كيف صور شكسبير جنون الطغيان / رياض عصمت
إنه لتصوير مدهش لشخصية الطاغية فعلا ما قام به وليم شكسبير قبل أربعة قرون ونيف في مسرحيته "ماكبث"، ليس لأن الطغاة لم يكونوا موجودين في غابر الزمان، بل لأنه رسم تفاصيل دقيقة لنفسية الطاغية في كل زمان ومكان، بل لهواجسه المؤرقة التي حرمته من النوم وجعلته يشارف حد الجنون، كما تنبأ بنهايات الطغاة الدموية عقابا لهم عما اقترفوه من جرائم.
مسرحية "ماكبث" هي أكثر مسرحيات وليم شكسبير تصويرا لمدى مسؤولية الطاغية عن أفعاله، وبالتالي استحقاقه للقصاص. إنها أقصر تراجيديات شكسبير الأربع الكبرى وآخرها بعد "هاملت" و"الملك لير" و"عطيل".
في الحقيقة، لم يكن أيا من أبطال الترجيديات الثلاث السابقة شريرا مثل ماكبث، بل كان بطلا تراجيديا وقع في زلة أودت به إلى نهاية مأساوية. لذا، تبدو مسرحية "ماكبث" ناشزة عن معظم تراجيديات شكسبير، ولعلها محاولة إعادة صياغة لمسرحيته التاريخية "ريتشارد الثالث"، فكلاهما تصور شخصية تصل إلى السلطة من خلال اغتيال دموي للحاكم الشرعي، وبعدها لا يتورع الطاغية الذي خان الولاء عن انتهاك كل الأعراف الأخلاقية والإنسانية في سبيل الحفاظ على عرشه.
تكاد مسرحية "ماكبث" أن تكون دراسة سريرية عن الشر في النفس البشرية
تتميز "ماكبث" عن سابقتها "ريتشارد الثالث" بأن موضوعها السياسي يحفل بخيال خصب يصور لنا رمزيا طموحات العقل الباطن لشخصية الطاغية وزوجته المحوريين، ذلك لأنه يوجد دافعان قويان يحرضان ماكبث على ارتكاب أولى الجرائم باغتيال ضيفه الملك الشرعي دانكان، أولهما الساحرات الثلاث اللواتي يتنبأن له بنيل التاج، وثانيهما زوجته الليدي ماكبث التي تحرضه على قتل الملك الشرعي غيلة واغتصاب عرشه. سرعان ما يدفع خوف ماكبث من تنبؤ الساحرات لصديقه بانكو بأن ذريته سترث العرش إلى تجنيد مرتزقة لاغتياله وابنه، خاصة أنه وزوجته الليدي ماكبث عقيمان لا ينجبان.
تتالى تصفية ماكبث لخصومه، لكن أشباح القتلى تطارده وتؤرق نومه ونوم الليدي ماكبث شريكته في الجرم. واضح أن العنصر التراجيدي هنا أكثر بكثير من زلة بطل، إذ أنه سقوط أخلاقي مريع لطاغية ارتكب دون وازع ضمير جرائم ضد الإنسانية، موقنا بأنه خالد ولا أحد يستطيع أن يمسه بأذى.
قدم "مسرح شيكاغو الشكسبيري"Chicago Shakespeare Theater مسرحية "ماكبث" بإعداد وإخراج جديدين حافلين بالمشهدية البصرية المبهرة والخدع السحرية الممتعة. أخرج العرض الفنانان اللامعان آرون بوسنر وتيلر Aaron Posner & Teller اللذين سبق لهما أن قدما معا أيضا لصالح الفرقة ذاتها مسرحية شكسبير "العاصفة" في عرض نال جائزة "جيف" المسرحية.
تميز العرض بلمسات السحر المدهشة التي صممها جوني تومسون، فالعرض يفتتح بالليدي ماكبث جاثية في وسط المسرح وهي تمارس طقس دفن طفلها الميت في تابوت صغير، وإذا بها تختفي بخدعة بارعة ليحل محلها زوجها ماكبث. تتالى الحيل المبتكرة، فإحدى الساحرات الثلاث تتلاشى أمام أعيننا على المسرح مخلفة عباءة فارغة، ويتوالى ظهور شبح بانكو مضرجا بدمه ثم اختفائه أمام عيني ماكبث في مشهد المأدبة. أما في مشهد جنون الليدي ماكبث، نراها تضمخ يديها وثوبها الأبيض بالدم أمام أعيننا. في ختام المسرحية، بعد أن يقطع رأس ماكبث بسيف ماكدوف، تنفتح العينان في الرأس المقطوعة فجأة، ويفغر الفم ليصدر فحيحا مخيفا.
يقارب إعداد وإخراج آرون بوسنر وتيلر مسرحية "ماكبث" بشكل جديد، حافل بالجماليات المبهرة. يتكامل ذلك التصور بتضافر الإضاءة الموحية مع الأزياء المتقنة، والمكياج البارع مع المعارك الحيوية، والديكور الذي صممه دانيال كونواي مكونا من ثلاثة أبواب تفتح وتغلق بصورة سحرية وبجانبها سلم معدني ملتف وطابق شديد الارتفاع كثيرا ما تطل منه الساحرات الثلاث، كما يعزف عليه بشكل حي الفنان الموسيقي المبدع راني معالي على أدوات موسيقية غريبة تصدر ما يتجاوز حدود الموسيقى المألوفة بحيث لعبت المؤثرات دورا أساسيا في تقوية التأثير الدرامي للأداء.
من ناحية أخرى، جعل المخرجان المعارك وسواها تجمد أحيانا لنرى بعض الشخصيات فقط تتكلم، وتجنبا تظاهر الليدي ماكبث بالإغماء كي تنقذ زوجها من نوبة تخيله لشبح بانكو القتيل في المأدبة. أما الإضافة الإخراجية الفريدة، فجاءت في جعلهما شخصية البواب (ماثيو فلويد ميلر) تتجول بين صفوف المتفرجين ممازحة في المشهد الكوميدي الذي يلي اغتيال الملك، والذي ـ وإن أضحك ـ فإنه يزيد من التوتر والترقب. لكن الأمر لم يقتصر عند هذا الحد، إذ جعل المخرجان ماكبث نفسه يتجول بين أروقة الصالة، ويخاطب بعض المتفرجين مباشرة، مشابها في ذلك بعض ما يقوم به ريتشارد الثالث في المسرحية التاريخية التي تحمل اسمه.
يقتل ماكبث أول مرة بدافع ما زينته له الساحرات الثلاث وزوجته لكنه سرعان ما يدمن على القتل بسبب خوفه المزمن
تألقت في العرض بشكل خاص الممثلة شاون كروس بتجسيدها البارع لشخصية الليدي ماكبث بشكل مزج الإيحاء الجنسي وإحباط العقم، وجعلهما يتضافران معا ليشكلا شهوة إلى السلطة، وكان أداؤها لدورها النفسي الصعب مرهفا وشديد الإقناع. من ناحية أخرى، كان توزيع دور ماكدوف وعائلته لممثلين ملونين إضافة مميزة، زادها قوة الحضور الحركي النابض بالحيوية لممثل شخصية ماكدوف (تيموثي د. ستيكني) أما دور ماكبث المحوري الهام، فأداه (إيان ميريل بيكس) بحضور وحرفية ممثل مقتدر دون شك، لكن أداءه الخارجي أثر على صدقه الداخلي، إذ قارب الشخصية أحيانا بشيء من الخفة، كما زاد الأمر طابع الأسلبة المصطنعة الذي غلَف المعارك وجعلها أشبه بحركات راقصة.
جدير بالذكر أن مسرحية "ماكبث" تعتبر مسرحية تجلب الشؤم لصانعيها. لذا، يقول المخرج العالمي الشهير بيتر بروك إنه لن يفكر يوما بإخراجها بسبب تطيره منها. لكن المخرج السينمائي العظيم أكيرا كوروساوا لم يتوان عن اقتباسها في فيلم "عرش الدم" (1957) مضفيا على قصة الطاغية طابعا يابانيا أصيلا، وجاعلا مصرعه ليس عبر مبارزة فردية انتقامية، وإنما عقابا جماعيا من جنوده الذين يمطرونه بوابل من السهام لتعريضه لهم للموت في حرب عبثية إرضاء لطموحاته الأنانية إلى السلطة.
في الواقع، هناك ستة اقتباسات سينمائية مختلفة لمسرحية شكسبير "ماكبث"، تراوحت بين إخراج أورسون ويلز ورومان بولانسكي وروبرت غولد، وتألق في أدائها النجمان مايكل فاسبندر وماريون كوتيار في إخراج سينمائي آخر. الرائع في مسرحية "ماكبث" حقا هو أن شكسبير يحمل بطله الشرير فيها مسؤولية أعماله، ويبرهن أن نبوءة الساحرات ليست إلا وهما.
تقول الساحرات أمام ماكبث وبانكو إن العرش سيكون من نصيب ذرية الأخير، فيقلق هذا ماكبث ويدفعه لمحاولة اغتيال صديقه مع ابنه الصغير، لكن الولد يلوذ بالفرار، ولا نسمع أنه نافس على العرش أو اعتلاه. كما تتنبأ الساحرات لماكبث بأنه لن يهزم إلا عندما تزحف غابة "برنام" على قلعته، فإذا برسول يبلغه بزحف الغابة، غير مدرك أن جنود الجيش المهاجم قطعوا أغصان الأشجار وموهوا بها أنفسهم. أما نبوءة الساحرات الثالثة الخائبة فتكمن في قولهن لماكبث إنه لا يمكن أن يقتل من قبل رجل ولد من رحم امرأة، فإذا بمكدوف يعلن له خلال المبارزة الختامية إنه ولد بعملية قيصرية، لتتهاوى ركبتا ماكبث فزعا ويرمي سيفه مدركا مصيره الحتمي ومستسلما للطعنة النجلاء.
تكاد مسرحية "ماكبث" أن تكون دراسة سريرية عن الشر في النفس البشرية، وعما يمكن للطموح الجشع للسلطة أن يولده في نفس الإنسان، بحيث يحوله من محارب بطل إلى طاغية مستبد. إن ماكبث يقتل أول مرة بدافع ما زينته له الساحرات الثلاث وزوجته الليدي ماكبث، لكنه سرعان ما يدمن على القتل بسبب خوفه المزمن. إن ماكبث الطاغية يقتل ليس لأنه قوي، بل لأنه ضعيف، ويوغل في القتل ليس لأنه شجاع، بل لأنه جبان. إنه يوظف القتلة المأجورين لخدمة أغراضه كما فعل ريتشارد الثالث تاريخيا من قبله، وهو يلقى الجزاء العادل لشره الذي يتجاوز كل الحدود. تلك هي نهاية كل طاغية غدار لا يحفظ عهدا، ولا يقدر صداقة، ولا يتورع عن إزهاق أرواح النساء والأطفال الأبرياء انتقاما من خصومه، فإذا به يدفع الثمن غاليا عبر جنون زوجته وانتحارها، ثم عبر مصرعه هو بعد أن تبددت أساطير الوهم وأزفت ساعة الحقيقة.
---------------------
المصدر : الحرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق