لذكائه وقدراته الذهنية، فإما أن يجيب الجواب الصحيح، وإما أن يقتل. لم يتردد في المغامرة بحياته في سبيل الجاه والمجد الملك. وكان السؤال اللغز الغريب هو: مخلوق له صوت واحد، يمشي على أربع إذا أصبح، وعلى اثنتين إذا زالت الشمس، وعلى  ثلاث إذا أقبل المساء.؟ كان جواب الفتى أن الإنسان هو من يمشي على أربع إذا أصبح، لأنه يحبو في طفولته. ويمشي على اثنتين إذا انتصف النهار لأن قامته تعتدل وتستقيم إذا شب واكتمل، ويمشي على ثلاث إذا أقبل المساء لأنه ينحني على العصا بفعل الشيخوخة. نجح الفتى في الاختبار وظفر بعرش طيبة وتزوج من الملكة جوكاست. اطمأن قلب الفتى إلى أنه أفلت مما تنبأ له به الإله أبولون. فقد تجنب قتل أبيه، والزواج من أمه  الذين تركهما في كونيت، وأنجب ابنين: إتيوكل  Etéocle وبولينيس 
Polynice وابنتين أنتيجون Antigone وإسمين  Ismène. لكن وباءً غامضاً، وبلاءً ساحقاً ضرب المدينة. لم تنفع القرابين، ولم يشفع التوسل بالصلوات. هُرِعت البقية الباقية إلى الملك أوديب الذي
 أرسل إلى المعبد من يستفسر الآلهة عن سر الضُّرٍّ الذي لا يُبقي ولا يذر. وكان رد الآلهة أن لا جواب عن السّرِّ إلاّ بعد الثأر من قاتل الملك Laïus. وبكل عزم وحزم قرّر الملك الانتقام من المجرم القاتل، وإذا لم يفعل فسوف تثأر منه المدينة التي لم تكن ترى فيه الملك وحسب، بل كانت ترى فيه شبه الإله. وستكون مصيبته أعظم حين تبيّن أنه المجرم الذي قتل أباه، وطامّته أكبر حين أدرك أنه 



الآثم الذي تزوج من أمه، وأنجب منها أربعةً من أبنائه. فالثأر إذن يجب أن يكون من نفسه. وهو ما أقدم عليه حين فقأ عينيه حتى لن يعود يرى، وأما الملكة Jocaste، فقد خنقت نفسها بعد أن وقفت على بشاعة الواقعة.    
   يعود أصل تسمية النص الدرامي "Le Match" إلى كونه أُلِّفَ باللغة الفرنسية (*). المخرج الضعيف بوسلهام لم يتصرف في العنوان باقتراح عنوان آخر، أو بترجمته إلى واحد من المصطلحين العربيين الرائجين في الخطاب الرياضي السائد: "المباراة" أو "المقابلة".؟ دلالة الماتش في معناه المباشر يفيد المواجهة التي يجب أن تنتهي بمنصر ومنهزم، ولو تطلب الأمر أشواطاً إضافية. ورمزيتة في هذه المسرحية يفيد الزمن الماضي، الكامن بجراحه وآلامه في العقل الباطن، وعلى الزمن الآتي الموغل في الغموض والمفتوح على المجهول. 
   لا ريب أن المخرج - وقد استقر رأيه على هذا النص بالذات -، آثر الإبقاء على التسمية الأجنبية   كعنوان للعرض، لأن فيه إثارة واستفزاز قَبْلي للمتلقي. وسوف يتضح من مجريات العرض أن "الماتش" المتوقع والمنتظر على الركح اتخذ منحى مواجهة حادَّةٍ وداميَّةٍ، بين شخصيتين غريبتي الأطوار: شخصية حادّة الطبع تدعى "يطّو"، وشخصية جافّة المشاعر تسمّى "موسى"، وفي ذلك إحالة على الموسى أو السّكّين. وبين هاتين الشخصيتين الغامضتين توجد شخصية "علي"، الذي يعلو عليهما، ويحتفظ لنفسه بمسافة بينهما.
    بالنسبة لشخصية علي، ففي مستوى أول،  يتمثل الصراع بينه وموسى في صورة مبارزة بين الإبن وأبيه. "ماتش" من نوع خاص، لاعبوه هم متفرّجوه. كل طرف يسعى إلى تحويل الطرف الآخر إلى مادّة فرجويّة. مواجهة مفتوحة لا يمكن أن تنتهي إلا بمنتصر ومنهزم. إننا نملك مشروعية طرح السؤال التالي:
- من/ما المنتصر والمنهزم في كلتا المسرحيتين:  أوديب والماتش.؟ 
 إن القدر، تلك القدرة الغيبية الخارقة هو الخصم الحقيقي للبطل التراجيدي في المسرح اليوناني، وهو المنتصر دوماً. فهل الأمر كذلك في مسرحية أوديب.؟ 
     نطرح هذا السؤل على أساس أن حالة أوديب تكاد تكون متفردة في المسرح الإغريقي. فقد دخل منذ البداية في مواجهة مكشوفة مع الإله أبولون. ألم يلجأ أوديب إلى المعبد طلبا للمعرفة، من دون أن ينال مراده. أليس أبولون هو الذي أخفى عن أديب والديه الحقيقيين، وأخفى أيضا سر الوباء الذي أباد سكان طيبة. ألم يتعمد عدم إشعار أوديب وهو مقدم على قتل أبيه، ولم يُحِطْهُ علما وهو بصدد الزواج من أمّه.  في مسرحية الماتش كان موسى الأدب هو الخصم الحقيقي لعلي. <<هذا شحال ما تشاوفنا، تايتعطل دايمن، ولكن هذه المرة تانحس باللي غادي يجي في الوقت... ما عمرو ضيع الوقت ديال الماتش>>5 
    موسى أب سكّير وعربيد، مستهتر بقيم الأبوة، لم يتصرف يوماً كأب تجاه ابنه علي. <<وأنا صغير، كُنْتْ تانتسناه ، تانتسناه بزاف بالسويع>>. أضاع عمره بين الحانات ومشاهدة مباريات كرة القدم والتردد على مقر النقابة. لم يره ابنه منذ سبع سنين قضّاها في السجن. اليوم يعود إلى البيت لتبدأ فصول معركة مصيرية لا بد منها. وكلاها يعلم أن الأمر يتعلق بـ "ماتش" نهائي وحاسم. ومما أضفى 
بُعداً أوديبياً على المواجهة في مستوى ثان، حضور الأم كطرف منحاز لابنها ضد الذي كان زوجها. لقد حرضته أمه الشبح، الحاضرة بروحها، الغائبة بجسدها منذ عشرين عاماً. ماتت إهمالاً
 ولامبالاةً ممّن كان زوجاً ولم يكن حبيباً،  وتُكِنُّ له حقداً دفيناً ومتأصلاً. <<كان غارَقْ فْ الشْرابْ، وهي كَاوْ في البلوك ديال الموت، بلوك ديال العمليات>>، مما أجّج في كيان ابنه علي- القابل للاشتعال أصلاً - لهيب حقد مضاعف. وزاد في تأجيج الرغبة في الانتقام تحريض صديقه مايس. 




استجمع عليٌّ قوته الضاربة وخاطب أفاطار يطّو: <<ما تخافيش عْلِيَّ، غادي نلقى كيفاش ندير ليه. غادي نتغلب عليه.>>6 
      في أول موجهة بينهما لا أحد أبدى شعور الافتقاد تجاه الآخر. 
<<- كاتعقل ملّي كنتْ تانخرج من المدرسة. أنت تاتعطل فالبار
تاناخذ وقتي. هاد السي اللي كاين
تا تاخذ وقتك على حسابي أنا>>7 
يتعلق الأمر بصراع تدور رحاه بين أفراد عائلة واحدة. وتكشف مجريات الأحداث المتصاعدة في اتجاه التعقيد، الحضور المتنامي للأسطورة الإغريقية  المتمثلة في شخصية أوديب. 
   يبدأ العرض في عتمة ينبعث منها صوت شجيّ للأم أفاطار يطّو. غابت قسرياً قبل الأوان، أغنيّة بنبرات إيقاع حزين آتية من العالم الآخر، مشحونة بآلام لم تَخِفْ وطأتُها، سقمٌ لا شفاء منه سوى بثأر من أب ارتكب خطأ جسيم لا يمكن لأفاطار يطّو أن تغفره: الحب. موسى لم يُحب يطّو في يوم من الأيام، ولا هي أحست ولو للحظة أنها حبيبة عمره. أمعن في إلحاق الإهانة بها وبجسدها الغض التواق إلى لمسة دافئة. أنهكها المرض العضال: اللامبالاة. <<علي مخاطباً موسى: ما قدرتيش تبغي يطّو>>. الإبن من جهته، كان فاقد الشعور تجاه موسى ويطّو. ولم ينادي أيّاً منهما بـ "أبي" و "أمّي". كان ابْناً هائماً، تائهاً في مسالك الحياة وشعابها، باحثاً عبثاً عن أبويه اللذين ألقيا به في عالم موحش، وتركاه وحيداً عرضةً للتيه: << أمي أفاطار يطّو، الشبح ديال أمّي، أمّي اللي لاحتني فهاد الضوسي ديال الدنيا ومشات.>>8
   لقد هام أوديب على وجهه هرباً من أبويه اللذين تبرّآ منه وتنكّرا له، وهي ذات حالة علي الذي تنكّر له والديه. كلاهما تجرع مرارة الاغتراب، وتراكمت في نفسه الرغبة في الانتقام. نحن إزاء حالة أوديبية فارقة،  تفجرت من أعماق ذات علي الرغبة في كشف الغموض الوجودي الذي يّلفه. صَرَخَ سائلاً ومتسائلاً عن ماهية العالم الذي وجد نفسه فيه على حين غرّة من دون أن يجد جواباً، تماما مثل أوديب الذي لجأ إلى الإله أبولون للإستفسار عن مآله من دون أن يفلح في مسعاه: 
 <<شنو هو بنادم؟
شنو هو الرجل؟ شنو هي العائلة؟
شنو هي السعادة؟
شنو هو الأب؟ المعنى ديال الأب.؟>>9 
ثلاث شخصيات مسرحية من ثلاثة عوالم لا رابط بينهما، عالم لا مرئي، الموت تسكنه روح الأم أفاطار يطّو، وعالم لا مرئي، السجن سكنه جسد موسى الأب. الأم روح بلا جسد، والأب جسد بلا روح. وبينهما عالم غامض يضيع فيه ابنهما علي، لا روح ولا جسد. لكل منهم خطابه الخاص الذي لا يفهمه الآخر. وهو ما أثر على لغة الحوار، وأحالها إلى "لا حوار" بين الشخصيات:
بين الأب وابنه:
<<- موسى: كي تانبان ليك دابا؟
علي: ما عرفتش
موسى: أنت بنتي لي تبدلتِ؟
علي: تبدلتْ على اللي كنْتْ، ولاّ على اللّي كنتِ تاتصور غاتلقاه.؟>>10 
بـ- بين الأم وابنها:
<< - يطّو: صافي ، هضر ليك على كل شيء
علي: ما زال. فالماتش غادي نطاكيه
يطّو: وليني ظريف معاه. علاش كاتمسكن ليه



علي: احنا مازالين غير فالبدو. مازال ما دخلنا فالمعقول.
يطّو: خفتِ منّو.؟>>11 
        جـ- بين الزوجين موسى ويطّو: 
        الحوار المباشر بين يطّو وموسى لم يكن متيسّراً بحكم الفجوة النفسية والهوّة العاطفية الفاصلتين بينهما، وبحكم الكراهية المتراكمة سنين وعقود بالرغم من الحدث الذي جمع بينهما:
<<- يطّو: (مخاطبة ابنها علي بحضور زوجها موسى) يالله، دوز المعقول
علي: (مخاطباً أباه) ها أنت يا موسى، كل شيء اللي دوزناه كان غير مقدمة، كان غير باش نقاد الطريق لحوايج أخرى جاية. 
يطّو: هضرْ بطريقة مقادة، وكول كلام مسكّم
علي: (مخاطباً موسى) موسى هضرنا بزّاف على علاقتنا بجوج، أنا وإيّاك. نهضرو دابة على يطّو
يطّو: بلا ما دير التشويق، سربي بالزربة
علي: ها أنت أموسى ماقديرتيش تبغي يطّو، أنا غادي نتاقم ليها. تعلمت نشوف فيها، نتصنت ليها. غادي نولي نبغيها. أنا العاشق ديالها. العاشق ديال أمي. وأنت غادي تمحا من حياتنا. احنا بجوج معانقين تانبغيوا بعضياتنا، بلا بيك، بلا أب.>>12  
   التماثل في مستوى ثالث، يتبدى في كون الحوار كان منعدما تماماً بين الأب وابنه من جهة، وبين الأب والأم من جهة ثانية. كما لا يمكن الجزم بوجود تعاطف بين الإبن وأمه، فكل ما يجمع بينهما هو الثأر من موسى. لم يسبق لعلي أن نادى يطّو: أمّي، و لا هي نادته: ولدي، ابني. ولم تعبر عن اشياقها له رغم عقدين من الغياب. ولم يفعله موسى أيضاً؛ فعلى كل الحيز الزمني للعرض لم يستعمل لفظة ابني في مخاطبة علي. كما أن هذا الأخير لم يشعر بالبنوة تجاههما، ولم يتصرف معهما كأبوين. وهو ما يحيل على أوديب الذي التقى بأبيه فقط ليقتله، والتقى بأمه ليتزوجا وحسب. أليس علي من صرح بالقول: << أنا العاشق ديالها، أنا العاشق ديال أمي. وأنت غادي تمحا من حياتنا.>> 

حوار متشظي في انتظار حدث مؤجل الحدوث
    لا يمكن الحديث عن حوار بالمعنى المتعارف عليه، ومن غير الممكن أيضاً الإقرار بحدث مقترن بفعل محدد في مسرحية "الماتش". ورغم أن العنوان يوحي بـ "فعل" على أرضية ملعب/الركح؛ فإن الذي هيمن على مشاهد العرض هو التعبير الجسدي، الذي ساد في العرض للدرجة التي يمكن اعتباره لغة التواصل المهيمنة بين الممثلين والمشاهدين. وساهمت تقنية التصوير من جهتها في إضفاء بُعْدٍ بصري لما لا يمكن أن يُعبر عنه بلغة الكلام أو بتعبيرات الجسد؛ إذ عمدت آلة التصوير إلى تقديم لقطات مسترسلة حيناً ومتقطعة حيناً آخر بالتزامن مع تطور الحوار. وزاد من أهمية وظيفة التصوير أنها اقتصرت على اللون الأبيض الذي قام مقام الإنارة، وساد في فضاء أحاط به السواد، وانحصر اللعب أمام الشاشة التي ملأت خلفية الركح، وهو ما جعل الحدث الواحد ينشطر إلى أكثر من حدث، وجعل الحوار يحتمل أكثر من لغة.   
        تمثل مسرحية "الماتش" تحولا في التجربة الإبداعية للمخرج الفنان الضعيف بوسلهام؛ إذ يفاجئ المتتبعين لتجربته في الإخراج المسرحي بتقنيات مبتكرة من حيث وظيفتها (آلة التصوير محمولة ومتحكم فيها من طرف الممثل نفسه). ولا شك أن اطلاعه على راهنية التجارب المسرحية الغربية وهو بصدد إعداد أطروحته الجامعية من جهة، وبحثه الدؤوب عن مناطق بكر غير مأهولة في الكتابتين الدرامية الإخراجية أتاح له إدراك الحضور القوي والمؤثر للأسطورة اليونانية في التجارب المسرحية الغربية والعربية على السواء من جهة أخرى. وتبقي أسطورة الملك أوديب الأوفر تأثيراً 

    والأعظم حضورا في المسرح الحديث والمعاصر. <<وأصبحت قصة سوفوكل هي النموذج القديم الوحيد الذي ألهم المحدثين الأوروبيين. واضح أن سوفوكل إنما قصد في هذه القصة كما قصد في أكثر قصصه الأخرى إلى يصور لنا صرامة القضاء من جهة وحرية الإنسان من جهة أخرى.>>13 وها هو تأثير الأسطورة الأوديبية يصل إلى محطة الضعيف بوسلهام من خلال مسرحية "الماتش"، التي تعامل معها بما يتناسب ورؤيته الفنية، وبما يتساوق وراهنية شروط تلقي العرض المسرحي ذي النفس الأسطوري.

الشخصية في مسرحية الماتش 
    أهم سمة مميزة في هذا العرض هي الشخصية المسرحية. ويمكن اعتبارها أهم عنصر في بناء المسرحية. فقد نجح المخرج الضعيف بوسلهام في تصوير ثلاث شخصيات سمتها الأساسية التردد والغموض والعجز عن اتخاذ الموقف المناسب، وهو ما يتبدى في عدم قدرتها على صنع الحدث؛ بينما سار أوديب إلى مصيره، متحملا مسؤولية أفعاله حتى النهاية. لقد صنع الحدث بقتل أبيه، وبتخليص طيبة من الوباء، وتتويجه ملكاً عليها، وبالزواج من أمه، وفقء عينيه. <<إن أبطال مسرحيات سوفوكليس يملكون القدرة على مواجهة مصيرهم بشجاعة، وإن لم يكن في مقدورهم الهرب منه. إن اللعنة هي منشأ الصراع، لكن نقط الضعف تكمن في أعماق الإنسان نفسه. ومع هذا، فسوفوكليس واع تمام الوعي عدم الانسجام القائم بين عظمة الإنسان من جهة، وبين القوى الخارجية المدمرة من جهة أخرى.>>14  
   في مسرحية "الماتش" لا يمكن الحديث عن تراجيديا بالمفهوم الإغريقي، أو بالمفهوم التقليدي كما ساد عند شكسبير، أو لدى الكلاسيكيين الجدد في فرنسا بالرغم من النفس المأساوي الحاضر بقوة في الشخصيات المسرحية، لأن مأساة هذا العصر هي مأساتنا التي نعيشها ونكتوي بها، وليست بالضرورة مأساة خاصة بالشخصية المسرحية كما هو الشأن بالنسبة لأوديب. إن موضوع العرض المسرحي "الماتش"، هو لا إنسانية إنسان هذا الزمن المتمثلة في فردانيته الفظيعة وأنانيته المفرطة التي لا تفيده في شيء، وفي عجزه عن حب الآخر ومد الجُسور إليه. وتلك، هي مأساة علي وموسى وأفاطار يطّو.
   لقد استفاد المخرج الضعيف بوسلهام بفطنة وذكاء من التقنية الموظفة في مسرحية أوديب القائمة على الاسترجاع وعقاب الذات. وهو ما انتهت إليه مسرحية "الماتش" في مستوى رابع، وذلك بإنزال عقوبة عاطفية قاسية على الآخر: موسى، عقوبة إرادية وليست قدرية.
هوامش:
قراءة في السيميولوجيا البصرية، د. محمد غرافي، مجلة عالم الفكر الكويتية، المجلد31، العدد1يولوز شتنبر، السنة2002 
نفسه، ص222  
فسيفولد مايرخولد، في الفن المسرحي، الكتاب الثاني، ترجمة شريف شاكر، دار الفارابي- بيروت، 1979، ص180، نقلا عن د. نديم معلا، مجلة عالم الفكر الكويتية،  المجلد 37، العدد4 أبريل يونيو، لسنة 2009، ص209
 هانس روبيرت ياوس، جماية التلقي – منأجل تأويل جديد للنص الأدبي، ترجمة رشيد بنحدو، المجلس الأعلى للثقافة – نشر المشروع القومي للترجمة- القاهرة، العدد 484، السنة 2004، ص124.
(*) Driss Ksikes, Le match, horizons/créations Presses universitaires de 
       Bordeaux,Pessac,2017 
Ibid, p11
Ibid, p13


Ibid, p17
Ibid, p13
Ibid, p15
Ibid, p18
Ibid, p33
Ibid, p59-60

 أندريه جيد، أوديب ثيسيوس من أبطال الأساطير اليونانية، ترجمة طه حسين، دار العلم للملايين- بيروت، ط2-1977، ص20  
 رياض عصمت، البطل التراجيدي في المسرح العالمي، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة 
 الثقافة- دمشق، 2011م، ص20. 

            



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق