عبد الكريم برشيد : الإحتفالية هي رؤية للعالم، رؤية احتفالية عيدية، فيها ألوان، فيها أشكال، فيها أحجام، فيها أضداد متعددة، موت وحياة، وفرح وحزن، ونور وظلام
حاورته : *سمية زباش
عبد الكريم برشيد كاتب مسرحي عربي من المغرب. ولد سنة 1943 شرق المغرب بمدينة أبركان. درس بمدينة فاس. درّس في الثانوي بمدينة الخميسات، ثم التحق بمدينة الدار البيضاء. اشتغل مندوبا جهويا لوزارة الثقافة بمدينة مراكش. ساهم في تأسيس المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط. وكان مديرا لمهرجان ربيع المسرح العربي لدورات. ثم اشتغل مندوبا لوزارة الثقافة بمدينة الخميسات. وكانت له مساهمات في مجال الصحافة الثقافية من خلال مجلة "الثقافة الجديدة" التي تأسست سنة 1975، ومجلة "التأسيس.. دفاتر مسرحية". اليوم يكتب ركنا في جريدة "رسالة الأمة" لثلاث مرات في الأسبوع. يشرف على ملحق ثقافي بالجريدة نفسها. ومسرحياته تدرّس في الثانوي، وقدمت في أكثر الأقطار العربية.
اغتنمت فرصة تواجده بالجزائر العاصمة بمناسبة انعقاد الدورة الرابعة للمهرجان الوطني للمسرح المحترف(24/05/07- 06/06/07) لأجري معه هذا الحوار.
سؤال: الاحتفالية حركة مسرحية ظهرت في المغرب منذ السبعينات ولازالت تواصل طريقها في سبيل تأسيس مسرح عربي الهوية. ما هي المنطلقات الفكرية والجمالية للمسرح الاحتفالي؟
جواب: المنطلقات هي - أساسا- منطلقات فكرية، ولأنها احتفالية فهي رؤية للعالم، رؤية احتفالية عيدية، فيها ألوان، فيها أشكال، فيها أحجام، فيها أضداد متعددة، موت وحياة، وفرح وحزن، ونور وظلام. وبالتالي فإن هذه الرؤية الاحتفالية للعالم هي التي أتبناها شخصيا، ويقاسمني القناعة مجموعة من أصدقائي الذين أسّسنا جميعا جماعة المسرح الاحتفالي. وهذا المسرح يحاول أن يكون بعيدا عن العرض، وأن يكون قريبا من الاحتفال؛ فالعرض هو أن تعرض شيئا يُتفرج عليه. أما الاحتفال فهو شيء نشارك فيه، نقتسمه مع الآخرين. وبالتالي فإن هذا المسرح الذي نقترحه نريده قائما على المشاركة الوجدانية، قائما على التفاعل، قائما على إحياء حفل مسرحي الآن هنا، وألاّ نحكي للناس عن زمن مضى، وألاّ نفصل المسرح عن الصالة، وألاّ نفصل الزمنين ولا المكانين ولا القضية المطروحة، وأن نجعلها قضية الآخرين وأننا فقط نتفرج عليها.
سؤال: الاحتفالية - إذن وحسب ما ذكرتم - تؤكد على مسألة التواصل مع الجمهور المتفرج كشريك فعّال في العرض المسرحي أو "الاحتفال" كما يحلو للكاتب عبد الكريم برشيد أن يسميه. والحديث عن التواصل في المسرح، يجرنا للحديث عن الجمهور وعلاقته بالمسرح. فهناك مشكلة عزوف أو غياب المتفرج الذي يفترض أن تكون هذه العروض المسرحية موجهة إليه. فالمتابع لعرض الأمس والعروض التي سبقته يلاحظ أن الجمهور كان مقتصرا على بعض رجالات المسرح والمثقفين وبعض طلبة المعهد الوطني للفنون المسرحية وبعض نجوم التلفزيون والصحافيين.. باختصار إن جمهور المسرح جمهور نخبوي. فكيف تفسر هذه الظاهرة؟
جواب: من المعروف أن كل فن، وكل رياضة، وكل لعبة لها جمهورها. والمفروض في هذا الجمهور أن تكون له ثقافة، أي أن جمهور كرة القدم له ثقافة كروية، يعرف تقاليدها، وتاريخها، والأسماء اللامعة فيها
سؤال: عفوا. هل هذا يعني أن جمهور المسرح العربي ليست له ثقافة مسرحية؟
جواب: لا. هو جمهور نخبوي، كما قلت، والأساس في المسرح هو نخبوي ومن أقدم العصور. حتى في فرنسا اليوم من يشاهد موليير وكورناي وراسين؟ والواقع أن الجمهور هو نخبوي قياسا بالسينما. هل يمكن للمسرح أن يدخل في تنافس مع القنوات الفضائية؟ لا يمكن، لأن المسرحية، في النهاية، تدور في مسرح مغلق يحضره مئات، على أقصى الحدود ألفا أو ألفين من المتفرجين. ولكن مع ذلك فإن المسرح يراهن على أن يكون جلسة حميمية قائمة على التشاور، على المشاركة. وبالتالي لا يمكن أن يدخل في منافسة مع السينما، لأن السينما أوسع. ولا يمكن أن يدخل في منافسة مع التلفزيون، والأقمار الصناعية أيضا. ولذلك فالأساسي أن يحافظ على خصوصيته، أن يبقى تلك الجلسة الحميمية القائمة على هذا البوح.
سؤال: ولكن إذا كان الجمهور الذي تريده لمسرحك أو بعبارة أدق الذي تريد أن تخاطبه في مسرحك غائبا، فمن أين لهذه الحميمية أن تنشأ أو تكون؟
جواب: في فرنسا، مثلا، عندما جاء كتاب العبث أو كتاب اللامعقول كانت لهم مسارح صغيرة، مسرح الجيب le théâtre de poche، المسارح التجريبية... ولحد الآن تبقى المسارح صغيرة باعتبار أن هناك جماهير، وليس جمهورا واحدا. فالمسرح التجريبي له جمهوره، والمسرح التأصيلي له جمهوره، ومسرح البولفار Le théâtre du boulevard له جمهوره، والمسرح التجاري له جمهوره... حتى في مجال البضاعات، فالسوق سوق واحد، يعرض كل شيء، ولكن كل بضاعة لها مقتنوها. وبالتالي فالأساسي أن يكون المسرحي صادقا مع نفسه، مع مجتمعه، مع فنه، وأن يقدم تجربة ناضجة صادقة، وأن يتقن عمله، وبعد ذلك يترك الكلمة للجمهور. لذلك أعتقد أن الجمهور عندما يجد فنا صادقا يعبر عن مجتمعه، ويطرح الأسئلة الحقيقية التي هي أسئلة اللحظة التاريخية لابد أن يكون معه.
سؤال: على ذكر المسرح التأصيلي، فمسألة تأصيل المسرح العربي أسالت الكثير من الحبر واشتغل بها كل المسرحيين العرب تقريبا، ومنذ ستينات القرن الماضي. واليوم نجد أن بعض التجارب التأصيلية صمتت نهائيا، لأنها لم تستطع حتى أن تتكرر، وبعضها مازال متواصلا بشكل أو بآخر... والاحتفالية واحدة من بين هذه التجارب، فما هو موقفها من مسألة التأصيل اليوم ؟
جواب: أنا شخصيا أرى بأن الحركة التأصيلية ازدهرت مع المد القومي العربي، ازدهرت مع حزب البعث في كل من سوريا والعراق، وازدهرت مع الناصرية في مصر. كانت هناك أحزاب قومية تؤكد على الهوية، على النحن في مقابلة الآخر. والتأصيلية حركة حاولت أن تبحث في الأصول. من نحن؟ نحن عرب، نحن كذا... نحن في مواجهة الآخر، في حين أن المسرح التجريبي الآن على المستوى العربي، هو مسرح مستغرب، أي أنه يأخذ تجارب ومسرحيات كاملة، يقتبسها ويقدمها. لذلك فأنا لست من أنصار التأصيل، أنا من أنصار التأسيس.
سؤال: قبل أن نواصل بشأن التأسيس، أود أن أذكّرك بما قلته عن مسألة التأصيل في ندوة التجريب التي عقدها المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة خلال سبتمبر1994. لقد قلت: "قضية التأصيل كانت في الستينات وانتهت بلا رجعة، وأصبح البحث عن الأشكال المسرحية، وعن قالبنا المسرحي في ذمة التاريخ". هل هذا يعني بأن المسرح العربي اليوم قد حقق هويته وأصالته المنشودة؟
جواب: نعم. لماذا ؟ لأن المسرح العربي أصيل.
سؤال: ماذا تقصد، هنا، بكلمة "أصيل" ؟ هل تعني أن المسرح الموجود اليوم في الوطن العربي هو مسرح عربي وليس مسرحا ناطقا باللغة العربية؟
جواب: يعني أن المسرح الموجود اليوم مسرح عربي حقيقي. فـ "جحا" ليس فرنسيا.
سؤال: عفوا جحا انتهى
جواب: ولكن عندما نجده في هذه المسرحية أو تلك ألا ينطق العربية؟ ألا يطرح القضايا العربية؟ ألا يرجع إلى المواد الخام من تراث، وحكي، وألف ليلة وليلة، وقرآن؟... كل ذلك، وأمام جمهور عربي، وممثلين عرب، وماذا يبقى بعد ذلك؟
سؤال: تحدثتم الآن عن الحكاية والراوي وألف ليلة وليلة وهي تشكل مع غيرها من الفنون والأشكال الشعبية التي عرفتها الثقافة العربية، المنطلقات التي اعتمد عليها دعاة التأصيل لبناء مسرح عربي. ألا ترى أن الاهتمام بهذه الفنون التراثية جاء بعد أن نبّه المسرحيون الغربيون، وفي إطار حركة التجريب المعاصرة، إلى أهمية الفنون الشعبية الشرقية، وبخاصة اليابانية والصينية؟
جواب: الأساسي أن نعرف من نحن، فـ"سانغور" و"إمي سيزير"، مثلا، يؤكدان على الزنوجية la neigretude ويعتزان بها، و"وول سوينكا" يعتز بالنمرية، فالنمر ليس أسدا، وليس قطا. والآن هناك مسرح فرنسي ومسرح إنجليزي وهناك مسرح إيطالي... فلماذا لا يكون مسرحنا عربيا؟ هذا شيء طبيعي، لأن من ينجز هذا المسرح يغرف من ثقافة، ومن حضارة، ومن دين، ومن جغرافية، ومن قضايا، ومن تراث شامل، ومن وجدان روحي، ومن مخيال عام. وبالتالي لا يمكن أن يكون إلا مشابها لهذه اللحظة. ولذلك نتخيل في كثير من الأحيان أننا إذا ارتدينا البيريه béret سنكون فرنسيين، أبدا.
سؤال: أنت لست، إذن، من دعاة القطيعة مع المسرح الغربي؟
جواب: لا أبدا، لأنك حتى عندما تضع أشياء الآخر، فإنك تضعها من منطلق ذاتك. فالياباني، مثلا، عندما يتعامل مع الفنون الغربية يتعامل معها كياباني، انطلاقا من مرجعياته الحضارية والدينية. ولذلك لا أحد يمكنه أن يكون غيره. يمكن أن نقلد، والتقليد يبقى على مستوى السطح، وعلى الشكل، ولكن ما نعيشه نحن الآن هنا، لا يمكن أن يعبر عنه أحد غيرنا. ولذلك فإن الأساس في الفن هو أن يكون إبداعا، والإبداع هو انطلاق من الذات المبدعة. أما المحاكاة والتقليد والإتباع... كلها أشياء لا أساس لها من الإبداع. لهذا يمكن أن أقول بأن مسرحنا الآن هو عربي. وبالتالي لا مجال لأن نظل أسيري تلك الرؤية الدونية لذاتنا، وأن نظل حبيسي عقدة الخواجة، وأن نؤمن بـ "l’exportation أو بما هو made in وأن نحتقر الصناعات الوطنية، وأن نعجب فقط بالآخر. فالآخر لم يصنعه الله من طينة مغايرة. فقط هناك ظروف، ولنا عباقرة يشتغلون في كل دول العالم وفي الغرب، فقط ينبغي أن يكون لنا هذا الإيمان بذاتنا، وبأن مجال الإبداع ليس حكرا على أية جهة، أو على أية أمة، أو على أي شعب من الشعوب.
سؤال: الاحتفالية لا تشتغل اليوم، إذن، على مسألة التأصيل، وإنما تبحث عن مسرح يهدف إلى تحقيق نوع من التواصل والحميمية بين المتفرج والممثل، على اعتبار أن المسرح، في نظرك، احتفال يشارك فيه هذين الطرفين. بعد هذه الرحلة التي قضتها الاحتفالية في محاولة التنظير لمسرح عربي، هل استطاعت أن تحقق بعضا مما تحلم به؟
جواب: أعود فقط إلى قضية التأصيل، وأقول بأننا تجاوزنا هذه القضية، لأننا نعتبر بأن توضيح الواضحات من المفضحات، وأنه من البلادة أن نناقش البديهيات. فهل نناقش لماذا السماء سماء؟ ولماذا الماء ماء؟... الإنسان الجزائري لم يخرج من فقاعات، وله تاريخ عريق يمتد إلى ما قبل الإسلام والأمازيغ، كما تفاعل مع حضارات البحر المتوسط إلى غير ذلك. ولذلك سيكون من إضاعة الوقت أننا نناقش هذه البديهيات التي ينبغي أن نتجاوزها. كان ذلك في مجال شعوب مستعمرة، في مجال النظر إلى الآخر نظرة حضارة. الآن لدينا رصيد في مجال السينما، وفي مجال المسرح، وفي مجال التشكيل. وهذا يعطينا نوعا من الثقة، ويجعلنا نتوجه بأسلحتنا إلى المستقبل عوض أن نبقى نحفر ونلوك أسئلة الماضي، ذلك ماضي انتهى برجاله وبناسه، كانوا مخلصين، وأوفياء للحظة التاريخية "الله يكثّر خيرهم"، أعطوا ما أعطوه، ولكن الآن، ينبغي على الجيل الجديد أن تكون له أسئلته الأخرى. ينبغي أن يعرف بأن عليه أن يؤسس مسرحا انطلاقا من كل التراكمات التي أبدعها المسرحيون ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر، وانطلاقا من الأدب العربي، من الشعر العربي، من المقامات ومن الحكاية، من الأغاني، من الأزياء الشعبية... تراثنا كله ينبغي أن نأخذه بعين الاعتبار لصناعة مسرح عربي جديد. ولذلك أعود إلى الاحتفالية كنظرية، لا أقول بأنها وصلت وحققت أهدافها، لأن أهدافها هي أهداف مفتوحة مثل الأفق كلما اقتربنا منه ازداد ابتعادا. ومن حق المبدع، بل ومن الواجب عليه أن يحلم، ليس هناك إبداع بدون أحلام. والأحلام الكبيرة هي التي تصنع الحضارات الكبرى. ألم يكن عباس بن فرناس الذي حاول الطيران حالما؟ وكل المبدعين الذين غيّروا العالم كانوا في رأي مجتمعاتهم حالمين ومجانين. وبالتالي لا ينبغي أن نبقى، باسم الواقعية والبراغماتية، منحصرين في اللحظة وأن نصوغ أحلاما صغيرة جدا، وأن نظل في حدودها. ينبغي أن نفكر كأمة، وبالتالي عندما أفكر، أفكر كإنسان عربي مسلم من مهامي أن أقرأ لكل المبدعين العرب، والمسلمين أيضا من عمر الخيام إلى ابن الرومي إلى الحكواتيين، إلى الفنانين الشعبيين إلى آخر الفلاسفة العرب الذين نعرفهم.
سؤال: لقد كانت اللغة وما تزال تطرح مشكلة بالنسبة للمسرحيين العرب في مجتمعاتنا التي تعاني من ازدواجية بين اللغة الشفهية واللغة المكتوبة. ولحل هذه المعضلة لجأ بعض الكتاب المسرحيين إلى استخدام العامية باعتبارها أكثر قدرة، في نظرهم، على التعبير عن الحياة اليومية، بينما ارتأى البعض الآخر أن الفصحى هي التي يمكنها أن ترقى بالنص المسرحي إلى مستوى الأدب. كيف يتعامل الكاتب عبد الكريم برشيد مع اللغة المسرحية؟
جواب: أعتقد أن اللغة مطروحة في المسرح العربي بشكل مغلوط، لأن الأساس هو اللغة المسرحية؛ واللغة المسرحية هي لغة الأزياء، هي لغة الحركة، هي لغة الرقص، هي لغة الإشارات، هي لغة الإيماء
سؤال: ولغة الكلمة في كل هذا؟ أم هي عنصر من بين كل هذه العناصر؟
جواب: لغة الكلمة هي عنصر من العناصر. فعندما نكتب نصا، ينبغي أن نترك مساحة للتعبير بالجسد، التعبير بالحركة، وبالإيماءة، وبالزي. وبالتالي سنجد في كثير من المهرجانات العالمية مسرحيات تقدم بكل اللغات، ومع ذلك، نفهمها، لأن ذلك المبدع يأخذ بعين الاعتبار أن المسرح، كما أسميه دائما: "مأدبة الحواس"، يخاطب السمع والبصر والذوق، وكل الحواس، حتى الحاسة السادسة والسابعة أو ما شاء الله من الحواس إذا كان هناك حواس أخرى. أنا أكتب بالعربية الفصحى
سؤال: في المسرحيات التراثية؟
جواب: في المسرحيات التراثية، ولكن لها علاقة باليومي، كمسرحية "امرؤ القيس في باريز". وكتبت بالعامية، ولكن ليست أية عامية، مسرحيات مثل: "الزاوية"، و"الحومات"، و"عرس الأطلس"، و"قرية اسمها الدنيا". وآخر مسرحياتي "يا ليل يا عين"، وهي موال يبدأ بهذه اللازمة، فيها شخصيات تتحدث بالفصحى. وهناك شخصيات تتحدث بالعامية، وتتواصل بالحوار شخصيات مثل المخبرين، وشخصية عبد الله المجذوب الصوفي الذي يتحدث بالعربية. لذلك فإن مسرحياتي التي كتبتها بالعربية قدمت في مختلف الأقطار العربية، ولكنها ليست عربية متقعّرة. فمسرحية "الحكواتي الأخير" قدمت، مثلا، بالجزائر بعربية يفهمها الجميع، لأن العربية، في النهاية، هي العامية ولكنها خاضعة للإعراب، حتى الجاحظ عندما كان يكتب عن البخلاء، ويكتب عن الحياة العامة لم يكن يكتب بلغة "البيان والتبيين"، ولكنه كان يكتب بلغة ناس، لغة قريبة من السوق، قريبة من الشعب. وهذه هي لغة المسرح. حتى عندما دخلت الصحافة أوجدت لغة جديدة، ليست هي لغة الكتب القديمة، وليست لغة الشعراء، ولكنها لغة المطبعة ولغة الناس. كذلك هو الشأن بالنسبة للمسرح، فقد أوجد لغة عربية فيها تعابير شعبية، عامية قريبة من الناس، من اليومي. ولهذا نرى أنه من الممكن أن نكتب بعربية فصحى، لأن ذلك يضمن لهذه النصوص أن ترحل إلى العالم العربي. وبعد ذلك من حق أي مخرج أن يجزئرها أو أن يعرّقها أو أن يمغربها... وقد رأينا بالأمس كيف أصبحت مسرحية "محمود تيمور" جزائرية، أو كيف أصبحت مسرحية "سعد الله ونوس" جزائرية. وذلك لأنها مكتوبة بلغة مفهومة.
سؤال: ولكن تبقى اللهجات أو العاميات العربية، مع ذلك، تمثل بدورها إشكالا فيما بين الأقطار العربية نفسها، فالمشرقي لا يفهم لغة المغربي، والعكس صحيح.
جواب: هو ليس مرغما أن يفهمها، لأن في المسرح ليس ضروريا أن نفهم، لأن المسرحي لا يقدم درسا، فالمسرحية فيها جرس، فيها خيال، فيها صور. لذلك فإن الفن ليس مطلوبا فيه الفهم المدرسي. إقرؤوا بعيونكم، إقرؤوا بقلوبكم، إفهموا بوجدانكم. أنا شخصيا عندما أريد أن أتابع أية مسرحية في أية لغة من اللغات ينبغي أن أبذل جهدا معينا، لكن أية لهجة إذا تابعناها من أول حوار يمكن أن نعرف مفاتيحها. ولذلك فإن اللهجات لا تختلف من شعب إلى شعب، ولكنها تختلف حتى داخل الأوطان. فهل لهجة وهران هي لهجة العاصمة أو عنابة أو قسنطينة؟ في بعض الأحيان هناك لهجات الأحياء، أي أن الأحياء لها لهجاتها، والأعمار لها لغات خاصة، فالابن والأب ليس لهما نفس اللغة. وبالتالي كيف نريد للمسرح الذي يعبر عن القيم الإنسانية والمكتوبة أن يتبنى لغات مقزّمة بهذا الشكل؟
سؤال: تعقد سنويا، تقريبا، المهرجانات والتجمعات المسرحية في مختلف الأقطار العربية، وتتبارى الفرق المسرحية لتقديم عروضها وتنال الجوائز، وتقدم التوصيات، وتطوى الملفات، وتعود في الأعوام المقبلة لتبدأ من جديد. ما رأيك في هذه المهرجانات؟ وما هي الإضافات التي يمكن أن تقدمها للمسرح والمسرحيين العرب؟
جواب: من المعروف أن هذه التجمعات الإبداعية لم تأت من فراغ، وعندما نرجع إلى المسرح اليوناني القديم سنجد "الأولمبياد"، فقد كانت هناك مباريات ومهرجانات. والمسرحيات التي نعرف لكل من سوفوكل وأسخيلوس ويوربيدس كانت هي المسرحيات الفائزة في مباريات، تماما كما في الرياضة، وفي الجري، وفي القفز. وفي الشعر العربي، ألم تكن "المعلقات" نتيجة التباري في سوق عكاظ التي كانت تضرب فيه خيمة للتباري. والآن أليست السينما العالمية مزدهرة صناعتها بهاته المهرجانات؟
سؤال: ألا ترى أنه في كل مرة أتعرض فيها إلى مسألة، تلجأ إلى نماذج من المسرح الغربي لتؤكد فكرتك. وفي هذا ما يشير، بل يؤكد أن الآخر كان وما يزال يمثل نموذجا بالنسبة إلينا نقيس عليه كل إبداعاتنا وفنوننا؟
جواب: لا. الجديد في التأسيس الاحتفالي هو أنه لا ينحصر في إطار قومي ضيق، وإنما يأخذ المسرح كظاهرة إنسانية كونية عامة. والحضارة كونية، وما نسميه بالحضارة الغربية ليست غربية، هي إفراز حضارات مختلفة، وبالتالي فهي حضارتنا. حقا القطار واحد، ولكن هم الذين يقودون القاطرة، وفي مرحلة ما قادها آخرون. ولكن في إطار هذا القطار السائر الذي يقوده الغرب لدينا les wagons (القاطرات)الخاصة بنا، ولدينا des compartiments (مقاصير) نفعل فيها ما نشاء، ولنا فيها حريتنا؛ نغني فيها، نبدع فيها رقصنا وفننا.
*جامعة الجزائر
قسم اللغة العربية وآدابها
كلية الآداب واللغات الأجنبية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق