تصنيفات مسرحية

الاثنين، 6 أبريل 2020

مسرحية " الرقص احتفالا بالموت " تأليف مجد يونس احمد

مجلة الفنون المسرحية

الكاتب مجد يونس احمد 



"ممثل في الخامسة والأربعين من العمر، يمسك بمكنسة كبيرة،ويقف بباب الصالة يستقبل الجمهور أثناء دخولهم ، ويقوم بتوزيع نظّارات بلاستيكية منزوعة العدسات عليهم" 
"بعد دخول الجمهور وجلوسهم في المقاعد يقوم الممثل بتوزيع البروشورات الخاصة بالعرض " 
"ينتهي من توزيع البروشورات، يحمل المكنسة على كتفه ، يسير ويقف في مقدمة الصالة مواجها الجمهور"
الممثل 
أيها السيدات والسادة، أسعدتم مساءا "نسمع في هذه الأثناء صوت جرس يرن" على جميع الحضور الكرام وضع النظارات،لأن العرض سيبدأ بعد قليل.. شكرا"يؤدي الجملة بطريقة إعلانية استعراضية،نسمع رنة جرس مرة أخرى بشدة أقوى من سابقتها"


أيها السيدات والسادة،قبل أن نبدأ العرض،أحب أن أعرفكم بنفسي. أنا (......) "يمكن أن يذكر اسمه الحقيقي" ممثل مسرحي،منكم من يعرفني ومنكم من لا يعرفني،البعض سمع بي ، والبعض لم يسمع. منكم من شاهد لي بعض العروض ومنكم سيشاهدني للمرة الأولى. ومنكم،ومنكم،ومنكم .... "ينظر إلى شخص في الصالة ويقول" أرجو أن تضع النظارات ،لو سمحت.. "نغمة جرس مرة أخرى" استعدوا جيدا،وأرجو أن تقوموا بتوليف محطات دماغكم لمشاهدة عرض مسرحي،عرض ، قد نلتقي فيه،أو نسير معا أو نختلف لذا "يرن الجرس بشدة أكبر وبطريقة ملحّة " استعدوا..و أؤكد على وضع النظارات.
 "تبدأ الإضاءة بالخفوت التدريجي ، يسير الممثل في الممر، ويقوم بكنس الأرض وهو يصرخ"
 حاضر، حاااااضر . 
" يخيم الظلام على المكان. الممثل على خشبة المسرح، الظلام مخيم على المكان، نسمع صراخ الممثل" 


أنا فنان عظيم، فنان عظيم، أنا فنان عظيم أيها العالم القذر.. أنا فنان هذا القرن. لدي رأس محشو بآلاف الأفكار العظيمة والفريدة والمجنونة، لدي ما لدي من أفكار تجمع كل بؤس وشقاء العالم، وكل عظمة التاريخ والإنسانية. 


" يشعل الممثل شمعدانا فوق طاولة متوسطة متوضعة في منتصف الخشبة، نراه وقد اعتمر قبعة صوفية، ونظارات سميكة، ترتفع الإضاءة بعض الشيء، فتظهر بعض قطع الديكور المتواجدة في المكان، مقعد متوسط، علاقة ثياب عليها بعض قطع الثياب المتنوعة ، حقيبة سفر صغيرة ، كرسي، وحبل متدل من سقف المسرح " يتابع" 


"الممثل يقف في منتصف الخشبة ويحدق بنقطة في الفراغ، وكأنه يفكر بأمر ما، ومن ثم يبدأ بالضحك، يتدرج ليصبح قهقهة عالية وعنيفة، تتحول إلى بكاء حاد ومن ثم يصرخ" 


لماذا؟ لماذا؟ لماذا هذه القسوة ومن يصنع هكذا قسوة ؟!
"يقترب من الكرسي ، ويحدق بأوراق متكومة فوق الطاولة، ومن ثم يركن المكنسة على زاوية الطاولة ويجلس إلى الطاولة، ويبدأ بالكتابة ويقرأ بصوت مسموع" 


منذ عشرين سنة وأنا أهيئ نفسي، وأعدّ العُدة لمواجهة هذه اللحظة الحاسمة...عشرون سنة من التشرد والضياع والتمرد والصعلكة...عشرون سنة مترامية الأطراف، عشرون سنة ..
" يتوقف ، يجعلك الورقة، ومن ثم يرميها ، ترتفع الإضاءة بعض الشيء، لنجد ان الكثير من الأوراق المرمية حول الطاولة مبعثرة بطريقة عشوائية.. يحدق بالفراغ، ومن ثم يمسك مذياعا ويبدأ بتحريك مؤشر المذياع، نسمع بعض العبارات أثناء تحريك المؤشر" مسلحون.. "يحرك المؤشر" متطرفون .."يحرك المؤشر" مشردون.." يحرك المؤشر " مُهجرون.."يحرك المؤشر" ارهابيون.. "يحرك المؤشر، تتسارع وتيرة تحريك المؤشر  فنسمع الكلمات" ( يذبحون ، مجزرة ، حرب دائرة ) ..." يتجعلك وجه الممثل بطريقة تعبر عن امتعاضه ويأسه، ومن ثم يغلق المذياع ويمسك المكنسة ويقف " 


يا الله.. ما الذي يحدث؟ العالم مرجل يغلي، العالم ينفجر، يا الله ..!!


"يعود ليجلس ويمسك القلم يكتب.. يتوقف، ومن ثم يقوم بجعلكة الورقة بين أصابعه ورميها ومن ثم يبعثر بعض الأوراق بغضب واحتجاج واضحين" 




يا الله...أحلامي، أحلامي التي تلد في كل لحظة، أحلامي أنا تتبدد وتتناثر، أحلامي العظيمة تحتضر بين يدي وأنا العاجز عن فعل شيء، يا الله ، بدون أحلامي لن استطيع العيش.. أنا : فنان هذا القرن أحمل أحلامي العجائبية، أحلامي المجنونة، لكنها تندثر في مرجل الخراب والموت. لدي أحلام كثيرة، أحلام تنخر رأسي وتمارس جنونها الشيطاني، أحلامي تأكلني، آآآآه يا الله، كل شيء من حولنا يحمل رائحة الخراب والموت، رائحة الدمار"يتوقف،ينظر حوله"يا لهذا الصمت المقيت، المخيف ،الغادر، أين أنا، أكاد أفقد ذاكرتي، أين أنا يا ترى، وكيف جئت إلى هنا؟ الجو بارد ورطب؟ كم هو مخيف هذا الصمت، أخشى ما أخشى ان يفيض الصمت وتنقلب اللحظة فوق الرؤوس الفارغة "يصرخ" هيه !! أما من احد هنا؟!؟ هيه..يا هوووووو.. كنت أدرك أنكم سترحلون وتتركوني هنا وحيدا في هذه العتمة المقيتة.. كل ما أفعله ينتهي بطريقة سيئة! ولكن سأغادر، سأبتعد عنكم، سأغادر هذه الحياة المملة، لا أشخاص جدد، وإذا صادفت وتعرفت على شخص جديد تجد انه يشبههم، أينما ذهبت أصادف أناسا لا أرغب برؤيتهم مع أنهم جزء من ذاكرتي التي سأحرقها في آذانكم لتبقى ميتة ويبقى شبحها يلاحقكم حتى في نومكم " صمت يكنس الأرض، لكنه يتوقف فجأة" يا للتعاسة، ليس في الداخل ما يغري ولا الخارج بأفضل حال، لم أعد احتمل ، هذا المكان بارد كالقبر، إنها المرة الأولى التي ارتجف فيها خوفا من الموت الذي يحيط بي من كل حدب وصوب.. آآآآخ يا رأسي ، كيف استطعت البقاء كل هذا الزمن بين هذه الجدران الآيلة للسقوط، كيف لم أنتبه إلى هذا الهواء الفاسد، هذا المكان الذي تهب منه رائحة العفونة والغدر والخيانة، يا الهي ما الذي قادني إلى هنا، لأدفن نفسي كل هذا الزمن "يبتسم هازئا ساخرا"ربما هو آخر نفس من الأمل المطعون بسكين الوهم " يتأمل المكان من حوله، فجأة يعصر رأسه بين يديه" ذاكرتي تؤلمني حد الثمالة، وكأني الآن انزف آخر ما تبقى من ذاكرتي، وكأنني افقد كل حياتي وكأنها خيالات أشباح من صنع كاتب مهووس وممثل مجنون "يفرك عينيه" عيناي عاطلتان عن العمل، بات كل شيء بلا معنى. "يبتسم" عندما نقف في حضرة الموت، حينها فقط ندرك أن كل شيء بلا معنى ..!!"فجأة يصرخ منفجرا وهو يدور في المنصة" أين أنت، اخرج، تعال، تعال واجلس على عرشك "يركض ويزيح الكرسي من وراء الطاولة ويضعه بالقرب من مقدمة المسرح ليصبح تحت الحبل المتدلي من سقف المسرح، ويضع المكنسة كالصولجان"تعال إلى هنا، أنا أعرف انك حاضر بقوة في هذا المكان، هذا زمنك، هذا أوانك أيها القابع في نفوسنا وهوائنا، تعال يا لغز البشرية وعصارة الروح، أين أنت.. ها أنا ذا أضع نفسي بين يديك ."يتعثر فيسقط بالقرب من رجل الكرسي تسقط بقعة ضوئية حمراء، لكنه يرتعد فجأة وتجحظ عيناه رعبا" أرجوك. أرجوك، امنحني وقتا إضافيا، أنا،أنا العبد الفقير لله، أنا أعرفك يا ذا الجلالة، يا ثابت القدمين يا ذا المهابة "صمت ،يرتجف" لماذا تصمّ سمعك عني؟! ألا تسمع ندائي؟ رجائي؟ توسلاتي؟ معك حق، فأنا لا صوت لي ولا رائحة ولا لون، أنا من أنا؟ أنا العبد الفقير من أنا؟ أنا غير ما أنا عليه بالأمس، آه أحس روحي الهاربة عارية. آه "تنسحب البقعة الضوئية الحمراء،ينظر حوله، يقف" أغلقوا الأبواب أمام القادم، فهنا روح عاشق لا تدركها الشياطين، هاهنا حكايات ،أغلقوا الأبواب، هاهنا أبيع الحكايات ،ابيع الأحلام، هاهنا ابيع نفسي في سوق النخاسة، هاهنا تتفتق الذكريات لتكتب على جدران الجنون، أغلقوا الأبواب، لا تدعوه يرحل" يتوقف، ينظر حوله، يحمل المكنسة ، يصيخ السمع ، صمت " هيه.. أما من أحد هنا ..هييييه..أنا هنا ، أين أنتم، أنا فنان عظيم في زمن موشوم بالغدر والقتل والدمار، هيييهه ." نسمع صوت منبه الساعة يدق عدة دقات متتابعة وقوية، ينظر إلى مصدر الصوت" كفى.. كفى، اللعنة عليك أيتها العقارب اللعينة، يا نذير الشؤم.. أيها الوقت الذي يتسلل من بين هذه العقارب اللعينة كيف السبيل لإيقافك، والعودة بك إلى الوراء، إلى حيث كنا ." تدق الساعة مرة أخرى" لن يتغير شيء، ما يحدث يجب ان يحدث، كيف؟ لماذا؟ متى؟ أين؟ لا يهم.. المهم أننا نسير في الزمن، إلى حتفنا "يجلس على الكرسي ويتكئ على المكنسة، يبتسم "
عجيبة هذه الحياة !! أركض وراء حتفي، وحتفي يهرب مني ! هل تصدقون ذلك ؟! أشعر وكأني كائن وهمي لا وجود له في الواقع " ينظر إلى نفسه ويتلمس جسده " أنا لست حقيقياً، أنا من صُنع خيالي، أنا شخصية خيالية ابتدعها دماغي المجنون، ورمى بها فوق هذه الخشبة، أنا شخصية وهمية مهزومة لا دليل على وجودها سوى هذا الظل على المسرح، شخصية تبحث عن حكايتها الضائعة، لم يعد يعنيني سوى حقيقتي الضائعة " يضحك، ينظر إلى الجمهور"من أنا ؟ ما هي حكايتي ؟ حتى اللحظة لا يوجد خط واضح يبين لي مسار حياتي سوى تلك البوابة الواسعة التي تفضي إلى عرش ملك الموت .. هل تصدقون ؟ إنني رجل بلا حكاية ، بلا تاريخ .. خلقت صامتا ، تربيت صامتا ، نفذت كل ما طلب مني صامتا ، قرأت بصمت ، عشقت بصمت ، تألمت بصمت ، صُفعت بصمت ، بكيت بصمت ، غنيت بصمت " يدندن لحنا ما " اشعر بفراغ رهيب ، كل ما تبقى في ذاكرتي أشياء متناثرة، نسيت حكايتي التي تبخرت في صقيع هذا المكان ، نسيت من أنا . أنا أتعفن في ظلام هذا المكان البارد ، أتعفن في مسرح فارغ تعبث به الريح وتصفر " ينظر إلى الجمهور ، يقف بهدوء يضع المكنسة فوق كتفه ويسير في مقدمة المسرح وهو يشير إلى مقاعد الصالة وكأنه يعدها " ماذا لو كانت هذه الصالة ممتلئة بالمتفرجين ؟! وأنا الفنان العظيم اروي هذياني ،أدور وارقص وأضحك وأمارس جنون الصمت أناجي نفسي وأتبخر في هذا العتم البارد حتى يتصاعد الدفء في نفوس الحاضرين ، ان الحياة هنا حياة حقيقية ، لا تشبه الحياة التي نعرفها " يتخذ وضعية تمثيلية معينة ويسوّي المكنسة بطريقة يجعلها كالصولجان ويجلس على ركبتيه ويؤدي مقطعا حفظه من إحدى المسرحيات " أيتها الأجيال البشرية المتناسلة بكثرة ،إني لا أرى فيكم سوى العدم ، وها أنا ابحث عن الإنسان الذي يحصل من السعادة على أكثر مما ينبغي كي يبدو سعيدا ، حتى أنا ، إذا ضربت فيك المثل فاني لا استطيع أن أحكم على أحد من الناس بأنه سعيد " يتوقف ، يضحك بسخرية ،يقف ويبدو معجبا بنفسه " أنا أنا فنان عظيم ، أنا فنان هذا القرن ، أنا فنان لا يُشق له غبار ، وليس لدي شك في موهبتي الفذّة " ينظر إلى أحد مقاعد الصالة وكأنه تذكر شيئا ما "لماذا ؟ " وكأنه يخاطب شخصا بين المتفرجين " هل تعلمين أنني أنا الحقيقة وهو الوهم ؟! يتكئ عليّ ليبرهن على وجوده المزيف والمخادع ، لن تصدقي ، أعرف ، لأنه من الجنون أن تصدقي أن شخصا مثلي يفترش الورق ويشرب مداد الأقلام أن يكون حقيقيا ، أنا كائن ورقي بالنسبة لك ، تحبينني على الورق ، وتحبين من يعبث بقدري كيفما يشاء ..تحبين الممثل الذي يلبس حياتي ويتقمص حياتي وأنفاسي ومشاعري ويؤديها بسذاجة أمام عينيك ، أنا الحقيقة أيتها الجميلة ..وسأبرهن لك على ذلك " يسير ويتجه إلى حيث يوضع مشجب الملابس ، ينحني ويحمل الحقيبة المتكئة عليه ، ويسير بها ، يضعها فوق الطاولة الصغيرة ، ومن ثم يفتحها ، وهو يلقي نظرة تحدي باتجاه الفتاة الجالسة في الصالة ، يمد يده وينتشل شالا ملونا بألوان قوس قزح ، ويرفعه ، ويحدق بالفتاة وهو يبتسم ابتسامة الظافر "ما رأيك الآن ؟ هل تذكرين هذا الشال ؟ هل تعرفينه ؟ لا ، لا تخجلي يا قطتي الصغيرة .. اسمعي ، حين وقعت عيناي عليه نبت لي جناحين ، وطرت بهما إلى حيث كان فوق المقعد الذي كنت تجلسين عليه " يسير باتجاه المقعد مسرعا ، ممثلا الحالة " انحنيت أمامه بخشوع عاشق مجنون ، مددت يدي المرتجفة باتجاه شالك الغافي على المقعد وأخذته بين أناملي ، وحينها فاحت رائحتك في المكان ، حملته بين ذراعي ، وبدأنا نرقص وحيدين في عتمتنا ، لعبنا ، وبعدها خرجت ألهث كالمجنون بحثا عنك في كل مكان ، ، ركضت وركضت ، " يركض ، ومن ثم يتوقف " ولكنك تجاهلت لهاثي ، تجاهلت لهفتي الصادقة ، أتذكرين ، نعم ، كنت تتأبطين ذراعه ، ذلك المسخ الذي يدعي ما يدعيه فوق الخشبة " ينظر إلى المقعد " لا، لا داعي للبكاء ، قد فات ما فات وولّى وقت الندم .. لا يا ساحرتي الجميلة ، يا قطعة السكر ، لا تحزني ، ولا تجزعي ، لا داعي لذلك ، لأنني أنا فنان القرن الذي أحبك ، أنا فريد في زمن يعج بالمتشابهين، أحبَكِ أنت. عشرون سنة وأنا أهيئ نفسي لهذه اللحظة الاستثنائية من عمر البشرية، هذه اللحظة التي ستكون علامة فارقة في هذا الزمن الواهن " يعود وينظر إلى المقعد "لا تخافي يا ساحرتي، هذا الشال الذي كان يوما ما يلف عنقك الشهي، سيكون رفيق دربي إلى الـ هناك ." صمت قصير " لقد فكرت كثيرا، هاجمتني قطعان الأسئلة بطريقة شيطانية، ترى هل نسيت الشال؟! أم أنك تعمدت ذلك؟ هل هي إشارة، رسالة؟ ولكن للأسف، لم يكن هناك إجابة لأي شيء، وكل الاحتمالات واردة، وأقرب الاحتمالات إلي " يتوقف .. يصمت ، يحدق في الحبل المتدل من سقف المسرح " كنت تأتين كل يوم، تجلسين في نفس المقعد، وحين يبدأ العرض كانت عيناك تنظران إلى الممثل الذي يمثل فوق الخشبة بطريقة باهتة، كنت تنظرين إليه بإعجاب وكنت أنا بدوري أحسده وأمقت أداءه، كنت أراقبك مبللا بطيفك، حينها فقط تمنيت أن أكون مكانه، أنا الحقيقة وهو الوهم، أنا الممثل وهو الفكرة " يبدأ يراقص الشال برومنسية " ينتهي العرض، تقفين ، تصفقين ، وكم تمنيت وقتها أن أتكور بين كفيك ، وتعصرين غبار الوجع والوحدة. وكنت أعلم انك في هذه اللحظة تهيئين لصفعة أقوى تحيلني إلى الركن الآخر من الضوء. إنها لحظات استثنائية رغم الألم. " يضع الشال على رقبته " كنت آخر من يغادر صالة المتفرجين، تعبرين من أمامي  بعد أن تغلفيني بابتسامة غامضة ونظرة مريبة ، فأغمض عيني " يغمض عينيه "كنت أريد أن أطبع ملامحك في غرف الذاكرة التي تعجّ بصورك، ويعم الصمت، ويشهر الفراغ سيفه بوجهي، وبين الفراغ والصمت تداهمني الفوضى من جديد. أعود وحيدا كعادتي ترافقني خيبتي ، وشكوكي، أغلق الأبواب، وأفرد ذراعي وألقي بنفسي فوق سرير العتمة الوحدة والوحشة، وحشة لا يستطيع احتمالها سوى مريض مبلل بالجنون والعشق، وتنهار الأشياء من حولي ساعة بعد ساعة، لحظة بعد لحظة حتى أصل إلى النهاية المحتومة " يذهب إلى الطاولة ويجلس ، يبدأ بالكتابة "سأدون اعترافاتي أنا الغارق بين حطام الأحلام المنهارة . " يكتب "إليك يا من يزينك حزنٌ يعكس بريق عينيك، إليك يا من فضحت بجمالها قبحي، إليك اكتب هذه الكلمات، أنا الفنان العظيم الذي صار عاشقا لك مجندلا بالهذيان والضياع ،أناجي نفسي و أراقص الأشجار وأغازل الجدران أنا الذي بحث عن كل الطرق والاحتمالات التي تعلمني كيف تؤكل كتف الأحلام لأنتهز لك القصائد وانثرها في فضاء هذه العتمة الباردة . وأنت التي صفعت اللحظات بخيانتك، جلدت بسياط خيانتك المتأبطة ذراعه، فانتحرت القصائد والأحلام تحت أقدام الحضور بشكل مهين. لذا يا.. يا.. يا حبيبتي "يتوقف ،ويجعلك الورقة ويتركها على الطاولة يبتعد وهو ينظر إليها بعينين محمرتين" لذا، يا...قررت الرحيل. استثنائية هذه اللحظة، إنها اللحظة الوحيدة التي هيأت نفسي لمواجهتها؛ اللحظة الوحيدة في حياتي التي أقرر فيها بصوت مسموع" يصرخ" سأرحل، وسأترك لك بضع حروف تدفئ وحدتك في ليالي البرد القارس حين يهجرك حبيبك المعتوه، لأنه سيختفي بمجرد رحيلي، بدوني لا وجود له وأنا لم أعد أريد هذه الحياة الوهمية ، لم تعد الحياة مهمتي، لم اعد متشبثا بالوهم . الآن في هذه اللحظة الاستثنائية تأكدت أني فكرة ولدت من عقل ممثل مجنون كان عبدا للماضي الحافل بالبشر المعطوبون "يضحك" ولدت وبيميني كتاب النبوءات بمصير معتم ،سأرحل " يبدأ بلملمة بعض الحاجيات ، يحمل بعض قطع الثياب المعلقة على المشجب ، ويضعها في الحقيبة ، يتوقف فجأة ، ومن ثم يبدأ برميها في فضاء المسرح ، وهو يصرخ " لا احتاج إلى الملابس، أريد أن أكون عاريا إلا من الصدق والحقيقة والعشق "يبحث ومن ثم يحمل الشال، ويضعه في الحقيبة، ينظر إلى المقعد" سأنتظرك دائما، وسيكون شالك علامة اللقاء بيننا، سأحمل الرغبات وجدران الخوف وأرحل.." يتوقف وينظر إلى جسده ، ويبتسم " ياااااه، اشعر بخفة بهلوان رشيق. إنها المرة الأولى بحياتي التي أحس بها بالخفة، أنا أتحرر إذن" يصرخ " نعم أنا أتحرر، أتحرر من عبوديتي، لم أعد عبدا، لم أعد لعبة بيد القدر، لم أعد وحيدا أنا الآن في كامل الاستعداد للرحيل. " نسمع في هذه اللحظة ، جرس محطة القطار ، صوت قطار يقطع المنصة، يختفي. الممثل يحمل الحقيبة ومن ثم ويصعد ليقف فوق الكرسي ، ينظر حوله في المكان وكانه يودع المكان، نسمع صوت قطارات تقطع الخشبة ، الممثل ينظر الى القطارات التي تمر وهو يبتسم، يسير خطوة أخرى ليقف فوق الطاولة الصغيرة , والحقيبة ماتزال بيده , تضيق الاضاءة من حوله، أصوات مختلفة لقطارات تقطع الخشبة بكثافة، اجراس المحطة تقرع بين الفينة والأخرى، يتصاعد في هذه الأثناء الدخان في المكان ، يتكاثف الدخان فيبدو الممثل وكانه يقف فوق غيمة ،يمسك الحبل المعلق في سقف المسرح ,ويدخل رأسه في الدائرة المعقودة ،يبدو وكأنه يجهّز نفسه لبدء الرحلة، صافرة قطار تنطلق وكأنها تعلن الاستعداد للانطلاق، جرس المحطة يدق ، القطار يتحرك ، الممثل يهتز وكانه تأثر بحركة الانطلاق ومن ثم يبتسم ويبدأ بالتلويح في المكان ، ينظر الى المقعد " الوداع، الوداااع، سأنتظرك عند كتف الأحلام، لا تتأخري كثيرا، سأشتاق لك ؛الوداع.       " ينظر حوله وهو يضحك " الوداع ايتها الذئاب المفترسة، وداعا ايها الملطخون بدماء الذكريات الجريحة " يضحك وهو ينظر الى الأسفل " أنا أحلّق فوق الوهم , أنا أحلّق فوق الكذب ، من هنا أرى الدمار بشكل أوضح , الدمار الخراب النفاق، من هنا أرى وجوهك الباهتة والصامتة تستحم بضباب الدهشة والحسد، هيا تحركوا، لنرقص معاً احتفالا بالموت، الموت الذي يضع العالم بين يديه؛ هيا لنرقص احتفالا بالموت " يعود وينظر الى المقعد ,جسده يبدأ بالرقص الارتجالي" هل يعجبك رقصي؟ كنت تحبين هذه الرقصات المجنونة التي كانت تشبهك " يحرك جسده بحركات عشوائية مبالغ فيها وكأنها تعبير عن نوبة غضب " هيا صفقي  هيا ، ستنتهي الرقصة بعد قليل، استمتعي قدر ما تشائين، ولكن تذكري سأكون بانتظارك هناك والى ان يتحقق ذلك , اكتبيني بلون الفجيعة فوق رماد الذاكرة، لملمي ذاكرتي المرمية على قارعة الرصيف، لملميها كي تنضج اللحظات ، خبئيها بعيدا عن الضوء، ولا تشعلي الشموع احتفالا ،بل اشعلي النهارات بالقصائد المحمومة بالحب، انها اللحظة الاستثنائية , اننا نلد من جديد ، الولادة الجديدة، كلانا وليد هذه اللحظة الاستثنائية، انا في بياض اللحظة وأنت وهم تقبعون في أقبية ودهاليز الحياة المتعفنة بجثث الضحايا والخراب والدمار ,جثث الكذب جثث الفاسدين والمغرورين جثث اللصوص ,انا هنا في بياض اللحظة ,يرسم لي ذاكرة جديدة ،ذاكرة تحبل بصغار الأحلام البيضاء ، أحلام لا جدران لها ،هذه لحظة الولادة " الاضاءة تبدأ بالخفوت شيئا فشيئا , الممثل يستمر في كلامه , حتى تختفي ملامحه بشكل كامل " ارقصي , ارقصوا , تمايلوا بانسجام احتفالا , انا اراكم الآن تحملون جماجمك فوق أكتافكم وتحملون نعشي بائسين , لا , لا , افرحوا وارقصوا فرحا بالموت . الآن لم يعد مصيري مجهولا , الوداع . الودااع . " يعم الظلام في المكان ,صوت قطار يختفي , صوت ريح تهب في المكان .. صمت قصير , ترتفع الاضاءة بهدوء , دمية خشبية معلقة في الحبل وتلبس نفس الملابس التي كان يلبس الممثل , الممثل يجلس الى الطاولة وهو منهمك بالكتابة , أوراق كثيرة مجعلكة ومرمية على الأرض من حوله . ينهي كتابة آخر جملة , ومن ثم يبتسم " الرقص احتفالا بالموت ...! عنوان جيد . " يقوم بتجميع الأوراق , ومن ثم يسند ظهر الى الكرسي , ومن ثم يمد يده ويشعل المذياع بالقرب منه , وهو يدخن سيجارة ,يقلب مؤشر المذياع بحثا عن محطة ما , فنسع خلالها نفس العبارات التي سمعناها في مقدمة المسرحية , ينزعج , ومن ثم يقلب بسرعة , ليستقر المؤشر , ونسمع اغنية لفيروز وحدن بيبقوا .. يبتسم بعض الشيء ومن ثم يكمل تدخين السيجارة بهدوء .

  " اظلام كامل " 
                    ستار 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق