تصنيفات مسرحية

الخميس، 9 أبريل 2020

مونودراما " الانقلاب " تأليف مجد يونس أحمد

مجلة الفنون المسرحية 



                              المشهد الأول 

شجرة كبيرة متوضِّعة في صدر المسرح,أغصانها متشابكة ومتيبسة,عُلق عليها مجموعة من الإكسسوارات كالطربوش,شارة مرورية "ممنوع المرور"هراوة..الخ . 
تتدلى من سقف المسرح حبال متشابكة , ومعقودة عقداً كبيرة .. مرآة مكسورة , في إحدى زوايا المسرح نافذة مغلقة بإحكام , في زاوية أخرى توجد قطعة خشبية تشبه الطاولة,حوافها متكسرة لها رؤوسٌ ناتئة وبارزة,كل شيء في المكان يوحي بالغربة والعزلة,والوحشة.


عاصفة هوجاء تعم المكان"برق–رعد–أمطار–ريح شديدة"تتجسد عبر الإضاءة, ملامح شخص ينكمش على نفسه يختبئ تحت الطاولة؛ يرتجف خوفاً .
 في المكان ظلال أشباح تحوم وكأنها تمارس طقساً خرافياً,نسمع أثناءها أصوات ضحكات  مخيفة,ينكمش الشخص أكثر,تزداد حركة الظلال,وتتكاثر,نسمع أثناءها تصفيق حاد,زغاريد . 
الشخص وهو يحاول التسلل زاحفاً باتجاه منتصف المنصة وكأنه يريد الفرار من المكان,يزداد الضحك,وتزداد شدة العاصفة,ينجح الشخص أخيراً بالوقوف ومن ثم يبدأ بالركض,لكنه يركض في المكان,تزداد سرعة الركض,ويبدأ بالدوران حول نفسه في دائرة ضيقة حمراء اللون,تتسارع خطواته أكثر فأكثر حتى تصل إلى أقصى سرعة ممكنة,فجأة يسقط متكوماً في المكان,يعمّ الصمت في المكان,وتخفت الإضاءة تدريجياً  وتبدأ الظلال بالانسحاب من المكان .

إظلام



                       المشهد الثاني

يتصاعد الدخان في المسرح,الإضاءة حمراء اللون,الشخص الذي يحمل بيده مسدساً وهو يطلق النار على الخيالات التي مازالت تطارده في المكان,نسمع حينها رشقات من الرصاص,يليها أصوات انفجار,طائرات مغيرة,شيفرة,تأوهات,أصوات معامل..الخ الشخص وهو يحمل المنظار المعلق إلى صدره وينظر حوله وكأنه يتفقد أحوال المعركة,أخيراً يشير بيده إشارات غير مفهومة,تهدأ الأصوات,ويعمّ الصمت في المكان,الشخص وهو يسير عبر الدخان,تتغير الإضاءة لتصبح زرقاء,يقف الشخص فوق الطاولة. 
الشخص 
( يصرخ ) توقفوا .. توقفواااا.


الأصوات تعود,مضافاً إليها أصوات طرق على الأبواب,الشخص ينكمش فجأة على نفسه,ويجلس فوق الطاولة وهو يصرخ من جديد. 
الشخص 
توقفوا,أرجوكم..قلت لكم توقفوا...(تختفي كل الأصوات باستثناء أصوات الطرق على الأبواب) كلاااااب..كلاااااب..دعوني وشأني..(تبدأ الأصوات بالتلاشي شيئاً فشيئاً الشخص وهو مازال منكمشاً على نفسه..صمت قصير,ومن ثم نسمع صراخه مرة أخرى) توقفوا,كفى اااا...(ينظر حوله مستطلعاً,ومن ثم يقف بهدوء حذر,ويبدأ السير بخطوات منتظمة وكأنه قائد عسكري)..اسمعوني جيداً,لقد قررت قراراً تاريخياً,هذه المعركة,معركتنا,يجب علينا أن نخوضها بشجاعة,فطريقنا تحتاج إلى تعبيد ولكي تعبّد الطريق لابد من الثورة,فهي الوحيدة التي نستطيع من خلالها أن نعبد الطريق,الطريق التي سنعبر من خلالها إلى المستقبل الذي نحلم به,الحرية..الحرية..الحرية لنا,لنا نحن فقط,آن الأوان لنكون قادة المستقبل الزاهي.(نسمع تصفيق حاد في المكان,نسمع في هذه الأثناء صوت باب حديدي صدئ يفتح,ومن ثم إضاءة حمراء تنعكس على سطح المرآة,يعمّ الصمت من جديد..الشخص,ينظر حوله,ويبتسم ابتسامة يائسة ومن ثم يقول) يا لكم من جبناء,جبناااااء..لو لم تكونوا جبناء,لكنتم جبناء..يا دجاج المستقبل هبّوا  آن الأوان..(يضحك ببلاهة) تخافون,لاشيء بعد الآن يثير الخوف(يغير الشخص من لهجته) الخوف شعور طبيعي,وهو جيد جداً,بل ضروري أيضاً.(يخّفض من صوته) ضروري من أجلي,فخوفكم هو استمرار لوجودي أنا,لأنكم تستمرون بوجودي أنا,أنا, كل شيء هنا وجوده مرهون بوجودي,أنا هنا,وأنتم هنا,إذن جميعنا هنا, تجمعنا هذه الهوة الكبيرة,ولا مفّر لأحدكم.(يضحك بطريقة غريبة,وهو ينظر حوله مستطلعاً)أين أنت,أين اختفيت؟ هيا اخرج أيها الجبان,أيها المتخاذل,هاأنذا هنا!! اخرج أيها الذي لا ظل له سوى الخوف والهزيمة,اخرج يا من لا يبصر أبعد من موطئ القدم,لا تريد ؟!؟؟ جباااااان..(ينظر الشخص إلى الصالة,ويحدق في الجهور وكأنه يراهم لأول مرّة) أنتم أيضاً هنا,مرحباً بكم,كالعادة,تحدقون بي,باستغراب غص المكان به..ما الذي يدور في رؤوسكم الآن,هل يجرؤ أحدكم على البوح بما يفكر؟ لا اعتقد..يا الهي,كيف لهذه الوجوه أن تتسمّر وكأنها تماثيل(يصرخ) ما بكم؟ أين تعلقت أبصاركم؟ هل تظنون أنني أهرّج لكم؟ آه؟ تكلموا!! كيف جئتم إلى هنا,ومن سمح لكم بدخول هذا الميدان؟ من سمح لكم بالتلصص عليّ,تريدون ترويعي,لكن لا,لن اسمح لكم ولو كلفني ذلك حياتي.(نسمع صوت بكاء طفل رضيع,الشخص وهو يصغي باهتمام شديد,تبدأ نبرات صوته بالتحول فجأة ينزع الشخص ملابسه لنجد أنها امرأة متنكرة بلباس قائد عسكري,وهي ما تزال تصغي لصوت الطفل الرضيع) لا,أرجوك,لا تبكي يا صغيري,أرجوك,أنا أخاطر بحياتي من أجلك,أتوسل إليك لا تبكي,بكاء العالم في كفة وبكاؤك في الكفة الأخرى..لا أحتمل يا صغيري..هيا..هيا تعال(وكأنها تحمل طفلاً رضيعاً,وتدندن أغنية وهي تهزّ يديها)"يا الله تنام,يا الله تنام لجبلك طير الحمام" لا يا ولدي,لن أذبح لك طير الحمام,لن أسمح لهذه الكلمات أن تسمم ذاكرتك,نم يا حلم حياتي الذي لم يأت,حلمي المقتول في رحم هذه الحياة اللعينة..ولكن لن أتراجع قبل أن أقتص لك من قاتليك الجبناء.سيكون عقابهم شديداً,لا تخف,نم قرير العين,خطوة صغيرة وينتهي كل شيء,حينها سنلتقي وستكون بين ذراعي أمك التي تشتاق إلى نسغك في رحمها,نم يا حبيبي(ترتجف, وترتعش وهي تنظر حولها وتسير منكسرة,تستند إلى الطاولة) أين أنا؟ أتراني أخطأت طريقي هذه المرة أيضاً؟ لا,لا يمكن,آآآآح,الجوّ بارد هنا,ولكن لن أتراجع,هو قراري التاريخي الذي لا رجعة فيه,هذا المكان لي وحدي أنا,لن يزعجني احد بعد الآن, ما أجملها من وحدة لذيذة شهية,هناك..الحياة مملة حدّ العذاب,وهنا أيضاً بالقرب من هذه الصحراء في مدينتي الموحشة,حيث لا أشخاص جدد,ولا هواء جديد,لا حب,لا أخ,لا أب,لا أولاد..ترى ما الذنب الذي اقترفته حتى تكون حياتي هكذا؟ لتكون حياتي مفعمة بالوحدة,نعم,وحدتي التي بعثرت أيامي..وماذا كانت النتيجة؟(تضحك بأسى) خسرت ما ربحته أي امرأة أخرى في هذه الدنيا .


(حزمة ضوئية تسقط فوق أحد الحبال المتدلية,فيتكون من خلال العقد شكل لامرأة ما, تنظر إليها الممثلة) 


ماذا تريدين مني؟ أنا أكرهك,فابتعدي عني,أستغرب هذه الجرأة على مواجهتي,أنت التي أخرست أنينها منذ زمن بعيد,ما الذي جعلك تستيقظين في هذه المرحلة بالذات؟ اخرسي,لا أريد أن اسمع أي شيء,أنا الآن حرّة,سأفجر كل شيء,سأمزق قيودي,سأمارس كل ماوهبني الله,سأستمتع في هذه الحياة كما أرغب أنا,لا كما يرغبون  (تفتح حقيبة في مكان ما وتُخرج زجاجة صغيرة وتبدأ بالشرب,تتبدل الإضاءة بحيث تأخذ زاوية تجعل خيال الممثلة واضح للجمهور,تنتبه إليه) أنت ماذا تريد أيضاً؟ لماذا تلاحقني؟(تأخذ رشفة من الزجاجة الصغيرة,تضحك) يا لهذا التناقض,أنا أنثى,ولكن حتى هذه اللحظة لا أعرف إن كان خيالي أنثى أم ذكر,لا اعتقد انك خيالي أنا,أنت وهمهم,وقيودهم التي كبلوني بها,أنت المتلصص علي,الواشي بي,لذا لن تكون سوى حطباً لثورتي من أجل الحرية,أنت ماضٍ أكرهه أثور عليه,أنت تذكرني بتلك التي لا أريد أن أكونها,تلك الغبية,التابعة,الخنوعة,المستسلمة,سأسلخك عني(تبدأ بمحاولة  دهس ظلها ولكنها تفشل , فتلجأ إلى طريقة أخرى) سأسلخك,نعم,رغم الألم الذي سيعتري جسدي إلا أني سأحتمل كل شيء,لأنال حريتي التي وهبني الله إياها..سأشعل ثورتي في وجهكم,سألغي تاء التأنيث الساكنة, وستكون من الآن تاء التأنيث المتحركة الفاعلة القوية(تأخذ رشفة,وتنظر حولها,لكن الظل مازال قابعاً يلاحقها,تتبدل الإضاءة,وتقوم الممثلة بأداء مشهد إيمائي,تجسد من خلاله عملية الانسلاخ,وكأنها تخلع جسدها وترميه خلفها,ترافق المشهد موسيقا خاصة..تنتهي من أداء المشهد الإيمائي,فتسقط حزمة ضوئية على سطح المرآة, تتناول الممثلة الزجاجة وتأخذ رشفة,وتسير بخطى واثقة باتجاه المرآة) لست بحاجة لنصائحك الآن جاء دورك لتصمتي إلى الأبد,بل لتخرسي,كما فعلت أنا مرغمة,منذ خلقت تعلمت أن أخرس,تعلمت ألا أتكلم عن أي شيء يحرك مشاعري وأحاسيسي,نعم هكذا علّموني,تعلمت أن أتحدث عن الأشياء التي لا أحس بها,وبنفس الوقت كنت أحس بأشياء كثيرة لم أجرؤ على البوح بها,علمّوني ذلك,جعلوا مني نسخة مشوّهة, فوتوكوبي,تهت,وتاهت ملامحي وضاعت الأشياء الحقيقية من حولي,فقدت الأشياء رائحتها,طعمها,لم أستطع أن أكون أنا,أنا التي أحب أن أكونها(تأخذ رشفة,ترافق المشهد موسيقا) تلك التي حلمتُ يوماً أن أكونها..تاهت وغرقت في بحر الخداع, وجميعهم كانوا يدفعون بي إلى الظلمة إلى أن دخلت النفق المظلم,فلم اعد اعرفُني, ضيعتُني حتى صرت غريبة عني,أنا لست أنا,كنت أظن أنني أنا؛أنا.ولكن في الحقيقية,أنا لست أنا,أنا هي التي أرادوا لها أن تكون,ولست أنا التي يجب أن أكون,يا الله,أنا غارقة في بحر لا قرار له,كل ما حولي كذب وخداع,كنت لعبة في أيدي أناس قتلة,مجرمون, أتحرك بمشيئتهم,أرتدي ثيابي كما يشتهون,أتكلم حين يأمرون,أنام حين تستيقظ شياطين فجورهم,أحب بمشيئـ(تتوقف.وكأنها تتذكر ومن ثم تقوم بتقمص شخصية وتقلدها) "الحب حرام,ثم ليس لدينا بنات تحب وتعشق".كان يحّرم عليّ الحب الذي غرق هو فيه مع امرأة عاهرة(تضحك بسخرية).متشابهون.كلهم رجال هذا العصر يتشابهون في ضعفهم وتخلفهم,وخوفهم,خوفهم الذي تسببه الأنثى لهم,لذلك نراهم يركعون في الخفاء تحت أقدام النساء,يتحولون إلى حيوانات ومهرجين وخدم,جميعهم مسجونون في الأنثى,ولكن أيّ أنثى تلك التي يريدونها.(تهبّ في هذه الأثناء ريح قوية,أمواج,ترتعد ومن ثم تتماسك,تصرخ) لن تخيفوني بعد الآن(تضاء بقعة ضوئية حمراء على أحد الحبال,فتسرع الممثلة وتقول).أعرف,أعرف,أحفظ كلامك جيداً,إنه ينخر في ذاكرتي التي بدأت بالتلاشي,حين قمت بسجني في تلك الغرفة التي أبت الجرذان أن تسكنها هل تذكر ما قلته لي يومها يا أخي,يا من ولدت وإياك من رحم أم واحدة ومن أب واحد,هل تذكر؟أنا أذكرك(تقلده بطريقة ساخرة) لو لم تكوني قد فعلت شيئاً لما كنت هنا,لأنه من غير المعقول أن لا تكوني مذنبة.أنت مذنبة لذلك يجب أن تنالي ما تستحقينه من عقاب(تضحك بسخرية) لماذا؟ لأنني رفضت أن أكون جارية له,رفضت أن أباع في سوق النخاسة(تضحك وتركض بجنون في كل الاتجاهات ومن ثم تقف وكأنها ستلقي خطاباً,الشراب بدأ يفعل فعله في جملتها العصبية,وكأنها تقول كلاماً غير مترابط) لو انك لم تفعل شيئاً لما كنت هنا وعندما لا تكون هنا فلا داعي لوجودي هنا وقتئذ لا داعي لوجودهم,وبالتالي لن تكون أنت ولا هم,وبذلك لا لزوم لوجودي وعندها لن يكون هناك أنا,ولن يكون أي شيء موجود,فكل شيء مرتبط بوجودي,فلا بد أن أكون أنا.(نسمع صوت صفارة قطار قادمة من بعيد,أجراس محطة قطار,تسرع الممثلة ومن ثم تقف وكأنها في محطة ركاب,لكن القطار يقطع الخشبة دون أن يتوقف وهي تتابعه بنظرها,دون أن تقوم بأي حركة وكأنها غير مبالية بذلك)  


إظلام 


                            المشهد الثالث

(الممثلة تجلس فوق الطاولة وهي تقوم بتوزيع الشموع,الإضاءة زرقاء,وهي تضع آخر شمعة نسمع موسيقا خفيفة تأتي من بعيد تقترب شيئاً فشيئاً,وهي ذات طابع إيقاعي استفزازي,الممثلة التي تقف فوق الطاولة بجانب أحد الحبال المتدلية من سقف المسرح,تعلو الموسيقا لتصبح أكثر وضوحاً..يتسارع الإيقاع,تبدأ الممثلة بالتمايل مؤدية حركات راقصة,يتسارع أثناءها الإيقاع أكثر,وتتسارع الحركات الراقصة تماشياً مع إيقاع الموسيقا,تتبدل الموسيقا,مع تبدل المشاهد التي تجسدها الممثلة من خلال حركاتها الراقصة فتؤدي"مشهد خوف,ومن ثم مشهد هروب,ومن ثم مشهد حالة الدفاع عن النفس,مشهد تلقي ضربات مبرحة,الممثلة ممددة فوق الطاولة,تنتهي المشاهد بتجسيد حالة اغتصاب" الممثلة وهي تحاول أن تخلّص نفسها من المأزق عبر دوران جسدها فوق الطاولة مشكلاً دائرة مغلقة,تختلط الموسيقا لتصبح عشوائية,يتحول المشهد إلى تعذيب جسدي نسمع من خلاله همهمات قوية,كلمات غير مفهومة,ضحكات,أبواب تفتح وتغلق,أصوات تحطم, صفارات إنذار,عويل,تتداخل الأصوات لتبدو وكأنها في حالة صراع قوي,الممثلة التي تتحرك حركات عنيفة وعشوائية,لينتهي المشهد بصراخ عنيف وكأنها استفاقت من كابوس ثقيل تصرخ) آآآآه..كفى اااا(تستقيم جالسة وهي تحمل بيدها مسدساً,ومن ثم تقوم بصنع مشنقة من خلال الحبال المتدلية من سقف المسرح,وكأنها تجهّز لموتها, ومن ثم تنظر حولها,وتقوم بإطلاق الرصاص على مجموعة من الصور المعلقة, ومن ثم تطلق الرصاص على أغصان الشجرة,فيقع الطربوش أرضاً ومن ثم الهراوة ومن ثم إشارة المرور,ومن ثم تضع فوهة المسدس في فمها,ترافق المشهد موسيقا خاصة,تطلق الرصاص,لتكتشف أن المسدس فارغ,تنظر إليه ومن ثم ترمي به جانباً, وتبدأ بتجهيز المشنقة بهدوء مبالغ فيه وهي تدندن موسيقا غير مفهومة). 
(يعلو صوت مؤثر الريح في المكان,فتسقط عدة أغصان من على الشجرة,تنظر المرأة إلى الأغصان وتسرع فتلمّها بين أحضانها بطريقة حميمة,مرة أخرى يعلو صفير قطار قادم من بعيد,تتأهب انتظاراً وهي ما تزال تضم الأغصان إلى جسدها,صوت صفير القطار يقترب أكثر فأكثر فيبدو أكثر وضوحاً وقرباً دون أن يتوقف,تتقطع الإضاءة وتومض عدة ومضات ومن ثم تعود الريح للهبوب,ويخفت صوت الصفير وما تزال الممثلة تتابعه بنظراتها الخائبة والمنكسرة,صمت قصير ومن ثم تقول : 


إلى متى؟ إلى متى؟(تضم الأغصان أكثر فأكثر) أقف هنا كإشارة المرور,كل شيء يمر من أمامي,وأنا أقف هنا في مكاني دون أن أتحرك!!لم أعد قادرة على مغادرة المكان, جذوري انغرست في عمق هذا المكان أكثر فأكثر,فغدوت كالشجرة الميتة(تصرخ وهي تنظر إلى الفضاء) ولكن لماذا لا يتوقف؟(تنظر حولها خائفة,وكأنها تذكرت شيئا ما) كم من الوقت مضى وأنا أقف هنا؟ لم اعد أذكر أي شيء,كيف أتيت؟ من أين أتيت؟ لماذا أتيت؟ لا أحد يستطيع الإجابة!!. أشعر أن ما يدور حولي هو كابوس مخيف,أكره الأحلام,أكره الفشل(وكأنها اكتشفت شيئاً)أنا هو الكابوس,كابوس أبي,وأخي..أبي الذي شوهّني,وأخي الذي انتقم من حبيبته فختمني بالشمع الأحمر,وهاأنذا, لست أماً,ولا زوجة, ولا حتى...أنا مجرد كائن عابر, لذّة عابرة ,استعمال لمرة واحدة فقط (وكأنها تذكرت الظل,تنظر حولها باحثة) أين اختفيت أيها الظل,تعال,تعال يا من تشبهني,تعال فالحرائق في جسدي تستدعيك بحرقة,تعال إلي حبيبي (تتمدد) تعال إلي يا حلمي,ظلل جسدي بفيء لذتك ولتكن لمرة واحدة,تعال بطني تتمزق لوعة وشوقاً ولهفة,أنقذني أيها الجبان الجميل,آه يا لهذا الجبروت الطاغي الذي يزلزل كياني برائحة الحب,ما الذي يحدث,آه, ما الذي يجتاح كياني,بركان ينفجر بداخلي ولكنه لا يقذف حممه,فقط نيران مشتعلة ودخان أسود,آه,أكثر ما ينهش أحشائي ويعذّب أنوثتي شوقي لأن أكون أمّاً (وهي تتحسس بطنها,وتعصره بين يديها) نار مشتعلة تلتهم أحشائي,أيها الجلاد القاسي,أنا بشر من لحم ودم وأحاسيس ومشاعر,كيف تسمحون لأنفسكم أن تبيحوا ما تبيحوا بدون رقيب كيف؟ بأي حق؟ سأنتقم منكم جميعاً,سفلة,مجرمون,سأقلع عيونكم بأظافري سأخزّق قلوبكم المتحجرة يا أولاد الكلب.هل كنت غبية..لا,لم أكن غبية,كنت أمينة على بضاعتكم الفاسدة والرخيصة,غدرتم بي,سنوات عمري الذي لن أعيش غيره,كنت غبية حين صدقت تفاهاتكم وانتم تتحدثون عن الشرف والأخلاق والفضيلة والسمعة الحسنة والكرامة,هذه بضاعتكم التي تعرضونها في واجهات بيوتكم,ولكنها فاسدة,فاسدة,من لا يأكل من بضاعته التي يبيعها منافق,وأنتم منافقون وكذّابون ومخادعون,لن أسامحكم(تذهب إلى المرآة وتنظر إلى نفسها) مازلت شابة,وجميلة وجذابة وجسدي مازال يخزّن إثارته ومجونه(تضحك بأسى وسخرية)كيف لا يكون كذلك,وهو الجسد العصي على اللمس,الجسد الذي لا يرى,جسدي لم يُلمس لم يره أحد,مازال مختوماً بختم المصنع(تضحك بشدة ينقلب إلى نشيج,تقترب من الشجرة)أنا مثلك يا صديقتي,متيبسة,يبست أغصاني وهرّت سنين عمري,ولكن أنت مازلت صامدة وقوية,وأنا أيضاً,سأمزق غشاوة الوهم الأكبر الذي غلفوا حياتي به,اعتباراً من هذه اللحظة,سأرى نفسي بعيوني أنا,سأسمع صوتي أنا بأذنيّ أنا,سأبحث عن الدف أينما كان,عن الحب,الحنان,سأبيح لنفسي ما يبيحه كل الرجال,فالرجل يذهب أينما يشاء وكيفما يشاء,وأنا سأفعل ذلك,لن أبقى بمعزل عن الإنسانية,أريد أن أكون حرّة (تعصف الريح بشدة أكبر,نسمع صوت انهيارات أرضية,برق,رعد,صوت منشار يقطع الأخشاب,أبواب حديدية صدئة تفتح وتغلق,يتصاعد الدخان,وتسقط أوراق بيضاء من سقف المسرح بكثافة,الممثلة وهي تدور في المكان,وتبدأ إضاءة متقطعة"فليشر" تومض ومضات سريعة,الممثلة التي تنتقل خلال الومضات بقفزات كبيرة من مكان إلى آخر أثناء سقوط الأوراق التي تغطي خشبة المسرح ).
إظلام 



                               المشهد الرابع 

( الحبال المتدلية من سقف المسرح تتحول إلى مشانق,الممثلة تقف فوق الطاولة وتمسك أحد الحبال الذي تحول إلى مشنقة,بقعة ضوئية تضيء وجه الممثلة,تقوم بوضع حبل المشنقة حول رقبتها بجرأة وثبات,يعلو صوت عواء ذئبي, تبتسم,وهي تتحسس الحبل حول رقبتها,تتذكر ) . 


هاأنذا في حضرتك أيها الموت,وها هي حياتي تبدو أمامي وكأني أشرف عليها من فوق رابية,أراها بكل تفاصيلها ( تبتسم ) ما حدث قد حدث,وكأني بطلة فيلم سينمائي تمثل دورها بكل براعة,آآآآه,ولكن ثورتي باءت بالفشل,لذا لم يعد أمامي سوى الانسحاب إلى دهاليز الظلمة والغياب,لم يعد باستطاعتي الاستمرار,بل لم يعد لدي الرغبة في حياة مملة خانقة تغص بالأوهام والخداع,الكذب والنفاق عنوان عصرنا,لم يبق لي سوى الموت, تلك الحقيقة الوحيدة الثابتة في حياتنا,في حياتي أنا على أقل تقدير.
( بقعة ضوئية تسقط على الخشبة بشكل عمودي, تنظر الممثلة إليه وكأنها تذكرت والدتها) أمي!سامحك الله,لماذا تقتحمين علي خلوتي كعادتك التي كرهتك بها,أمي أيتها المرأة المستبدة,أتذكرين حين كنت تتلصصين علي,وتضيقين علي الأماكن واللحظات بطيفك الجاثم فوق صدري كالجبل,كنت طفلة صغيرة يا أمي,لم تتركيني يوماً أنجز عملاً لوحدي كنت دائماً تراقبيني,تراقبين أدنى أفعالي وحركاتي ونظراتي وابتساماتي التي نسيت كيف أقوم بها,حتى جاء اليوم الذي اقتنعت فيه أنني فتاة غبية,أو فتاة عاجزة معتوهة,لا أستطيع أن أتخلص من عينيك المتلصصتين يا أمي,صوتك الذي يصمّ ذاكرتي وكأنه أجراس تقرع حتى نسيت صوتي,أذكر الآن حكاياتك المتشابهة,كل يوم نفس الحكاية,بنفس الطريقة لا زيادة ولا نقصان,كنت تتحدثين عن معاناتك وتضحياتك من أجلي وكأنك الأم الوحيدة في العالم التي تعاني من أجل أولادها,ودائماً ما تبادر إلى ذهني نفس السؤال,ألم تفكري بقدرتك على مواجهة تلك الصعاب حين كنت تمارسين لذّتك معه في الفراش الدافئ؟ ولكن اعرف ما كنت ترمين إليه من وراء حديثك,كل ما قلته كي تجبريني على أن أكون تلك الفتاة المطيعة العاقلة,ستة وثلاثين عاما هل تذكريني يا أمي؟ والآن,تأتي لتعيدي عليّ ما تقيأته كل تلك السنين؟ كنت أرغب بوداع أكثر ألقاً(تسقط حزمة ضوئية أخرى بشكل عمودي على خشبة المسرح مع بقاء الحزمة الأولى مضاءة,تُبعد حبل المشنقة عن رقبتها ومن ثم تقف أمام المرآة) أمي أنا أرفض أن أكون نسختك المشوهة في هذه الدنيا,أرفض أن أشبهك,لأنني أكرهك,لا تستغربي,أنت سحقتني دمرتني,اغتصبت شخصيتي,جعلتِ كل عقدك تنهال عليّ حِمماً حارقة,أنا (تتوقف ومن ثم تعود وتضع حبل المشنقة حول رقبتها ومن ثم تقول) أمي,أنا لا أكرهك,بل أكره ما تمثلينه لي,لأنني..لأنني فعلاً أشبهك وهذا ما نجحت في صناعته,دمية من لحم ودم,ولكنها لا تحسّ ولا تعرف الحب ولا...صدقيني أمي أنا الآن في أكثر لحظاتي صدقاً وقولاً للحقيقة كما هي دون تجميل أو تزييف,لذا ليس لدي أدنى إحساس بالشعور بالذنب,ترى هل عليّ أن أشعر بالذنب؟ (تقوم بتضييق مساحة حبل المشنقة حول رقبتها ليصبح ملاصقاً أكثر) أمي الوداع الآن,أرجو أن ترحلي كي لا تكوني شاهداً على قتلي لنفسي,سأختصر زمني الباقي في هذه اللحظة,سأختصر ما تبقى لي من أيام,وهذا الحبل مخلصي الوحيد(تبدأ بشد الحبل أكثر حول رقبتها,تنسحب الحزمة الأولى,تتبعها الثانية,الممثلة تتأوه,قطرات من العرق على جبينها وخديها,تتراجع فجأة وتسحب رأسها بطريقة سريعة) آآآه,إنه مؤلم,مؤلم جداً,يا الهي كدت أموت( تبحث حولها , وكأن فكرة خطرت على بالها , تمسك ورقة وقلم وتبدأ الكتابة ) يا من سيقرأ كلماتي بعد موتي, إذا جاز السؤال عن سبب موتي,فاعلموا أن أبي وأخي وابن الجيران وزميلي في المدرسة وبائع الخضراوات والمحاضر في الجامعة ومدير الدائرة والبائع والمتسول هم من خططوا لقتلي عن عمد , ومن ثم قاموا بتسيلم جثتي إلى أمي التي غرزت سكينها في قلبي وكبلتني بسلاسل قيودها بعد أن سلختها عن جلدها,أمي تخلصت من قيودها التي ورثتها عن آبائها وأجدادها ورمتها فوق ظهري,أمي الآن تعيش حرّة بعد سنين طويلة,تخلصت من أثقالها التي أرهقت حياتها,وبعد هذا الاعتراف بفشلي أقرّ وأعترف أن كل من ورد ذكره مسؤول عن قتلي وعن قتل من سيأتي بعدي , ولكن أرجوكم , أوصيكم أن تحاولوا التخلّص من عقليتكم العفنة التي توارثناها جيلاً بعد جيل,العقلية المبتورة الذليلة,كنت مذعورة طيلة حياتي السابقة,مذعورة على عذريتي التي هي عنوان شرف العائلة,مذعورة على سمعتي وأخلاقي وشرفي وكرامتي وتصرفاتي والآن بعد موتي أهديكم هذه البضاعة الناصعة البياض التي لم تمسها يد ولا عين وبقيت مختومة بالشمع الأحمر. (تعود وتضع الحبل حول رقبتها ومن ثم تقوم بتضييق الدائرة حتى يضغط الحبل عليها بشكل مباشر,تجحظ عيناها بعض الشيء ومن ثم تبتسم,تتبدل الإضاءة لتصبح حزمة ضوئية تسقط عليها بشكل عمودي زرقاء اللون,الممثلة وهي ترفرف بيديها وكأنها تطير,تنظر إلى الأسفل وكأنها تنظر إلى الدنيا من السماء ) .. 
ما أجمل الطيران,ما أجمل هذه الأماكن,أشعر بحرية,أنا أحلق عالياً,أشعر بخفة,ياااااه,ما أجمل هذه الأحاسيس,الآن أرى كل شيء بوضوح لا ريب فيه, ها هي شوارع طفولتي المنسية  ,طفولتي , حارات الذكريات المجنونة , الصبية الأشقياء , الكورنيش الجنوبي,الكورنيش الشمالي , شارع هنانو .. شارع الأمريكان,مشروع الزراعة,لم اعد مجرد دمية يلعبون بها,أنا الآن أطير بحرية وكأني غيمة , غيمة زائرة تظلل بفيئها بقاع الذاكرة , ولكن...هل عشت حقاً,هل ولدت أصلاً , هل حقيقة أني خرجت من رحم أمي البارد , هل كنت هناك , أم كان وهماً أم حلماً , أنا أحلق بين النجوم ( تسقط في هذه الأثناء من سقف المسرح أوراقٌ بيضاء بعد أن تتبدل الإضاءة لتصبح زرقاء , الممثلة وهي تتابع بيديها حركة الطيران من مكانها , وحبل المشنقة حول رقبتها تتبدل الحزمة الضوئية لتصبح حمراء , الأوراق التي تسقط بكثافة شديدة , يعلو الدخان في المسرح لنجد الممثلة وكأنها فوق غيمة وهي تطير في السماء , تتصاعد الموسيقا في المكان والتي تنسجم مع حركات الممثلة وحالتها الداخلية .. تضاء فجأة الحزم الضوئية التي تسقط بشكل عمودي فوق خشبة المسرح تحيط بالممثلة وتشكل حولها ما يشبه قضبان السجن , تتوقف الممثلة في هذه الأثناء عن حركة الطيران , وتتجمد في مكانها , تتلاشى الإضاءة تدريجياً وبعملية معاكسة , تنسحب الإضاءة الزرقاء العامة أولاً , ومن ثم تتلاشى البقع الضوئية واحدة تلو الأخرى , لتبقى الحزمة التي تسقط على الممثلة , الموسيقا ترافق المشهد , تخفت الإضاءة كاملة , تنسحب الممثلة من المنصة , الموسيقا مازالت مستمرة , تعود الإضاءة خفيفة زرقاء لنجد أن كل الحبال المتدلية من سقف المسرح تهتز بحركة خفيفة , ومن ثم يسطع ضوء قوي ومباشر باتجاه جمهور الصالة ويبقى لمدة قصيرة ومن ثم يخفت تدريجياً ). 
  
                            إظلام

ستار

   مجد يونس احمد – سوريا – اللاذقية – موبايل / 570 410 945 00963 / 

E-mail- majdyounesahmad@gmail.com

Magicland72@hotmail.com      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق