تمثلات المسرح للأوبئة.. مآس كونية أبطالها غير مرئيين
عواد علي - العرب
كيف سيتعامل الكتاب المسرحيون مع وحش كورونا الكاسر، وكيف يتصوّرون الآثار والتحديات التي يخلّفها على مختلف الأصعدة؟
تمثّل فن المسرح، منذ فجره حتى الآن، الأوبئة التي تفتك بالبشر وتحصد أرواحهم في سياقات وأساليب مختلفة، مستوحيا إياها في البداية من الملاحم والمدونات السردية والتاريخية. ثم من واقع المجتمعات التي انتشرت فيها وعايشها كتّاب المسرحيات، سواء عبر تمثيل مباشر لما تفعله في الجموع الإنسانية على المستويات الحياتية والسلوكية، أو بالتركيز على تأثيرها في الروح ومنظومة القيم، أو كثيمة رمزية تحيل على قضايا سياسية واجتماعية.
ومن أبكر المسرحيات التي تمثّلت الأوبئة في التاريخ، مسرحية “أوديب ملكا” للشاعر المسرحي الإغريقي سوفوكليس، التي تحدّثت عن وباء الطاعون والتي كيّفها سوفوكليس عن ملحمتي الإلياذة والأوديسة لهوميروس.
وتدور أحداثها في مدينة “ثيبة”، التي أصبح أوديب ملكا عليها، بعد مقتل والده “لايوس”، مكافأة له على قتله الوحش “أبوالهول”، وزواجه من الملكة “جوكاستا”، من دون أن يعلم أنها أمه، ولا هي تعرف أنه ابنها، وإنجابهما ولدين وبنتين. وبسبب هذا الدنس تغضب الآلهة، وتنشر الطاعون في المدينة، فيقضي على حياة الكثيرين.
وفي سعي أوديب لتخليص الشعب من هذا الخطر يبعث خاله كريون لاستطلاع نبوءة معبد دلفي، فتأتيه النبوءة بأن المرض عقاب من الآلهة حتى يزول الدنس الذي يعيش وسطهم، ثم يستدعي أوديب العراف “تيريسياس” ليعرف منه اسم قاتل الملك “لايوس”، فيفاجئه هذا بأنه هو القاتل. لكن أوديب يعتقد بوجود مؤامرة بين العرّاف وكريون فيأمر بحبسهما. وبعد تحقيق لم يطل يكتشف أوديب صدق العرّاف، فيقتص من نفسه بفقء عينيه بيديه، ويغادر خارج البلاد منفيا، أما “جوكاستا” فتنتحر شنقا.
وقد تعاقب بعد سوفوكليس العديد من كتّاب المسرح على إعادة كتابة أسطورة أوديب مسرحيا، ابتداء من معاصره يوربيديس، ثم الروماني سينيكا، والفرنسي كورنيه في عصر النهضة. وأحصى أحد الباحثين الفرنسيين 29 مسرحية عن أوديب بأقلام كتّاب من فرنسا فقط، منهم كورنيه، فولتير، أندريه جيد، جان كوكتو، وهوغو فون هوفمانزتال.
وكان للكتّاب المسرحيين العرب نصيب، أيضا، في إعادة كتابة المسرحية، أولهم توفيق الحكيم في “الملك أوديب” عام 1949، تلاه علي أحمد باكثير في “مأساة أوديب”، التي أضفى عليها طابعا إسلاميا، وبعدا سياسيا يرمز إلى ما حلّ بالعرب من ذل إثر نكبة 1948. ثم فوزي فهمي في “عودة الغائب” (1968)، فعلي سالم في “كوميديا أوديب أو أنت الذي قتلت الوحش” (1970) باللهجة المصرية، فوليد إخلاصي في “أوديب مأساة عصرية” (1978).
ولم يغب وباء الطاعون عن شكسبير، ففي أحد مقاطع مسرحية “روميو وجولييت”، حيث تلجأ جولييت إلى راهب يعطيها جرعة من دواء يجعلها تبدو كالميتة لتستيقظ في المقبرة وتهرب إلى حبيبها. لكن الراهب يجري احتجازه في الحجر الصحي بسبب الاشتباه في إصابته بالطاعون مع كاهن آخر كان يُساعد المرضى، وهكذا يفشل في توصيل الرسالة إلى روميو الذي يعتقد بأن حبيبته ماتت، ويصل إلى المقبرة ويشرب السم ويموت، وحين تستيقظ جولييت وتجد روميو ميتا تستل خنجرا من غمده وتقتل نفسها.
وفي عام 1898 عُرضت على مسرح أنطوان في باريس مسرحية من فصل واحد اسمها “الوباء” للكاتب الفرنسي أوكتاف ميربو، وُصفت بأنها مهزلة مأساوية، ثم نُشرت عام 1904 مع مجموعة مسرحيات من فصل واحد في كتاب بعنوان “المهازل والأخلاق”، وهي تتناول موضوع وباء التيفوئيد الذي ينتشر في مدينة بحرية، ويضرب الثكنات والمناطق البائسة. وخلال اجتماع لمجلس المدينة مُخصّص لهذا الوباء يرفض أعضاؤه، من الأغلبية والمعارضة، جميع الاعتمادات المُخصّصة للصرف الصحي في المدينة، غير مبالين بالخطر الذي يشكله المرض.
لكن حين يتفشى ويصل إلى الأحياء الغنية، ويتسبّب في موت بورجوازي غير معروف يُغيّر عمدة المدينة رأيه، ويثني على فكرة الاعتمادات، فيُصوّت أعضاء المجلس بالإجماع على منح قروض لمواجهة الوباء.
وإذا كان برتولد بريخت قد تطرّق إلى انتشار وباء الطاعون في مسرحيته المعروفة “حياة غاليليه”، في زمن عالم الفلك الشهير الإيطالي غاليلو غاليليه، والتي كتب نسختها الأولى سنة 1938، فإن ألبير كامي تناوله على نحو أوسع في مسرحيته “حالة طوارئ” أو “حالة حصار”.
وتتشابه أحداث المسرحية نوعا ما مع روايته “الطاعون”، وهي تدور في ميناء قادش الأندلسي الذي لم يعد له وجود، حيث يتفشّى مرض الطاعون، ما يفرض حالة طوارئ لمحاصرته.
وعلى الرغم من أن قادش كان يحكمها حاكم أناني لا يفكر إلاّ في ملذّاته الخاصة، وينفر من أيّ تغيير يتطلب مجهودا، فقد كان أهلها يعيشون حياتهم العادية، منفتحين على العالم الخارجي.
لكن الوباء، المتمثل بهيئة رجُل يسيطر على المدينة ويقتل من يعارضه، يترك سكان المدينة يواجهون مصيرهم مع الطاعون، فيجرون ناحية البحر محاولين الهرب، إلاّ أن بعضهم يرفض الخضوع، ويعلن بطل المسرحية “دييجو” العصيان، وحين يرى الطاعون أن شخصا واحدا لم يخضع له يدرك أن نهايته باتت قريبة، وبذلك ينتصر “دييجو”، ضاربا مثلا عظيما للذين كانوا قد فقدوا كل أمل في تنفس عبير الحرية.
غير أنه كان لا بد أن يدفع ثمن انتصاره غاليا، فإما أن يعيش هو أو تعيش حبيبته “فيكتوريا”، فيفضل أن تعيش الحبيبة ويموت هو، مثله مثل جميع الأبطال المُتميّزين الذين يأتون إلى الأرض لضرب أمثلة البطولة والعظمة.
وتجسّد المسرحية فكرة البحث في شكل الخوف، وكيف يمكن أن ينهزم، ويترك النفس دون عناء كبير إذا ما كان الدافع الأكبر لذلك هو الإحساس العارم بضرورة التضحية وحتميتها. فلم يكن بطل المسرحية مجرد بطل إشكالي عادي، بل كان نموذجا لفئة من البشر لا تقبل الخضوع للخوف لأنها تجد نفسها أمام اختيار مصيري، فإما أن تكون كالآخرين وتسقط في براثن الطاعون، أو تنتفض وتواجهه، وتكسر الحاجز المرعب الذي يحيط به نفسه.
وشدّ وباء الطاعون اهتمام الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا، أيضا، فكتب عام 2014 مسرحية بعنوان “حكايات الطاعون”، استوحاها من كتاب “الديكاميرون”، للكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاتشيو، الذي يضمّ حكايات رمزية من القرن الرابع عشر. وهي العمل المسرحي التاسع في مسيرة الكاتب بعد ثمانية أعمال مسرحية.
وأسهم العديد من المسرحيين العرب في كتابة وإنتاج مسرحيات عن مختلف الأوبئة نذكر منها، تمثيلا لا حصرا، مسرحية “هكذا الدنيا” ليوسف وهبي عام 1934. ولعلها أبكر مسرحية عربية في هذا الشأن، فهي تسلّط الضوء على معاناة المصريين مع وباء الطاعون الذي هاجم قرى مصر، وقد أدّى فيها وهبي شخصية مفتش الصحة الذي يواجه صعوبات في تنبيه أهالي القرية إلى تفشي الوباء.
كذلك مسرحية “وباء” للكاتب العراقي عبدالكريم العامري، التي نشرها عام 2018، وتجري أحداثها في زقاق قديم بمدينة ابتليت بالعمى وتكاد تكون مهجورة. وللكاتب السعودي إبراهيم حامد الحارثي مسرحية بعنوان “وباء” أيضا.
وكانت آخر مسرحيات محمد صبحي “خيبتنا” تتناول فكرة حرب الفايروسات من خلال جهة شريرة مجهولة أنتجت فايروسا ينتشر ويدمر العالم ولا يوجد له علاج. والمسرحية تدور في قالب كوميدي غنائي استعراضي يُؤدّي فيها صبحي شخصية الدكتور “يائس” عالم الجينات. وثمة مسرحية “العمى” التي كيّفها الدراماتورج المصري أحمد عصام عن رواية لجوزيه ساراماغو بالعنوان نفسه، وأخرجها السعيد منسي، وعرضها مؤخرا المركز الثقافي بطنطا. وتدور أحداث المسرحية في بلد ما أصيب جماعة من الناس فيه بوباء غريب سُمّي بـ”العمى اﻷبيض”، وجرى حجزهم في حجر صحي حتى لا ينتقل المرض، ويسُود الصراع بين أفراد الجماعة، وينتهك بعضم آدمية بعضهم الآخر، ما يعبّر عن فقدان الإنسانية لمعناها وقيمها.
ولا شك في أن ثمة كتّابا من شتى بقاع العالم يفكرون أو ينهمكون الآن في كتابة مسرحيات تتمثل وباء كورونا المُستجد، الذي يضرب البشر، ويشيع الهلع في كل مكان، ويعزل دولا ومدنا بكاملها. فكيف يتعاملون مع هذا الوحش الكاسر، وكيف يتصوّرون الآثار والتحديات التي يخلّفها على مختلف الأصعدة، خاصة أن “العالم لن يعود كما كان”، بتعبير المفكر الفرنسي جاك أتالي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق