تصنيفات مسرحية

الجمعة، 10 أبريل 2020

العروض الافتراضية تُنقذ "أبوالفنون" من الغياب الكامل

مجلة الفنون المسرحية

العروض الافتراضية تُنقذ "أبوالفنون" من الغياب الكامل



شريف الشافعي  - العرب  


آلية جديدة لفن المسرح تعتمدها العروض الإلكترونية الافتراضية تتيح فرص مشاهدة غير محدودة في المكان والتوقيت للمتفرجين لإنعاش ظلال "أبوالفنون".


انطلاقا من أن “ما لا يُدْرَكُ كله، لا يُتْرَكُ كله”، استعاد “أبوالفنون” قدرا من حضوره عبر الشاشات المنزلية وأجهزة الكمبيوتر والموبايل من خلال قنوات وزارة الثقافة المصرية على اليوتيوب التي استعاضت عن حفلات مسارح الدولة المتوقفة بعروض افتراضية لقيت متابعة جيدة من الجمهور، على الرغم من فقدانها الكثير من خصائص المسرح وعناصر متعته. من هذه العروض مسرحية “قهوة سادة”.

لا يُمكن تخيُّل فن المسرح دون العلاقة المباشرة مع المتلقي “وجها لوجه”، والعمل على جذب انتباهه واحتكار حواسه طوال فترة العرض، وضمان بيئة تواصل خصبة بين الممثلين والمتفرجين، والإفادة من ردود الأفعال واستثمار كل الطاقات والمتّجهات التفاعلية في نسج الإضافات والارتجالات.. وما إلى ذلك من السمات الأولية للفن العريق، إلى جانب ضرورة تحقّق عناصره ومقوّماته الأخرى مثل الخشبة “منصة العرض” والشخصيات الحية والسينوغرافيا والإضاءة والموسيقى وغيرها.

وإذا كانت أغلبية هذه المفردات الجوهرية مفقودة أو منقوصة في البث الإلكتروني للمسرحيات، خصوصا ما يتعلّق بمتابعة الحركة الفردية والجماعية للممثلين وأبجديات ملء الكتل الجسدية للفضاء المسرحي، فإن العروض الافتراضية لها بعض السمات والملامح الأخرى المُغايرة في إطار تقنيات الشاشات الصغيرة والشبكات البينية، إضافة إلى أنها الوسيلة الوحيدة المُتاحة وسط الظروف الحالية للإبقاء على شعرة رفيعة موصولة بين المسرح وعشّاقه.

خسرت العروض الإلكترونية الافتراضية فن المسرح بالتأكيد كأرقى الفنون وأخصبها وأنضجها وأشملها لمنظومة الإبداعات الأخرى المكتوبة والبصرية التشكيلية والسمعية.

لكنها كسبت في سياق الحاجة لا التعويض بعض المزايا والنقاط النسبية، منها على سبيل المثال، إتاحة فرص مشاهدة غير محدودة في المكان والتوقيت للمتفرجين، وإمكانية التشغيل وإعادته أكثر من مرّة بمرونة مثلما يحلو للمتفرج، وفتح الباب للتفاعل بطريقة أخرى تتمثل في التعليقات المكتوبة من جانب المشاهدين، مع إمكانية الرد عليها لاحقا من جهة صنّاع العمل وعارضيه. وهي كلها سمات عامة تتعلّق بآلية العرض الجديدة، وليست ذات صلة بخصائص المسرح كفن بحد ذاته.

وجاءت عروض المسرح الافتراضية من باب الضرورات التي تبيح المحظورات، فإنعاش ظلال “أبوالفنون” بأقنعة أوكسجين وأجهزة تنفّس اصطناعي أفضل من الغياب الكامل لأضواء المسارح وأنوار القاعات الجماهيرية المغلقة. ومن ثم فقد أسفرت خارطة مبادرة “خليك بالبيت/ الثقافة بين إيديك” للبيت الفني للمسرح في القاهرة عن إتاحة ثلاثين مسرحية حديثة مجانية بشكل مبدئي على قنوات وزارة الثقافة المصرية، بالتعاون مع المركز القومي للمسرح.

سخرية وإيجابية

"قهوة سادة" غلب عليها الحس الكوميدي الحافل بحركة الممثلين في مساحة ضيقة، مستعرضين لوحات منفصلة متصلة

افتتحت سلسلة “العروض الكورونية” بمسرحية “قهوة سادة”، التي شهدت في ثوبها الرقمي قرابة أربعة عشر ألف مشاهدة بمجرد إطلاقها، على الرغم من إثقال الرؤية في قناة وزارة الثقافة بأكثر من لوغو وشعار ضخم على شريط العرض. ويُعدّ رقم المشاهدات مقبولا قياسا بطبيعة العمل الذي عُرض على المسرح منذ عام وبضعة أشهر في إطار نخبوي تخصصي محدود (مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي)، بعد إنتاجه للمرة الأولى بسنوات تحت قيادة المخرج خالد جلال، وبطولة مجموعة من الشباب، منهم: أحمد سعد، محمد ثروت، هشام إسماعيل، محمد سلام، شيماء عبدالقادر وغيرهم.

جاء انتماء “قهوة سادة” إلى المسرح الأمامي ملائما لإمكانية تصويره بالكاميرات الفيديوية بسهولة من حيث يجلس المتفرجون، وقد غلب الحسّ الكوميدي على العرض الحافل بالحركة وحشود الممثلين في مساحة ضيقة، بما جعل المشَاهد المزدحمة بالشخوص أصعب في تمريرها للشاشة من التي تضم فردين أو ثلاثة.

ومن خلال روح الدعابة وخفة الظل والرغبة الدائمة في إثارة الضحك وتفجير المواقف الساخرة المُعتمدة على المفارقات وسوء الفهم والمبالغات الكاريكاتيرية، قدّمت المسرحية مجموعة من اللوحات القصيرة المتتالية، المنفصلة المتصلة، حيث حَوَتْ كل كبسولة درامية عدة قضايا ومشكلات متغلغلة في داخل المجتمع المصري، لطرحها بجرأة ومناقشتها بإيجابية، فليس المقصود من التعرية الموجعة إشاعة اليأس، وإنما الانتقاد البنّاء للتدارك والإصلاح والتجاوز.

هذه الفصول القصيرة (الاسكتشات) ارتبطت معا بخيوط خفية، من حيث كونها وجوها متعدّدة للأزمة المجتمعية العامة، حالة التردّي والانحدار في سائر المجالات، كما اقترن بعضها بالبعض من خلال ثيمة المسرحية وعنوانها “القهوة السادة”. بمعنى المرارة التامة والعزاء الدائم والحداد القائم والمأتم الجماعي لتوديع كل رموز الجمال والإبداع والابتكار من الراحلين، الذين لم يعد الواقع الراهن قادرا على إفراز أمثالهم من النابهين، في عصر اندثار النبل وامّحاء الجمال وتشييع المُثُل وزوال القيم والأخلاقيات والمعاني السامية والسلوكيات الرشيدة.

تلقائية الأداء

المسرحية اعتمدت على التلقائية والمواهب الفطرية واشتغلت على لعبة الحاضر والماضي بصياغة مرثية لنجوم الزمن الجميل
لم يشعر متلقو العرض أن مدته بلغت تسعين دقيقة، بسبب رشاقة النص وسيولة الأداء التمثيلي وتلقائيته وبراعة الإخراج، إذ تولّد هذا العمل الجماعي كإفراز طبيعي سلس لورش الارتجال المُعتمدة على تفعيل المواهب الفطرية والملكات الفردية بطلاقة، دون إهدار النسق الكلي المهيمن.

أمر آخر أسهم في إزاحة الملل بالرغم من الإطالة، هو انقسام المسرحية إلى عدد كبير من التابلوهات المكثفة، تحت عناوين فرعية، لطرح القضايا والأزمات المجتمعية، من قبيل: انهيار اللغة العربية، الهجرة غير الشرعية، غياب الهوية المحلية، دعاء رجال الأعمال، العنوسة، الوساطة في الفن، صلة الرحم، الغلاء، الجهل، الفتاوى، القُبح وغيرها.

واكتسب العرض حيوية إضافية باعتماده كلية على سواعد الشباب، فهم أكثر الممسوسين بهذه الأزمات، والأجدر بأن يعبّروا عنها بجسارة وشفافية لكي يتمكّن المجتمع من عبور عنق الزجاجة الضيّق إلى شاطئ الأمان.

راهن العرض على استثارة المشاعر الإنسانية الشفيفة من خلال إبراز الانفعالات الحسّاسة وتعابير الوجوه، التي نجحت كاميرات الفيديو في التقاطها عن قرب بدقة وعناية، وصوحبت اللحظات الجيّاشة بالموسيقى التعبيرية المؤثرة المنبعثة من ثقوب النايات وأوتار الآلات الشرقية والغربية المتداخلة.

كما اشتغل العرض على لعبة الحاضر والماضي بصياغة مرثية جماعية لنجوم الفكر والأدب والفن في الزمن الجميل، وذلك عبر المأتم الجماعي الذي حضره كل الممثلين منذ بداية العرض وبين الفصول متشحين بالسواد، ومودّعين صورا للعشرات من الأدباء والفنانين والشعراء، من بينهم: نجيب محفوظ، صلاح جاهين، نجيب الريحاني، عبدالحليم حافظ وآخرون.

بقي العزاء الوحيد أن هؤلاء النجوم جميعا “رايحين لعالم أفضل”، فيما راح الممثلون في كل فصل من الفصول (بعد احتسائهم القهوة السادة) يستعرضون بأسى وأسف كيف آلت الأمور في العصر الراهن إلى الأسوأ بكل تأكيد في كافة المجالات.

فمن الوعي والتعليم والتماسك الأسري والاستقرار الوظيفي وتبلور الشخصية المصرية وسطوع القوة الناعمة داخليا وخارجيا في الماضي غير البعيد، إلى الضحالة والاستهلاكية والتجريف الثقافي والتفكّك الأسري والاغتراب وضياع الهوية وتزييف التاريخ وسيادة الفقر والقهر والاستغلال والطبقية والبطالة والوساطة والذوق المُتدنّي (المعمار العشوائي، ديوان “لا تهرشي”، أغنيتا “أيظن” و”العنب العنب”)، إلى آخر هذه المظاهر السلبية التي عرّتها المسرحية بوخزات قاسية كالصدمات، دون أن تفقد الابتسامة، وتلك هي المعادلة الصعبة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق